تعيين سفير في اندونيسيا    عملية صيانة كبرى في نقل تونس    استراتيجية تأمين الامتحانات    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    جندوبة.. المجلس الجهوي للسياحة يقر جملة من الإجراءات    منوبة.. الإطاحة بمجرم خطير حَوّلَ وجهة انثى بالقوة    وزارة الداخلية تشرع في استغلال مقر جديد متطور للأرشيف    قبلي: السيطرة على حريق نشب بمقر مؤسسة لتكييف وتعليب التمور    اقتحام منزل وإطلاق النار على سكّانه في زرمدين: القبض على الفاعل الرئيسي    القبض على 24 منفّذ "براكاج" بالأسلحة البيضاء روّعوا أهالي هذه المنطقة    برنامج الجولة الأولى إياب لبطولة الرابطة الاولى لمحموعة التتويج    الفنان رشيد الرحموني ضيف الملتقى الثاني للكاريكاتير بالقلعة الكبرى    السجن ضد هذه الإعلامية العربية بتهمة "التحريض على الفجور"    البطلة التونسية أميمة البديوي تحرز الذهب في مصر    من بينهم أجنبي: تفكيك شبكتين لترويج المخدرات وايقاف 11 شخص في هذه الجهة    مارث: افتتاح ملتقى مارث الدولي للفنون التشكيلية    تحذير من هذه المادة الخطيرة التي تستخدم في صناعة المشروبات الغازية    كرة اليد: الترجي في نهائي بطولة افريقيا للاندية الحائزة على الكؤوس    وزارة التعليم العالي: تونس تحتل المرتبة الثانية عربيًّا من حيث عدد الباحثين    وفد "مولودية بوسالم" يعود إلى تونس .. ووزير الشباب والرياضة يكرم الفريق    الڨصرين: حجز كمية من المخدرات والإحتفاظ ب 4 أشخاص    سليانة: أسعار الأضاحي بين 800 دينار إلى 1100 دينار    باجة: تهاطل الامطار وانخفاض درجات الحرارة سيحسن وضع 30 بالمائة من مساحات الحبوب    تتويج السينما التونسية في 3 مناسبات في مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة    جريمة شنيعة: يختطف طفلة ال10 أشهر ويغتصبها ثم يقتلها..تفاصيل صادمة!!    قبلي : اختتام الدورة الأولى لمهرجان المسرحي الصغير    جندوبة: 32 مدرسة تشارك في التصفيات الجهوية لمسابقة تحدي القراءة العربي    الرئيس الفرنسي : '' أوروبا اليوم فانية و قد تموت ''    كاردوزو: سنبذل قصارى جهدنا من أجل بلوغ النهائي القاري ومواصلة إسعاد جماهيرنا    روح الجنوب: إلى الذين لم يبق لهم من عروبتهم سوى عمائمهم والعباءات    لعبة الإبداع والإبتكار في رواية (العاهر)/ج2    الحمامات: وفاة شخص في اصطدام سيّارة بدرّاجة ناريّة    أنس جابر تستهل اليوم المشوار في بطولة مدريد للماسترز    التونسي يُبذّر يوميا 12بالمئة من ميزانية غذائه..خبير يوضح    خدمة الدين تزيد ب 3.5 مليارات دينار.. موارد القطاع الخارجي تسعف المالية العمومية    المهدية : غرق مركب صيد على متنه بحّارة...و الحرس يصدر بلاغا    Titre    قضية سرقة وتخريب بمصنع الفولاذ بمنزل بورقيبة: هذا ما تقرر في حق الموقوفين..#خبر_عاجل    الكيان الصهيوني و"تيك توك".. عداوة قد تصل إلى الحظر    شهداء وجرحى في قصف صهيوني على مدينة رفح جنوب قطاع غزة..#خبر_عاجل    الترجي يطالب إدارة صن داونز بالترفيع في عدد التذاكر المخصصة لجماهيره    كأس ايطاليا: أتلانتا يتغلب على فيورينتينا ويضرب موعدا مع جوفنتوس في النهائي    ماذا يحدث في حركة الطيران بفرنسا ؟    لا ترميه ... فوائد مدهشة ''لقشور'' البيض    كتيّب يروّج للمثلية الجنسية بمعرض تونس للكتاب..ما القصة..؟    خلال لقائه الحشاني/ سعيد يفجرها: "نحن مدعوون اليوم لاتخاذ قرارات مصيرية لا تحتمل التردّد"    أكثر من نصف سكان العالم معرضون لأمراض ينقلها البعوض    الجزائر: هزة أرضية في تيزي وزو    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    "تيك توك" تتعهد بالطعن على قانون أميركي يهدد بحظرها    "انصار الله" يعلنون استهداف سفينة ومدمرة أمريكيتين وسفينة صهيونية    اتحاد الفلاحة ينفي ما يروج حول وصول اسعار الاضاحي الى الفي دينار    وزارة الصناعة تكشف عن كلفة انجاز مشروع الربط الكهربائي مع ايطاليا    تونس: نحو إدراج تلاقيح جديدة    في أول مقابلة لها بعد تشخيص إصابتها به: سيلين ديون تتحدث عن مرضها    دراسة تكشف عن خطر يسمم مدينة بيروت    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المشروع الثقافي للدولة العلمانية في العالم الإسلامي التداعيات والمخاطر(ج4)
نشر في الفجر نيوز يوم 17 - 08 - 2009


الفجرنيوز فريد خدومة
المشروع الثقافي للدولة العلمانية في العالم الإسلامي التداعيات والمخاطر(ج3)
المشروع الثقافي للدولة العلمانية في العالم الإسلامي التداعيات والمخاطر(ج2)
المشروع الثقافي للدولة العلمانية في العالم الإسلامي التداعيات والمخاطر(ج1)
1- من روائع حضارتنا:- الدكتور مصطفى السباعي.
2 – نفس المصدر.
3 – نفس المصدر.
إن إنسانية الدين وإنسانية الثقافة وإنسانية الحضارة لا تبنى على ثقافة الإستئصال والإبادة الجماعية والتصفية العرقية ولكن على احترام الإنسان أي كان لونه أو عرقه أو دينه أو ثقافته أو حضارته. فلم يثبت أن فرضت حركة الفتح الإسلامي على أصحاب دين وعقيدة أن يبدلوا دينهم أو عقيدتهم، ولا على أصحاب أي ثقافة أن يتخلوا عن ثقافتهم، ولا على أي عرق أن يتنكر لعرقه أو يخجل من لونه، ولا على أي أصحاب
حضارة أن لا يظل لهم إيمان بحضارتهم و اعتزاز وتمسك بها وبأصالتهم وثوابتهم.
كان ينبغي على التحالف الصليبي اليهودي أن يخجل من نفسه ومن تاريخه وحضارته ومن دينه حين يجعل من العقل حكما ومن التاريخ عبرة ومن الإنسانية الحقيقية مثلا.
وكان ينبغي على النخب التقليدية العدمية والعلمانية العبثية في أوطان شعوب العالم العربي الإسلامي أن تعلم حقيقة التاريخ وحقيقة الأديان، وحقيقة الثقافات وحقيقة الحضارات، وأن تسارع بالتخلي فورا عن القاعدة القائلة بأنه لا حل للشعوب المتخلفة حضاريا إلا باقتفاء أثر الغرب والأخذ بنفس الأسباب التى أخذ بها، وذلك ما يقتضي منها ضرورة التخلص من خصوصياتها الثقافية التى ترجع لها المسؤولية عن تخلفها وتعتبرها المعيقة لتطورها.
