كانت الشعوب المضطهدة تستقبل المسلمين بترحيب شديد، واستبشار في المستقبل، بل يدعون اهل الاسلام الى الدخول الى بلادهم دون حرب او مقاومة لهم، ويفتحون لهم الابواب على الرحب والسعة كما فعل (المقوقس) عظيم القبط في مصر، وكما فعلت كثير من الشعوب، والكثير من حكام الأقاليم كي ينقذوا انفسهم وبلادهم من براثن التخلف، والعبودية، والحكم الغاشم وحكم الدخلاء الغاصبين. ان العرب لم يكونوا في اي وقت من الاوقات غاصبين او مستعمرين، او طامعين في الهيمنة او السيطرة ولم تحدهم البتة رغبة في: الملك او المادة او الجاه او السلطان، كان الأجداد من العرب على ايمان تام بدعوة الاسلام، القائمة في الأساس على الحب والتسامح والإخاء، والتي لبها العدل والمساواة، يحاولون ما وسعهم الجهد ازالة المعيقات التي كانت تقف حجر عثرة امام الضعفاء لتمنعهم من الاستمتاع بالحياة الحقة، التي اساسها الامن والامان، والانصات لكلمة الهدى والرشاد. لذلك لم يكن المسلمون الاولون، وهم اكبر حجة في فهم معنى الاسلام، يعدون جيشا للسيطرة، او للاستعمار ولكن كانوا يتركون من فتحت بلادهم يديرون امورهم بأنفسهم كيفما شاؤوا واذا اسلموا ودخلوا في دين الله لم يكن لأحد عليهم من سلطان، الا سلطان كتاب الله الكريم، وسنة رسوله الهادي البشير صلى الله عليه وسلم، وما للمسلمين بعضهم على بعض من حقوق النصح بالتي هي احسن، والشفقة والاحسان. وهنا نريد ان نقف على مبدإ اسلامي مهم، ونعني به: من اين لك هذا؟ فالفاروق عمر بن الخطاب هو واضع هذه القاعدة، حين كان يحاسب عماله محاسبة شديدة، ويراقبهم اشد المراقبة، ويطلب منهم عندما يعودون من عطلتهم او لزيارة اهلهم في المدينةالمنورة، ان يدخلوا نهارا لكي يرى ما الذي يحملونه معهم، وكان يطلب منهم من العمال والولاة كشف حساب سنوي عن ثروتهم، في الوقت الذي كان يعرف بدقة اوضاعهم المادية قبل ان يتولوا مناصبهم، وعندما يتأكد من اي تجاوز يرسل مندوبا عنه للوالي او العامل ليقوم بعملية حصر كاملة لثروته ويقاسمه امواله، ويرسل نصفها الى بيت المال، وقد يعزله عن منصبه كما فعل مع بعض عماله. كان عمر الفاروق يؤكد دائما ان الوظيفة الحكومية تكليف لا تشريف، وان عمال الدولة لم يرسلوا ليكونوا تجارا يبغون الثروة والجاه والربح، او يستغلوا نفوذ الإمرة والسلطان من اجل مصالحهم الخاصة. اذن عمر الفاروق هو واضع تلك القاعدة التي وضعت لها بعض الدول في العصر الحديث قوانين لمحاكمة كبار المسؤولين عن كسبهم غير المشروع، او استغلالهم النفوذ. في عهد الفاروق عمر تسابق ابن قبطي مصري، مع ابن لعمرو بن العاص والي مصر من قبل عمر بن الخطاب (يقال ان هذا السباق سباق خيل او سباق العدو)، وعمرو بن العاص هو فاتح مصر، والعارف بكل شؤونها، وكانت نتيجة السباق ان فاز به ابن المصري القبطي، فاغتاظ ابن الامير، وصفع المصري او ضربه امام الناس، قائلا له: انا ابن الأكرمين!! هنا اقسم المصري ان يشكو الى عمر بن الخطاب الذي فعله ابن عمرو، وبالفعل وصلت الشكوى الى عمر فاسرع باستدعاء عمرو وابنه مقبوضا عليهما، كما استدعي المصري القبطي وابنه على نفقة بيت مال المسلمين معززا مكرما، وبمجرد ان حضر الجميع اعطى عمر للمصري درته، وقال له: اضرب ابن الاكرمين فلما فعل قال له: اضرب الامير، فرد عليه المصري: ان الامير لم يضربني وفي رواية انه قال: اضربه لأنه لم يرب ابنه، وان لم تفعل سأضربه أنا. وبعد ذلك يوجه الفاروق عمر كلمته المشهورة الى الأمير عمرو بن العاص: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم احرارا؟». هذه هي الوحدة الوطنية في اعظم صورها، عندما تكون نسيجا واحدا لا فرقة ولا تفرقة، لا عنصرية ولا عرقية ولا طائفية.