تعذيب العراقيين في «أبوغريب» ليس ابتكارا امريكيا، لكن هذا لا يمنح اليمين الامريكي الحق في اضافة حلقة أخرى الى سلسلة «حيْونة» الانسان الطويلة. سلسلة لا فرق فيها بين الجلاّد «الديمقراطي» راعي البقر وزميله راعي الإبل. لقد تحول التعذيب على مرّ الزمن الى منهج تنتهجه شتى الاجهزة في شتى بلاد العالم، لكسر الجسد وإذلال الروح وإعادة الانسان الى مرحلة القرد. ولم تفعل الحداثة غير تدجيج هذا المنهج بوسائل اكثر بشاعة ونجاعة. لم يكن غريبا اذن ان يحدث ما حدث في «أبوغريب». الغريب هو ما حفّ بردود الفعل العربية من صمت عن حرائق التاريخ، وما حفّ بردود الفعل الغربية من عمى عن حقائق الحاضر. رأينا اعتذارا لا يخلو من نكهة ماكيافيلية، ليقين الجميع بأن الجميع «كان يعلم» وان الامر كما قال الجنرال Taguba ليس «خللا» في نظام العمل بل هو اساس نظام العمل نفسه. اعتبر الامر فضيحة وتم الاعتذار عنه والتظاهر بأن الاعتراف به كان «محض الإرادة» وليس بضغط من «الإعلام». لكن الماكنة تشتغل الآن من اجل التعتيم على ما سيجيء، في انتظار «هزيمة أخلاقية» اخرى. وهكذا دواليك... الأغرب من هذا كله ان صور التعذيب هي التي جعلت من التعذيب حقيقة. ومن خلال هذه الصور اكتشف العالم امرين. الامر الاول اعتماد «التعذيب» الحديث على وسائل بدائية مثل الاغتصاب واستخدام الكلاب وكشف العورة. والأمر الثاني: قيام «الجلاد» الحديث بالتقاط صور له وهو يمارس «عمله» وكأنه يلتقط صورا تذكارية. ترى، ما سرّ شغف الجلاّدين «الجدد» بكشف العورة على هذه الشاكلة؟ وكيف امكن لزمن حقوق الانسان ان ينتج تعذيبا «سياحيا» متوحشا وبدائيا بهذا الشكل؟ أليس هذا ما أثار ثائرة العالم «المتحضر»، اكثر من حقيقة التعذيب نفسه؟ من الواضح طبعا ان الهدف لم يكن الحصول على «اعترافات»، فللجميع اليوم (غربا وشرقا) من العقاقير ما يجعل السجين يفرغ ما في جعبته في اسرع من لمح البصر. كما انه لم يكن من اجل ترهيب «عائلات» الاسرى ومخاطبتهم «بما يفهمون»، وإلا لوصلتهم الصور قبل ظهورها في الجرائد. كيف نفسّر اذن تلك الأصابع المرفوعة بعلامة النصر قريبا من العورات المستباحة؟ ثمة بهجة تبدو على وجوه الجلادين «السيّاح» لا تخلو من ملامح «لعبيّة» وكأن الامر مجرد لعبة كمبيوتر. ثمة تلذذ واضح بممارسة الإذلال. وثمة رغبة في تخليد لحظات اللذة. ذاك هو «الابتكار» الذي فجع الغرب في نفسه، وجعل حكماءه يسألون ان لم يكن الخطأ في «الثقافة»، اذ كيف امكن لثقافتهم ان تنجب مثل هذا؟ والحق ان الثقافة التي تحوّل المجتمع كله الى «فرجة» وتُحلّ التسلية والإيهام والربح السريع محلّ المعنى والقيمة والجهد، يجب ان لا تستغرب حين تنتج جلادين (Tortionnaires) قابلين للانفجار في اي لحظة، وقادرين على «الاستمتاع» بأنفسهم وهم يمارسون التعذيب كواجب وطني. ثمة تعذيب يومي تمارسه هذه «الثقافة» يوميا تجاه مواطنيها. تعذيب لا يقل خطورة عن التعذيب في السجون. المشكل ان هذا النموذج يتم تعميمه وتعريبه. كتابات عربية عديدة مدججة بأموال النفط، ومهرجانات واذاعات وفضائىات لا تحصى، تحوّلت الى زنزانات من نوع آخر، يقوم فيها الجلادون بممارسة التعذيب بواسطة قتل المعنى وتغييب السؤال والمعرفة وإبادة الجمال والعمق وإحلال الغرائز والتفاهة والسطحية محلها. انه تعذيب «مقنّع» وكشف عورة بالترغيب لا يختلف عن كشف العورة بالترهيب. كلاهما تعذيب اي امتهان للروح والجسد بغاية تدمير الكائن وتدجينه وفصله عن عقله ومسخه الى آلة استهلاك وترويث مثل اي دابة في قطيع. من حسن حظ امريكا انها اكثر ثراء من هذا الرسم الكاريكاتوري، وانها تملك من الحكماء والآليات ما يمكّنها من ان تنقذ نفسها من اصولية يمينها المتطرف ومن افراطات ثقافتها الاستهلاكية. كذلك الامر بالنسبة الى اوروبا، فلديها من الإرث الفكري وآليات الحصانة ما يكفي. ولكن ماذا عنّا نحن؟ نحن لُقطاء هذا التاريخ. ومن عادة التاريخ المشوّه ان يتبنى لقطاء مشوّين. وتشويه التاريخ يبدأ بخطوات مثل هذه. خطوات تعود بالانسان الى وضعه «الأفقي» مثل اي دابة، واذا لم نقم بما علينا كي نخرج من تاريخ اللقاطة والتشوّه، فلا احد سيفعل. في انتظار ذلك، ها نحن نصمت، وها هو العالم «المتحضّر» يثور على كشف عوراتنا، اذ يرى فيها عورته هو، وقد سقط عنه القناع عند اول امتحان بعد غياب «غريمه» السوفياتي، فاذا هو يسْكر بتفوّقه، واذا هو يغلّب القوة على الحجة، واذا هو قرد عار يعود الى «الغابة» من جديد، ويمشي على «أربع» مثل سلفه القديم..