وإذا كان لابد من عمل تخرج به الأمم و الشعوب من تخلفها وانحطاطها فليس أمامها إلا اعتماد الأنموذج الغربي في السياسة والثقافة والحضارة...(1)
كان ينبغي أن يكون هذا الهز العنيف المخطط له بإحكام و دقة والمعلن عنه وعن حقيقة و نوايا وغايات وأهداف الغرب منه- قد شد انتباه النخب " العبثية" في أوطان شعوب العالم العربي الإسلامي وكل النخب الملتفة على الشعوب المستضعفة في العالم وكالة عن الغرب الصليبي. وكان ينبغي أن تعيد النظر في علاقتها به، وإن سارع إلى مراجعة أفكارها وقناعاتها، وتقف عند مراجعة جادة وحقيقية وصادقة لثقافته التى جعلت منها ثقافتها أو لما أخذته منه من أفكار وتصورات ومناهج، احتراما للذات وربحا للوقت وخروجا من الخديعة وبحثا عن الذات، والبحث لنفسها عن موقع متميز يجلب لها الإحترام والتقدير، ويصرف الأجنبي عن المراهنة عليها، وتكون طرفا فاعلا في ساحات السجال الفكري والسياسي والثقافي باتجاه إنجاز مشروع ثقافي عربي إسلامي ثوري أصيل أصبح لابد منه اليوم كأساس نظري لنهضة عربية إسلامية حقيقية أصيلة وشاملة. مشروع تتوحد فيه الجهود والطاقات ، وتتوحد فيه نخب المجتمعات العربية الإسلامية مع شعوبها، وتتوحد فيه الغايات والأهداف، ليتوج في النهاية وعبر الوقت وبالتدرج وفق صيغ وأشكال مختلفة بوحدة الأمة العربية فالإسلامية على أساس الجدية والمبدئية والتوحيد. وعلى أساس الحرية والعدل والمساواة والشورى، أو إن شئنا الديمقراطية والأخوة استقطابا لعالم المستضعفين والمقهورين في العالم باتجاه وحدة إنسانية عالمية ممكنة. وكونية الإسلام وعالميته وإنسانيته التى تشهد له بها حضارته ويشهد له بها تاريخه تجعل من العرب والمسلمين إذا ما صدقت العزائم و تظافرت الجهود، قادرين على تحقيق هذه الوحدة العربية الإسلامية الإنسانية في العالم.
1- يراجع ص:42 المقتطف المأخوذ من كتاب د: عبد الله ابراهيم: المركزية الغربية : اشكالية التكون و التمركز حول الذات.
إن هذا الهز العنيف جدا للمنطقة العربية من العالم الإسلامي، والذي يراد من خلاله إحكام السيطرة الكاملة عن المنطقة، واستنزاف العالم الإسلامي كله، وإرهاب عالم المستضعفين عموما،إمعانا في فرض الأنموذج الديني والثقافي والحضاري للرجل الأبيض. وذلك ما دعا إليه كل المفكرون والفلاسفة عبرالتاريخ الغربي الحديث. وذلك ما تعمل على تحقيقه كل القيادات الغربية عبر مراحل مختلفة، وبطرق مختلفة، وفي فترات مختلفة، وباساليب مختلفة. كان يجب أن يقع تنزيله في هذه الإستراتيجية التى هي استراتيجية الغرب الصليبي منذ زمن بعيد، بعد إقرار الصليبيين الجدد إقامة تحالف استراتيجي غير مسبوق في التاريخ مع الشتات اليهودي بعد زرعه في قلب العالم الإسلامي. لم يكن ذلك من قبيل الصدفة، ولا لحسابات سياسية أو اقتصادية أو ثقافية أو حضارية أو لهذه الأشياء و الحسابات كلها فقط ،و لكن زرعه كان وفق أراجيف وأكاذيب وترهات وأساطير وخرافات توراتية إنجيلية يرى فيها الغرب الصليبي منذ البداية أن المسيح لا يعود إلا إذا أصبحت إسرائيل جاهزة وبالتالي فإن المسيحيين عموما والمسيحيين الإنجيليين منهم بصفة خاصة كان ينبغي وفق قراءتهم للنصوص الدينية المحرفة، ووفق فهمهم لها، ووفق ما ينبغي أن يكونوا عليه من التدين الضامن للخلاص عبر عقيدة المسيح المخلص ان يعملوا على جعل إسرائيل جاهزة للتعجيل بعودة السيد المسيح عليه السلام.
ويؤكد المراقبون والمحللون العارفون بطبيعة عقيدة الثالوث المقدس، والعارفون بطبيعة المسيحية وبمدى ما عليه الإنجيليون من التزام بالفكر الإنجيلي والثقافة الإنجيلية والعقيدة الإنجيلية، أنه ما كان لقيادة البيت الأبيض أن تأخذ قرار إعلان الحرب على العراق واحتلاله لولا اعتقادها- إضافة إلى عوامل سياسية وثقافية واقتصادية واجتماعية واستراتيجية عسكرية أخرى- أن ما يحدث في العراق وفي المنطقة العربية والعالم الإسلامي إنما هو من قبيل استكمال قيام ياجوج وماجوج وظهورهم للقضاء على الكيان العبري الذي تعتقد أن القضاء عليه هو قضاء عندها وعند الإنجيليين عموما على آمال عودة السيد المسيح المخلص.
كان يجب- وأن ذلك لكائن حتما إن شاء الله تعالى، أن تدرك هذه النخب خطورة الوضع وأن تعلم طبيعة المعركة كما يفرضها الإستعمار في المرحلة السابقة وكما يفرضها الإستعمار الحديث في هذه المرحلة، وأن تبحث لنفسها عن دور أفضل من التبعية والإنشداد إلى قاطرة الأجنبي، وتنخرط في المقاومة هنا وهناك، وكل ميسر لما خلق له، وتلتحق بقوى التحرر العربي الإسلامي، وتلتحم بجماهير الشعوب المتمسكة بهويتها، والمدافعة عن خصوصياتها وثوابتها الثقافية والدينية والحضارية. وإذا لم تكن هذه الجهات قادرة على ذلك، وهي الأمينة على مصالح الأجنبي أحبت أم كرهت وشاءت أم أبت والحامية لها من خلال وجودها في دوائر أخذ القرار وفي شدة الحكم، تمسكا بالمنهج العلماني اللائكي- الذي بدى أنه جل ما ترسب في أذهانها منه معاداته للدين ، ولا ترى إلا أن العلاقة بينهما لا يجب إلا أن تكون علاقة صراع وتنازع وصدام، فليس أقل من أن لا تعيق على الأقل عمل قوى التحرر وحركات التحرر القادرة على الإلتحام بالجماهير وقيادتها نحو أهدافها بثقة واطمئنان من أجل أهدافها الوطنية والقومية والإسلامية والإنسانية ،بعيدا عن صراع الثقافات والحضارات والأديان والأعراق، لأن الإسلام ومن منطلق مبدئي واستنادا إلى مرحلة طويلة جدا من التاريخ الطويل للحضارة العربية الإسلامية لا يؤمن بهذا الصراع ولا يقره. ومن ثمة فإن المسلمين لا يجب أن يؤمنوا بهذا الصراع ولا يقرونه إلا بقدر ما تقتضيه ضرورة إدارة المعركة المفروضة عليهم وعلى العالم على هذا النحو وبهذه الخلفية وبهذا الوضوح مع القوى الدولية الصليبية الصهيونية ذات الطبيعة الإستعمارية العدوانية التدميرية المؤمنة بهذا الصراع . ذلك أن الإسلام يعترف بكل الأديان ويأمر المسلمون بالإيمان بكل الأنبياء والرسل ويعترف كل الثقافات وكل الحضارات وكل الأعراق، ولا يعترف بالصراع في ما بينها ولا يقره، وليس ذلك فحسب، ولكنه يذهب إلى أبعد من ذلك إلى درجة منعه وتحريمه، لأن هذا التعدد وهذا التنوع هوأحد أهم مصادر قوته وقوة المسلمين أنفسهم.
اليست هذه التحديات المباشرة والمعلنة، سواء منها ما كان تخلفا وانحطاطا، وضعفا وتدهورا ملحوظا ومعلوما وواضحا على كل المستويات والأصعدة، أو ما كان تدخلا مباشرا للأجنبي بكل عربدة وسفور في كل صغيرة وكبيرة وبكل الوسائل بما فيها التدخل العسكري كافية لجعل هذه النخب سواء العلمانية منها أو التقليدية وهي المسؤولة عن حالة التدهور والإفلاس والتخلف والمنتجة لها مدعوة لمغادرة حالة العبثية والعدمية التى لزمتها عقودا من الزمن؟
أليست هذه النخب " العبثية والعدمية " هي المسؤولة مسؤولية مباشرة عن إخماد أنفاس الشعوب وإذلالها، ومصادرة الحريات وإضعاف الروح المعنوية لها إلى حد قتلها أحيانا وفي بعض المستويات، وعما يحدث في فلسطين المحتلة وعما يحدث في أفغانستان والشيشان وكشمير، وفي الصومال والسودان، وعما يحدث في العراق ومايحدث بمنطقة الخليج وشمال إفريقيا وبكل شبر من الوطن العربي وبالكثير من أجزاء العالم الإسلامي؟
هذه النخب المصرة على التغريب" المقتدية" بالغرب، والتى تحسب أنها سائرة على خطاه نحو الخلاص، وهي سائرة إلى حتفها وسائرة بالشعوب إلى المجهول وإلى غير غاية ولا هدف. والأخرى المصرة على أفهام متخلفة وصيغ محنطة للإسلام لا تصلح لأهل هذا الزمان، وتتأخر بالأمة ولا تتقدم بها، والمنشئة لنسيج إجتماعي جامد تحكمه التقاليد والأعراف والأوهام، وتقيم مؤسساته على أنظمة لاهي غربية حتى تحكم عليها بالتغريب ولاشرقية حتى تحكم عليها بالأصالة و"التشريق" أو ما يمكن أن نسميها أو نعتبرها إسلامية أو مشتقة من الإسلام. وفي كلا الحالتين فنحن في ما يسميه الغرب ثقافة التهجين.
هذه النخب كلها هي في النهاية طرف مهم جدا في التمكين للأنموذج الحضاري للرجل الأبيض الذي هو خلاصة الأعراق كما يقدمه للعالم فلاسفته ومفكروه، والذي هو مدعو لفرضه على العالم. وهو الذي يفعل ذلك اليوم بكل فعالية وقوة، مدعوما بكل هذه الجهود ليستقوى بها أول ما يستقوى عليها هي نفسها، مثلما استقوى على الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين والنخب العلمانية اللائكية العبثية الداعمة له، وحتى تلك المعارضة له.
يضع الغرب نصب عينيه في علاقاته بعضه ببعض وفي علاقاته بالآخر من الأعراق "الدنيا" في "مناطق
الجمود"،مسألتين هامتين واستراتيجيتين،هما:المصلحة وثقافة وحضارة الرجل الأبيض،فالتصادم الذي يحصل في كل مرة بين شعوبه بعضها مع بعض هو تصادم في أغلب الأحيان، أن لم نقل دائما من أجل تناقض المصالح واختلافها. فهو تصادم في صلب العرق الأرقى وبين أصحاب الثقافة الأرقى والحضارة الأرقى والديانة المطلقة على حد تأكيدات هيغل وتوينبي وديكارت، ومن قبلهم غوبينو غومبلوفكس وراتسنهوفر،وفولتمان وتشمبرلن ولابوج وغيرهم. أما التصادم والصراع الذي يحصل في كل مرة بل والذي هو حاصل دائما بينه وبين الآخر الذي ينظر إليه على أنه من العروق الدنيا ويتعامل معه على ذلك ألاساس، وهو الذي يمثل مناطق الجمود والخمول مقابل " حيوية أوروبا" ومن ثمة حيوية الرجل الأبيض المسلح المقاتل والمبشر والباحث عن الثروثة- هو الذي يجب هدم بناه التقليدية، والفضاء على ثقافته أوعلى الأقل " تهجينها". فهو صراع وتصادم غالبا ما يكون من أجل المصلحة والثقافة والحضارة على خلفية فرض الثقافة والحضارة ونهب الثروات.
ومن خلال هذه العنصرية وهذا الإستعلاء والإستكبار، ومن خلال هذه النفعية المطلقة، ومن خلال ما يعتقدونه من نقاء العرق الآري، ومن خلال الإطلاق الديني والتفوق الثقافي والحضاري، يعطي الغربي الأبيض لنفسه حق السيطرة على الآخر، وحق إبادة من يريد إبادته، وضم من يستطيع ضمه، واحتواء من يستطيع احتوائه ودمج من يستطيع دمجه، بتعلات مختلفة وبخلفيات مختلفة، ولأغراض وغايات وأهداف مختلفة.
ولقد جرت العادة عند مفكري الغرب وفلاسفته أن يسارعوا لتبرير كل ما يقوم به الرجل الأبيض من تجاوزات وأخطاء ومحظورات وجرائم في حق الملونيين، وفي إقرار الأمر الواقع الذي يقيمه.
فعوض أن يدين هيغل تجارة الرقيق التى ظل الغرب الأوروبي يتعاطاها عقودا من الزمن إن لم نقل قرونا من الزمن بالنظر إلى ما لاقاه الزنوج الأفارقة من ترويع وإذلال وإهانة وسخرة وقتل بكل وحشية وقسوة، في الوقت الذي يقوم فيه الرجل الغربي العنصري الأبيض بإبادة الهنود الحمر السكان الأصليين " للعالم الجديد" تلك القارة المكتشفة حديثا في ذلك الزمن، يمده الرجل الأبيض من أوروبا بالزنوج الأفارقة كعبيد، بيعا وشراء، ليتم تسخيرهم لخدمة الأرض في أمريكا، تلك القارة البكر التى لا تحدوه الرغبة في التعامل مع سكانها الأصليين إلا بإبادتهم، وقد تبين له أنهم لا يقبلون بالشخرة في أرضهم و أرض أجدادهم لدى الأجنبي المحتل، وأصبح هو كذلك لا يقبل بهم لهذه المهمة، واستعاض عنهم بالزنوج الأفارقة في تلك التجارة الثلاثية الأبعاد أو الأضلاع التى كانت تدرعلى الرجل الغربي الأبيض أرباحا طائلة في القرن السادس عشر
يقول هيغل مبررا هذه الجريمة في حق الإنسانية: " إن تجارة الرقيق الغربية كانت فرصته لزيادة الشعور الإنساني بين الزنوج".(1)
ولإيجاد مبرر لاحتلال فرنسا للجزائر بعد ذكر الإفريقيين في إطار" التمركز العرقي للشعوب" " في سياق
1- المركزية الغربية : اشكالية التكون و التمركز حول الذات- د: عبد الله ابراهيم.
قدح مفعم بالتعصب- وقد سحب ذلك المبرر على شمال إفريقيا كله يقول:"باستثناء إفريقيا الشمالية، التى يسميها ب" إفريقيا الأوروبية": كان من الواجب ربط هذا الجزء من إفريقيا بأوروبا، ولابد بالفعل أن يربط بها، ولقد بذل الفرنسيون أخيرا جهودا ناجحة في هذا الإتجاه، فهو يبدو متجها نحو أوروبا"(1)
فثقافة الرجل الأبيض الغربي هي ثقافة أهواء ومصالح ومنافع. وهي أبعد ما تكون- إذا ما استثنينا منها الجانب العلمي الرياضي التقني البحت- عن العقل و الإنسانية والروح الحضارية المستنيرة.
ومن تحقيق لصحافي كبير كتبه الأستاذ " على حمدي الجمال" عن أحوال هولندا الداخلية:
"إن الأديان في هولندا بل في أوروبا كلها لها وضع غريب يحدد كل مجالات الحياة فيها وعلى الأخص السياسية فالأحزاب تقوم على أساس المذهب الديني..."قال " ولم أسع إلى مقابلة أحد من أحزاب اليمين فآراؤهم معروفة وتزمتهم ليس موضع نقاش، وتفكيرهم لا يقبل جدلا.. قال :" وشجعني على عدم الإلتقاء بهؤلاء قصة سمعتها من شاب هولندي وأهالي في معرض الحديث عن الأحزاب السياسية إنه عندما كانت " أندونيسيا" تكافح لنيل استقلالها وكانت الأحزاب المختلفة تتنافس في إبقاء الإستعمار الهولندي بها وقف أحد النواب في البرلمان وقد أمسك بيده نسخة من الإنجيل وقال: إن في هذا الكتاب المقدس فقرات تثبت حقنا في احتلال أندونيسيا.
" قال الشاب الهولندي المتحرر ولم يقف نائب واحد من أي حزب ليعترض على هذا السخف "(2)
لقد ابتدع الغرب الصليبي اليهودي ثقافة أعطى فيها لنفسه الحق في كل شيء، وأصبح يعتقد بمقتضى ذلك أنه لا حق معه لأي كان في أي شيء في هذا الوجود الذي أصبح يعتقد أنه قد أصبحت له عليه السيطرة الكاملة أو انها ممكنة له ذات يوم. وهذا ما يؤكده التاريخ الحديث والقديم، وما يؤكده الواقع الموضوعي الدولي في الراهن التاريخي، ليس في العالم العربي الإسلامي فقط ،ولكن في الكثير من أنحاء العالم على اختلاف في الدوافع والأهداف والغايات.
ولعله ليس ثمة أكثر وهما ممن يعتقد أن الرجل الغربي الأبيض قد حاد عن هذه الثقافة،أو ابتعد عنها أو تخلى عن معانقتها. وهو الذي أقام كل بناءه الثقافي الفكري والحضاري على تصورات " التمركز العرقي للشعوب". وهو الذي قسم فلاسفته ومفكروه العالم إلى أنماط عرقية بين عرق آرى وسامي وحامي ونظروا إليها وفق معايير مختلفة ومن زوايا مختلفة ولغايات وأهداف مختلفة ، وانتهوا في تقسيمها إلى نمطين رئيسيين: نمط دوني ومنحط وضيع ، ونمط: متفوق وذكي ورفيع وسام، وفي إطار التحالف الصليبي اليهودي الحديث تجاوز النصارى واليهود عن بعضهم الإختلافات العرقية والمذهبية والدينية، ليسلم الغرب الصليبي لليهود بتفوق العرق السامي وبقاعدة شعب الله المختار، وليسلم اليهود للصليبيين بتفوق العرق الآري لتقاسم المنافع والمصالح والمغانم، من خلال نظر الغرب لليهود على أنهم كما قال بوش الصغير " شركاء لهم في الحضارة".
1- المركزية الغربية : اشكالية التكون و التمركز حول الذات- د: عبد الله ابراهيم.
2- الاسلام في وجه الزحف الاحمر: محمد الغزالي.
فإذا كانت هذه الأصول الحقيقية الواضحة والمعلومة لثقافة الرجل الأبيض فأين يضع المثقفون العرب والمسلمون وغيرهم ممن ينظر إليهم على أنهم من العرق الدوني المنحط والوضيع غير الشريك في الحضارة.
وهل يشفع لهم التحاقهم بثقافة " التكون والتمركز حول الذات" بالتخلي عن النظر إليهم على أنهم من غيرالأعراق التى لا تصلح إلا للإمتهان أو الإبادة أو الإحتواء عن طريق " التهجين" الثقافي ؟
فإذا كانت طريقة الإبادة والتطهير غير ممكنة ومتعذرة عدى بعض المحاولات التى نراها هنا وهناك كما في الكثير من المناطق في أفريقيا وفي البوسنة والهرسك وفي كوسوفو وفي فلسطين المحتلة، فإن طريقة الإحتواء عن طريق التهجين الثقافي قد أصبحت هي الطريقة المثلى، وهي التى تقتضيها المرحلة التاريخية.
وهذه الطريقة نفسها هي صلب المشروع الثقافي الحضاري الغربي، ومن خلالها تتحقق عالمية الثقافة والحضارة الغربيتين وكونيتهما كما دعا إلى ذلك من قبل تويني وهيغل وكارل ماركس. وكما تريد الولايات المتحدة الأمريكية قائدة التحالف الصليبي اليهودي العالمي وتعمل عليه. وفي هذا الإطار تتنزل النخب التغريبية لتكون رافدا مهما لاستكمال المجهود الصليبي اليهودي الغربي في حربها على الشعوب للتمكين للنمط الحضاري "لأرقى الأعراق وأرقى الثقافات وأرقى الأديان وأرقى الحضارات".
لم يعد هذا مجرد شعور ولا إحساس ولا وهم ، وإنما يجد ذلك له أصلا في التاريخ الديني والثقافي والعرقي والحضاري للغرب المسيحي اليهودي في العناق الأخير الذي تم بين العرقين وبين الدينين في القرون الأخيرة من التاريخ وذلك ما يؤكده الاحداث الجارية اليوم في الكثير من بقاع الارض، وما يحصل في المنطقة العربية هذه الايام خير شاهد على ذلك.
وليست المآخذ على الطوائف على حد تغيير لينين- العلمانية اللائكية بجديدة، فقد كانت مواكبة لوجودها وانبعاثها وصناعتها من طرف قوى الغزو والإحتلال الغربي لأوطان شعوب العالم العربي والإسلامي، وأوطان عموم المستضعفين في الأرض عبر برامج وترتيبات ومناهج وأساليب مختلفة.
يقول عبد الرحمان الكواكبي في "أم القرى": "أما الناشئة المتفرنجة فلا خير فيهم لأنفسهم فضلا عن أن ينفعوا أقوامهم وأوطانهم شيئا... تتجاذبهم الأهواء كيف شاءت...ويرون غيرهم من الأمم يتباهون بأقوامهم ويستحسنون عاداتهم ومميزاتهم فيميلون لمناظرتهم، ولكن لا يقوون على ترك التفرنج كأنهم خلقوا أتباعا...والحاصل أن شؤون الناشئة المنفرنجة لاتخرج من تذبذب وتكون ونفاق بجمعها وصف الأخلاق".
وبعيدا عن منطق التخوين وادعاء الطهر الثقافي والسياسي والحضاري، وبعيدا عن منطق التكفير إلا من شرح بالكفر صدرا، أقول لهؤلاء أنه عليهم باسم الوطنية إذا ما أرادوا أن يكونوا وطنيين حقا، وأن يكونوا تعبيرات صادقة عن وطنيتهم التى ليس لأحد أن يشكك فيها عند الكثيرين منهم إلا من ثبتت خيانته ولا وطنيته ومعاداته الواضحة لوطنه، وإذا ما أرادوا أو كانوا يريدون أن يذكر لهم التاريخ ذلك، علما وأن كنه حقيقة التاريخ نفسه لا يعلمها في النهاية إلا الله ، وباسم العروبة إذا كانوا عربا أقحاحا وإذا ما كانوا لا يريدون أن يسجل لهم التاريخ كفرهم بالعروبة التى هي عروبتهم، والذين هم عليها شاؤوا أم أبوا أحبوا أم كرهوا، وباسم الإسلام إذا كانوا يريدون أن يكون لهم حظ في الآخرة " وذلك هو الفوز الكبير" أن يقيموا صلحا مع هذه المقومات الأساسية لشخصيتهم ولشخصية أبناء شعوبهم وشعوب أمتهم، ولثقافتهم و لتاريخهم ولحضارتهم، وأن يقطعوا مع الأجنبي والمحتل وأن يعيد وا بناء العلاقة معه على أساس التكامل والتعاون وتبادل المنافع والمصالح، والتأثر والتأثير والأخذ والعطاء، فليس صحيحا أن العلاقة لا يمكن أن تكون إلا علاقة طاعة وولاء له، وتأثر به دون تاثير فيه، والأخذ منه دون عطاء له...أوعلاقة تصادم معه وخصومة،وعداء له وقطيعة معه، فعلاقة التوازن ممكنة ونحن وحدنا حين تصح العزيمة وتصدق النوايا وتتظافر الجهود- القادرون على بعثها وفرضها على الطرف الآخر- الذي لايفهم الصداقة ولايقبل بها إلا عندما تكون لحسابه وعلى حسابنا ، ولا يفهم الأخوة الإنسانية ولا يقبل بها إلا عندما تكون لصالحه ولغير صالحنا، ولا يقبل بالتعاون والتكامل وتبادل المنافع والمصالح إلا كما يفهم هو ذلك وكما يسعده أن يقبل به لا كما نفهمه وكما يسعدنا أن تقبل به. وبذلك فقط ننهى صراعنا معه عبر صراع بعضنا مع بعض، وتحدث نقلة نوعية في الصراع يكون بمقتضاها صراعنا معه صراعا مباشر.
وليس ذلك ممكنا حتى تعلم هذه الطوائف العلمانية اللائكية أن العلمانية إنما نشأت وتطورت في أحضان النظرية القائلة بالتفوق المطلق للمسيحية وللعرق الأبيض وللثقافة والحضارة الغربية " ثقافة وحضارة الرجل الأبيض" ولا تعني العلمانية واللائكية بالضرورة كما يتهيأ لهذه الطوائق المتغربة المتفرنجة معاداتها للدين ووضعه جانبا أو تهميشه كما تبينه الحقائق الفكرية والفلسفية، والوقائع التاريخية لنشأة وتطور الديمقراطيات الغربية. وإذا كانت حركة الصراع والتصادم التى كانت قد حصلت في أوروبا في بداية عصر النهضة وظهور الفكر التنويري وفلسفة التنوير ينظر إليها على أنها حركة تصادم بين الدين والعقل، وبين الكنيسة ورجال الدين ورجال الفكر والفلسفة، وحركة صراع بين طبقات مختلفة وفئات متباينة ومتناقضة المصالح في ظل تحولات اجتماعية وسياسية وثقافية واقتصادية جوهرية يقتضيها الخروج من حالة التوحش إلى حالة التحضر، ومن التسفل إلى الترقي، ومن الإنحطاط إلى التطور، فإنها في مجملها كذلك.إلا أن الجدير بالملاحظة أن التوتر الذي عرفته العلاقة بين الدين والعقل في فرنسا مثلا ثم بدرجة ثانية في إيطاليا وألمانيا لم تعرفه في جل أنحاء أوروبا والعالم الغربي عموما. وأنه لمن الإجحاف قطعا أن نعمم ما حصل هناك على سائر أنحاء أوروبا نفسها وعلى العالم الغربي كله، فضلا على أن نرفع ذلك التوتر في العلاقة بين العقل والدين على مستوى عالمي. ولقد كان المفكرون والفلاسفة على ثلاثة أصناف :
1- صنف دخل المعترك الفكري والفلسفي وهو مؤمن متدين، وخرج منه مؤمن متدين كديكارت، وهو القائل: " ينبغي قبل كل شيء أن نتمسك بقاعدة تعصمنا من الزلل وهي أن ما أوحاه الله هو اليقين الذي لا يعدله يقين أي شيء آخر فإذا بدا لنا أن ومضته من ومضات العقل تشير الينا بشيء يخالف ذلك وجب أن تخضع حكمنا على ما يجيء من عند الله"(1)
1- حرية الفكر- محمد العزب موسى.
ويؤكد على البقاء"... على الدين الذي أكرمني الله به و نشأت عليه منذ الطفولة"(1) كما يقول.
2- وصنف حدد موقعه في إطار حرية الفكر من خلال سلطته الكنسية الجائرة، ومن خلال الفكر التقليدي الكنسي السائد، مثل سبينوزا وفولتير وغيرهم، وظل محافظا على إيمانه معترفا بسلطة الدين إلى جانب سلطة العقل.
" كان سبينوزا يرى أن حرية الفكر ضرورية لصحة الإيمان وسلامة الدولة ورفاهة المواطنين في نفس الوقت"(2)
وكان قولتير" يقول ساخرا لو أن أحد المتطرفين في الإلحاد يملك إقطاعية يعمل فيها خمسمائة أو ستمائة فلاح لما تردد في أن ينشر بينهم نظرية أن الله هو الذي يوزع العقاب والثواب"(3)
" وقد قام فولتير بهدم الكنيسة التى كانت قائمة في إقطاعيته "فيرني" عندما عارضت آراءه، ولكنه لم يترك إقطاعيته بلا كنيسة وإنما بنى واحدة أخرى كتب على بابها " فولتير بنى هذه الكنيسة لله".
وكان يحضر فيها الصلاة في الآحاد والأعياد ويصر أحيانا على أن يلقي بنفسه الموعظة من فوق منبرها وعندما كان في فراش الموت وافق على أن تؤدى له الطقوس الدينية وأن يدفن تبعا لمراسم الكنيسة"(4)
3- وصنف ثالث مثل ديدرو وغيره ومن تبعهم بعد ذلك من موجة إلحادية أخذت بعد ذلك وبعد تطورات مختلفة وعبر مراحل مختلفة بعدا عالميا في إطار الدعاية للفكر الإشتراكي الماركسي الليني وقيام المعسكر الشرقي الشيوعي، حيث لم يكن ماركس إلا تابعا للدعوة للإلحاد وليس مبتكرا ولا مبدعا.
ومهما يكن التباين في وجهات النظر في هذا الموضوع إلا أن الذي لا شك فيه أن النظام العلماني الليبرالي في أوروبا وأمريكا وامتداداته شرقا وغربا عبر وسائل ووسائط متعددة ومختلفة، قد انبنى في عمومه على فلسفة هيغل المثالية ومن كان على نهجه الفلسفي الصوفي المسيحي، ومن قبله فلاسفة ومفكرون ورحالة ومكتشفون عديدون، ولذلك فإن الدنيوية في النظام العلماني لا تعني نفي الدين أو رفضه أو إنهاء أي دور له. ولكن الدعوة كانت واضحة للإلتزام به في الحد الذي ينبغي الإلتزام به فيه، وفي الحدود التى تدعوا المسيحية، وفق ماهو مبين في النصوص الواردة بالكتب المقدسة إلى الالتزام به، بعيدا عن الدور الذي يجب أن يكون للعقل في ما يخص الإشراف على تنظيم حياة الإنسان في الدنيا.
فميدان الدين في العقيدة المسيحية نفسها هو غير ميدان العقل. فميدان الدين هو العبادة والإعتقاد وإقامة الطقوس والرياضات الروحية والطهارة الوجدانية والقلبية والإبتعاد عن اقتراف الآثام وعدم إتيان الرذائل بما يفسد العلاقة بين العبد وربه. أما العقل فميدانه الدنيا والدولة، حيث يقع الإهتمام بكل ماله علاقة بحياة الإنسان المادية والمعنوية وتدبير شؤون الدنيا والدولة في الميادين الثقافية والسياسية والإقتصادية
1- حرية الفكر- محمد العزب موسى.
2 –نفس المصدر.
3 – نفس المصدر.
4 – نفس المصدر.
والإجتماعية والعسكرية والعلمية وغيرها.
وهذا التقسيم هو نفسه تقسيم توراتي إنجيلي. وهو من صميم الديانة المسيحية كما يؤكده الفلاسفة والمفكرون. وذلك ما جرت عليه حركة الإصلاح في مواجهة استبداد الكنيسة بالدين وبالدولة خلافا لما هي عليه نصوص الكتب المقدسة. مما جعل الصراع والتصادم بين الكنيسة والمفكرين والفلاسفة والمصلحين يبدو صداما وصراعا بين الدين والعلم والدين والعقل عموما.
والحقيقة أن ذلك التصادم وذلك الصراع قد انتهيا بوضع الأمور في نصابها، بإعطاء ما لله لله وما لقيصرلقيصرأي بوضع الدين في موضعه ووضع العقل في موضعه كما تؤكد على ذلك التوراة.لينتهي بذلك التنازع على الرغبة في الجمع منذ عهد الإمبراطور الروماني قسطنطين بين السلطتين الزمنية والروحية والعمل على ذلك.ذلك التنازع الذي كانت تؤول فيه الأمور لسلطان الموك تارة ولسلطان رجال الدين وحكم الكنيسة تارة أخرى.
هذا ما يجب أن يفهمه المتغربون، وما يجب أن يعلمه كل الناس، حتى لا تتواصل مأساتنا الفكرية والثقافية، ومن ثمة مأساتنا الإجتماعية والسياسية والإقتصادية فالحضارية.
والذي يجب أن تعلمه نخبنا "العبثية" وهي تعلمه أو لا تريد أن تعلمه لما يكمن أن يكون لها من مصلحة في عدم فهم ذلك ولقبول به حتى اشعار آخر، أنه من الخطإ المنهجي القاتل اقتفاء أثر النخب الإصلاحية الغربية في تناول العلاقة بين الدين الإسلامي والعقل، وبين الإسلام والعلم، وبين الإسلام والدولة والدنيا والآخرة. فالأمر بالرجوع إلى التاريخ وإلى التراث، غير الأمر. والأمر بالرجوع إلى القرآن والسنة النبوية الشريفة مختلف جذريا عما هو عنه في التوراة والتلمود والإنجيل. فالإسلام من خلال النصوص القطعية الورود، القطعية الدلالة لايكاد الحد الفاصل فيه بين الدين والعقل والدين والعلم والدين والدولة يدركه أحد. لأن الإسلام عقل وعلم وعمل، وهو دولة ودين ودنيا وآخرة.
فليس التزام الطاقم الجمهوري الحاكم في البيت الأبيض بدعا من القول، ولا هو شاذ عن السائد الثقافي في الولايات المتحدة الأمريكية. يقول ديريك ديفيز مدير معهد جيه أم – داوسون لدراسات الدولة والكنيسة بجامعة بايلور: " إن الأنجليكانيين يتأثرون بعدة قضايا، من بينها الحرب في العراق وزيجات المثليين والإقتصاد، ولكن"درجة ارتياحهم" تجاه المرشح مهمة جدا أيضا. وأضاف"لايصوتون(الأنجليكانيون) على القضايا، بل يختارون المرشح الذي يشعرهم بارتياح" مشيرا إلى هذه الإعتبارات لصالح بوش في الوقت الحالي ، وتابع "هناك بعد ديني للحياة العامة في الولايات المتحدة، وهو يميزها بالفعل عن الحياة العامة في الديمقراطيات الغربية الأخرى" ويقول ديفيز أن كثيرا من الأنجليكانيين قلقون من أن الأمة تعاني من أزمة أخلاقية، ومالم تفعل شيئا جذريا فإننا سنفقد تراثنا المسيحي للعلمانيين والملحدين" وأضاف ديفيز"الحل بالنسبة لمعظم الأنجليكانيين هو التصويت للحزب الجمهوري"(1)
في هذا الإطار الثقافي تتنزل الزيارات المختلفة للرئيس الأمريكي جورج بوش الإبن للعراق، وخاصة في
1- صحيفة : القدس العربي- السنة 16 – العدد 4662 -20 ماي 2004.
المناسبات الدينية. وفي هذا الإطار يضع حملته الإنتخابية في نوفمبر 2004 ضد مرشح الحزب الديمقراطي جون كيري. ولا يفوت أي فرصة لاعطاء حملته بعد دينيا مسيحيا. وفي هذا الإطار كذلك يقوم بزيارة لدولة الفاتيكان و مقابلة البابا بولس الثاني لنيل بركاته و بركات الكنيسة الكاتوليكية.
واستنادا للموروث الثقافي، ولمقتضيات المصلحة وتحقيق النفع، يعتبر الرئيس الأمريكي جورج بوش الإبن
في تصريحاته المتعددة أنه أين ما حلت قواته العسكرية فإنما هي في مهمة للدفاع عن النفس وللدفاع عن الأمة كما يعتقد كل الغربيين في حملاتهم العسكرية ضد سعوب الأرض، معتبرين من موقع العرق الأرقى أنه من حقهم الحلول بأي أرض. وأنه كما سبقت الإشارة من النائب في البرلمان الهولندي وهو يمسك نسخة من الإنجيل مدعيا أن فيه فقرات تثبت حقهم في احتلال أندونيسيا، أنه من حق الرجل الأبيض"المقاتل المسلح، والمبشر، والباحث عن الثروة" أن يحتل أي وطن من أوطان الشعوب ذات الأعراق الدونية الوضيعة في أي مكان من الأرض.
وتظهر هذه الخلفية الثقافية الإستعمارية العنصرية في الكثير من القضايا. ففي الوقت الذي يعتبر فيه الغرب عموما وأمريكا خصوصا أن الوجود العسكري الأمريكي في أفغانستان إنما هو لدفاع أمريكا عن نفسها، وفي العراق كذلك، وهي كذلك في كل مكان لها فيه وجود عسكري ما لم يكن مكان للرجل الأبيض مطلقا أو له عليه السيطرة والنفوذ الكاملين. ولا غرابة في أن نسمع السائد من القول في تصريحات المسؤولين في مؤسسات الإتحاد الأوروبي في العواصم الأوروبية الغربية والشرقية، وزعماء البيت الأبيض من أنهم يتفهمون دائما موقف دولة الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة في الدفاع عن النفس، في حملة الإبادة التى تقودها العصابات الصهيونية المسلحة بإشراف مباشر من مجرم الحرب اليميني شارون و من قبله اليساري باراك ومن قبلهما ومن بعدهما كل القيادات السياسية والعسكرية اليهودية ضد الشعب الفلسطيني الأعزل الصامد المجاهد.
وفي الوقت الذي يتعرض فيه هذا الشعب لمجازر يندى لها جنين البشرية في قطاع غزة هذه الأيام حيث تسقط قوات الإحتلال مئات الشهداء من الشيوخ والنساء والأطفال، وتقوم بهدم مئات المنازل، وتترك آلاف الجرحى بإصابات مختلفة ومتفاوتة، وتجرف مئات الهكتارات من الأراضي لأغراض مختلفة واهية وبتعلات مختلفة ملفقة، يقف الرئيس الأمريكي جورج بوش" في مؤتمر اللوبي اليهودي في واشنطن (الإيباك) متباهيا بالديمقراطية الإسرائيلية، ومساندا حق حكومة شارون في الدفاع عن النفس في مواجهة الإرهاب".(1)
وفي توغل لقوات الإحتلال الصهيوني في حي الزيتون بجنوب غزة نجحت المقاومة الإسلامية في تفجير دبابة للعدو لقي فيها 6 جنود حتفهم، وتوصلت كل من حركة الجهاد الإسلامي وحركة حماس من الإحتفاظ بأشلاء الجنود، واشترطتا أن لا يكون تسليم هذه الأشلاء إلا مقابل جثث فلسطنيين لدى قوات الإحتلال. وبالمناسبة واصلت القوات توغلها في جنوب غزة في محاولة لاستعادة أشلاء جنودها تقتل وتأسر وتصيب
1- القدس العربي: السنة 16 – العدد 4662-20 ماي 2004.
وتهدم وتجرف على مرآى ومسمع من عالم الديمقراطية والحرية والمساواة وحقوقالانسان...والأمن والسلام على مرأى ومسمع من العالم الحر المتحضر على حد تصريحات زعماء الإرهاب الدولي الصليبي الصهيوني في العواصم الغربية المختلفة.
ولما انتهت الى الفشل الذريع في تحقيق هدفها، سارعت إلى التفاوض مع من تعتبرهم و يعتبرهم الغرب الصليبي ووكلائه في المنطقة العربية وفي العالم الإسلامي إرهابيين، لإتمام عملية التبادل المطلوبة.
وعندما تعلق الأمر بأشلاء جنود المحتل المعتدي لم يتخلف وزير الخارجية البريطاني لتوجيه الدعوة للإسرائليين والفلسطينيين لاحترام الموتى.
أليس الحي أحق بالإحترام من الميت بما للميت في عقيدتنا وفي ثقافتنا العربية الإسلامية من حرمة وقداسة؟ أليست هذه الدعوة ممكنة لما كان الأمر متعلقا بمذابح ترتكب كل يوم ضد أبناء الشعب الفلسطيني؟
أليست هذه الدعوة ممكنة من وزير الخارجية البريطاني عندما يكون القاتل دائما هو العدو الصهيوني اليهودي والمقتول دائما هو الإنسان الفلسطيني المدنى الأعزل؟
وفي يوم 26 جوان 2006 والأيام التي تلته تمكنت المقاومة الفلسطينية الباسلة من أسر مستوطنين في الضفة الغربية وأسر جندي يهودي صهيوني يحمل الجنسية الفرنسية الى جانب الجنسية العبرية في عملية فدائية رائعة اهتز لها الكيان العبري بكل ما أوتي من قوة وعربدة بعد تحطيم العديد من عرباته وبعض دباباته وقتل العديد من جنوده.وقد أفقدت هذه العملية الكيان الصهيوني صوابه وأخذ يحشد كل ما أوتي من قوة في مواجهة شعب أعزل لتحرير الجندي الأسير لدى المقاومة بالقوة على قاعدة عدم اعترافه بالحكومة المنتخبة والتي شكلتها حركة المقاومة الإسلامية حماس وهي المصنفة أوروبيا وأمريكيا وعربيا و"إسلاميا رسميا على أنها حركة إرهابية لا يمكن التحاور معها.وبعيدا عن منطق التفاوض المباشر وتحت تأثير غرور القوة والشعور بالتفوق الساحق جعل الإرهابي رئيس الوزراء الصهيوني أولمرت خليفة الموبوء الإرهابي آريال شارون قطاع غزة تحت الحصار برا وبحرا وجوا مستهدفا كل مرافق الحياة بها يقتل النساء والأطفال والشيوخ والمعوقين ويجرف ويهدم المباني على رؤوس ساكنيها ليفرض على المقاومة وعلى الشعب الفلسطيني تسليم الجندي الذي تشترط الجهات المحتفظة به في الأسر مبادلته بأسرى من النساء والأطفال لدى الكيان الصهيوني. وفي الأثناء شرعت قوات الإحتلال في حملة اعتقالات واسعة النطاق في الضفة الغربية مستهدفة فيها رموز حركة "حماس" وقياداتها من وزراء ونواب في المجلس التشريعي.في هذه الحرب الشاملة التي يشنها الكيان الصهيوني الإستطاني العنصري على الشعب الفلسطيني يظهر الإرهابي العالمي جورج بوش على العالم ليقول كعادته"من حق إسرائيل أن تدافع عن نفسها وعن مواطنيها"معتبرا هكذا بكل صلف الهجوم العسكري الصهيوني اليهودي على الشعب الفلسطيي الأعزل دفاعا عن النفس.
هذه هي العلمانية والديمقراطية وحقوق الإنسان بالمعايير الغربية وفي المنظومة الفكرية والثقافية للتحالف الصليبي اليهودي ضد المستضعفين في الأرض.
هذه هي العلمانية والديمقراطية التي تريد الطغمة العلمانية الهجينة في مختلف أوطان شعوب أمة العرب والمسلمين أن يضل تخضع رقاب شعوب الأمة إليها رغم أنفها.هذه هي الثقافة العلمانية الديمقراطية التي يعمل التحالف الصليبي الصهيوني والعربي و"الإسلامي" الرسمي والعلماني الداخلي الهجين من خلال السلطة ومن خارجها على فرضها في الوطن العربي من خلال العراق المحتل والذي تعتبر فيه القوات الغازية نفسها احتلالا ويعتبرها العملاء المتعاونون إحلالا وتحريرا وفي العالم الإسلامي أو في ما تسميها أمريكا زعيمة الحملة الصليبية في المنطة "الشرق الأوسط الكبير"من خلال غزوها لأفغانستان.
وكان الموقف الأشد مرارة والأكثر مهانة وإذلالا هو موقف الرئيس المصري حسني مبارك الذي يعتقد من خلال رصد تنقلاته وما يتلوها من أحداث أنه يمكن أن يكون شريكا لمجرم الحرب الإرهابي آريال شارون في إشرافه شخصيا على اغتيال شيخ الشهداء أحمد ياسين قائد حركة حماس ومؤسسها، وهو الذي أراده وسيطا في استعادة أشلاء جنوده، وقد أخذته" الحمية والغيرة على أشلاء الجنود الإسرائليين وحرمتها، ويرسل مبعوثيه إلى غزة من أجل استعادتها حتى يطمئن أهاليها إلى دفن ذويهم باحترام وإجلال، بينما لا يحرك ساكنا لإنقاذ الأحياء في رفح و جنين نابلس والخليل"(1)
هذه مخاطر ومآسي النظام العلماني اللائكي في المنطقة العربية. فإذا كانت العلمانية في الغرب مقترنة إزاء شعوبنا بالعنصرية والتمييز وازدواجية المعايير وتعددها، فهي في أنظمة عالمنا الإسلامي وفي المنطقة العربية منه خصوصا، مقترنة بالجبن والطمع والذل والمهانة ومهادنة العدو والولاء له وتقوية جانبه ومعادات الشعوب وخذلانها وإضعاف جابنها وهضمه.
أما عن احتلال التحالف الصليبي اليهودي للعراق فإن الجهات المتورطة فيه لا تعد ولا تحصى، والذي نأسف له شديد الأسف أن جهات محسوبة على الإسلام كانت طرفا مهما فيه بل كانت الطرف الأهم فيه، ومن الوقت الذي تصبح فيه هذه الجهات طرفا في المعركة ضد أبناء أمتها وعونا للأجنبي على تدمير أوطانها تحت أي مسمى، وتحت أي يافطة وبأي ذريعة، ومهما كانت الأسباب والدوافع خطيرة ونبيلة، فإن مراجعة إسلاميتها تصبح واردة، وأنه قد يكون من يفعل ذلك معذورا.لأنه إذا لم يكن غريبا بل ومن الطبيعي إن يكون نظام صدام حسين العلماني اللائكي سببا مباشرا في غزو التحالف الشيطاني لبلاد الرافدين استنادا إلى طبيعته الفاشية اللاوطنية واللاشعبية، وإلى حماقاته السياسية وإفلاسه في دنيا الأخلاق والمثل والقيم، فإنه ليس من الغرابة كذلك في شيء أن يتسلق العلمانيون اللائكيون في المعارضة أعتاب قصور زعماء العواصم الغربية في كل من أوروبا وأمريكا، وأن يوافقوا على إبرام صفقة الإستقواء على خصومهم وعلى شعوب أو طانهم بالأجنبي المعادي. أما أن تكون جهة إسلامية طرفا في هذه الصفقة القذرة، فهذا ما لا أعتقد أن الإسلام يحيزه لها، ولا أعتقد أن صفتها الإسلامية تخول لها ذلك، ولا أحسب أنها إذا تساوت في هذا الأمر مع الحركة العلمانية أن لا تكون مثلها ، وأن لا تفقد حلتها الإسلامية.
ذلك أن الإسلام في هذه الحالة لا يجيز لأهله إلا أن يكونوا في المقاومة، وأن يكونوا المكون الأساسي
1- القدس العربي: السنة 16 – العدد 4662-20 ماي 2004.
لحركة التحرير استنادا إلى أن الإسلام هو حركة تحرير ولا يمكن أن يكون حركة تدمير وتزوير.
فلم يكتف الإحتلال الغربي اليهودي بتدمير العراق وإبادة أبناء شعب عبر زهاء عقد ونصف من الزمن ، ومازال يفعل ذلك بكل حقد وكراهية وعنصرية واستكبار، بل تجاوز ذلك في غير حرج ،وتلك طبيعته، وتلك طبيعة ثقافته وحضارته، إلى التأكيد على أنه إنما جاء وجيء به للإنتقام من كل من تسول له نفسه مقاومته، أو إظهار الكراهية له والحقد عليه والعمل على اعتماد كل الوسائل للإنتقام منه وطرده من بلاده. وهو الذي جاءت به أطراف زينت له ومازالت سؤ عمله- وبمجرد توصل المقاومة إلى قتل أربعة مقاولين أمريكيين بمدينة الفلوجة الباسلة، وقيام أطفال العراق بالمدينة بالتمثيل بهم تمثيلا لا يقترب مجرد الإقتراب بما فعله أجدادهم بالهنود الحمر وبزنوج إفريقا وبالسكان الأصليين لاستراليا وغيرها من البلدان والأوطان التي حلوا بها غزاة مستعمرين وبما يفعلونه هم أنفسهم بالشعب الأفغاني وبالشعب الفلسطيني وبالشعب العراقي نفسه في هذه المرحلة من تاريح الحركة الإستعمارية الجديدة بقيادة الأمبراطورية الأمريكية هذه المرة. وما كان ذلك منهم إلا لإظهاره للرأي العام العالمي، والرأي العام الأمريكي تحديدا، لما يعلمون من تاثير ذلك على الرأي العام الغربي والأمريكي منه بصفة خاصة. وما إن حصل ذلك حتى أتخذ القرار السياسي والعسكري بإنزال العقوبة بكل سكان المدينة الذين ينظر إليهم بخلفية ثقافية عنصرية أنهم الأدنى والأوضع والأحط ،وأنه ليس من حقهم ولا يمكن لهم أن ينازعوا الحياة والبقاء والوجود العرق الأكثر تفوقا وذكا ء ورفعة وسموا.
وفعلا فقد ظلت المدينة محاصرة ومقطوعة عن باقي مدن وقرى العراق والعالم لمدة ثلاثة أسابيع. وقد استهدفت بالقصف بكل أنواع الأسلحة بما فيها المحرمة دوليا ليلا ونهارا وبدون تمييز، وظلت مدينة الفلوجة صامدة بفضل الله أولا، ثم بفضل جهود المقاومة الباسلة وكل الأحرار من أبناء المدينة رجالا ونساء وأطفالا وشيوخا. ولما أصيب العدو بالخيبة والإحباط ، وتأكد من استحالة دخوله لها أمام استماتة المقاومة في التصدي للقوات الغازية وتكبيدها خسائر كبيرة في الأرواح والمعدات، تخلت عن كل شروطها ومطالبها وأعلنت فك الحصار، بعد أن الحقت بها دمارا هائلا، وأسقطت أكثر من ألف شهيد وأكثر من ألف وخمسمائة جريح، وبقيت مدينة الفلوجة مضرب الأمثال في الصمود والمقاومة. وفي أول تصريح لرئيس الوزراء البريطاني العمالي توني بلير قال: "الهجمات الأمريكية على مدينة الفلوجة صائبة ومناسبة".
إن منطق الحرية والديمقراطية والمساواة وحقوق الإنسان في البنية الثقافية للنظام العلماني التوراتي الإنجيلي الغربي اليهودي، يقضي بأن تهدم المدينة كلها على رؤوس مئات الآلاف من سكانها من أجل قتل أربعة من المقاولين الأمريكيين البيض والتمثيل بهم في حركة صبيانية انفعالية ربما كانت غير مقصودة.
وإذا كان الأمر على خلاف ذلك فليس الغزاة وناهبو الثروات أقدس من الأحرار من أبناء شعب تدمر منازلهم فوق رؤوسهم ويحرقون بالجملة رجالا ونساء وشيوخا وأطفالا.
تلك بالتاكيد هي طبيعة الثقافة الغربية والنظام العلماني اللائكي الذي انبنى على قاعدة إذلال الآخر غير الغربي الأبيض وإهانته. وهو نظام الطبقة البورجوازية والراسمالية المترفة التى لا تؤمن بغير الربح والمنفعة والإستغلال. فكيف لمنهج في الحكم والإدارة مثل هذا يمكن أن يحيد عن طبيعته، ويمكن أن يتحقق من خلاله للإنسان الأمن والحق والعدل والحرية والمساواة والسلام، وبمجرد أن يكون قد تحقق به ذلك للإنسان الغربي الأبيض في بيئته وفي محيطه وفي البئات والمحيطات التى أصبح له فيها نفوذ وله عليها سيطرة، فإن ذلك لا يعني بالضرورة أن يتحقق به لأي كان في أي محيط وفي أية بيئة ما تحقق به للرجل الأبيض، بل ما حققه به الرجل الأبيض للإنسان الغربي الأبيض في بيئته وفي محيطه، ولما لا في كل محيط يحل به وفي كل بيئة ينزل فيها أو ينزل بها، لأنه النظام الذي بناه حجرا حجرا، وضمنه باكورات أفكار وعصارة عقول أبنائه وطوره وتطور معه قرونا من الزمن، وهو الذي صاغه انطلاقا من تراثه وموروثه الثقافي وعاداته وتقاليده وخلفيته العقائدية والدينية. ولو كان العدميون والعبثيون (العلمانيون اللائكيون الهجناء) في أوطان شعوب أمة العرب والمسلمين يملكون الحد الأدنى من احترام الذات واحترام عقولهم واحترام شعوب أمتهم، بل وحتى احترام الغرب نفسه، لاكتفوا – في الحدود القصوى في العلاقة بهذا النظام وهذا المنهج- بمجرد التفكير والعمل على الإستفادة منه كما أحسن الغرب الإستفادة مما استخلصه وما بلغه من علوم ومعارف علماء ومفكري وفلاسفة الحضارة العربية الإسلامية ، كما يمكن أن يظلوا مستعدين للإستفادة من أي نظام أو منهج أو ثقافة أخرى كما كان أحدادنا من قبل- وهم يتربعون على أعلى هرم البناء الحضاري في زمانهم، مؤمنين بضرورة الإنفتاح عن الآخر وعدم التردد في الإستفادة من كل ما يمكن أن يكون قد وصل إليه من حكمة.
كان يمكن أن يستفيد هؤلاء لو كانوا صادقين حقا في التعاطي مع قضايا الأمة وهمومها ومشاغلها ومشاكلها من الغرب نفسه في الطريقة التى يسلك بها طريقه إلى أخذ زمام المبادرة الحضارية و الإنطلاقة التى أسس من خلالها لنهضته وصياغة ثقافته وبناء حضارته، في وقت كان فيه في علاقة مباشرة بأمة الريادة في الثقافة والعلم والمعرفة والحضارة، إلا أنه اكتفى بالإستفادة من كل ما كان قادرا على الإستفادة منه، مما كان تحت يديه، ومما انتهي للحصول عليه لينأى بنفسه عن التقليد والتبعية والإلحاق والذيلية وليكون مؤسسا مخترعا، ومجددا منشئا، وصانعا مبدعا، وقد كان له ذلك فعلا. إن الذي مازال ينزل الأمة منازل المذلة والهوان هم قياداتها ونخبها الذين يعتقدون أنهم باقتفاء أثر الغرب الصليبي اليهودي قد سلكوا الطريق الأقصر والأسلم. واليوم وبعد مرور عقود من الزمن، قد تبين بما لا يدعو مجالا للشك أنهم بذلك وبذلك فقط كانوا قد بلغوا بوضع الأمة حدا من التعقيد لم يبلغه من قبل. وأصبح لا بد من عقود من الزمن لإخراجها منه. ولا بد من إهدار امكانيات وطاقات في سبيل ذلك، ليست هي في حاجة لإهدارها لو اقتفت أثر الغرب في الكيفية والطريقة التى اقتفى بها أثر العرب والمسلمين والإغريق وبنى بها نهضته، أو اقتفوا أثر بناة الحضارة العربية الإسلامية في بناء الحضارة العربية الإسلامية وكيفية الإستفادة من الثقافات والحضارات الأخرى. ولما نذهب بعيدا، وقد كانت حركة النهضة في بدايتها في أوطان شعوب أمة العرب والمسلمين في طريقها مع بعض الترشيد والتصحيح إلى وضع منهجية صحيحة في مواجهة وضع الرداءة والتخلف والإنحطاط الجديد الذي أصبحت عليه الأمة.
تلك هي ثقافة الإنتقام وحضارة الإنتقام والعنصرية، بعيدا عن كل الأبعاد الإنسانية والمشاعر الإنسانية والروح الإنسانية. إنه الحقد والكراهية ونزعة الإنتقام في ثقافة الرجل الغربي الأبيض. إن معنى الإنسانية في قاموس الثقافة العلمانية اللائكية الغربية نفسها يقضى بأن تباد مدينة بكاملها، وإذا لزم الأمر مدنا بكاملها أو شعبا بكامله أو حتى شعوبا بأكملها من أجل رجل واحد أو بضع رجال بيض. لأن العرق ليس كالعرق واللون ليس كاللون والدم ليس كالدم. هذه هي حقيقة المشهد، وهذه حقيقة الوضع كما يراه العالم و يسمعه. يتعرض الشعب الفلسطيني الصامد لحملة إبادة جماعية عقودا من الزمن ، ولا يكاد يحرك أحد ساكنا. ويتعرض الشعب العراقي اليوم لأكثر مما كان يتعرض له على يد الطاغية صدام حسين ولا يحرك أحد ساكنا. وعندما يقتل وطني شريف ومقاوم حر أبي يهوديا محتلا وأمريكيا غازيا تقوم الدنيا وتأبى أن تقعد ، هكذا تسير الأمور، وهكذا يعيش الإنسان المعاصر حقيقة الأوضاع. فالبرئ المدافع عن النفس وعن الحق دائما هو الغربي واليهودي، والمجرم والإرهابي دائما هو العربي المسلم. والدم الغالي الذي يجب أن يحقن هو دائما دم الغربي الأبيض واليهودي، والدم الرخيص الذي يجب أن يهرق في الثقافة العلمانية اللائكية للنظام العلماني اللائكي هو دم المستضعفين من العرب والمسلمين وغيرهم. تلك هي عقيدة الغرب، وتلك هي ثقافته. فليس الموقف هنا متعلقا بالتهجم على الغرب وثقافته، ولا بدافع الإختلاف المبدئي العقائدي والحضاري معه، ولا بدافع العنصرية والكراهية والحقد، ولكنه موقف منطلق من معاناة الواقع الموضوعي، ومن مأساوية المشهد الوطني والاقليمي والدولي، ومن الممارسة العدوانية والقول الشامت، والإمعان في العدوان والتسلط والقهر. فديننا ومبادئنا وقيمنا ومنطلقاتنا العقائدية والثقافية والحضارية، والتزاماتنا الإنسانية لا تسمح لنا بتأكيد ثقافة الكراهية وزرع الأحقاد بين الناس مهما كانت اختلافاتنا معهم، ولكن من موقع ردة الفعل وحق المعاملة بالمثل. فمن حقنا أن نقابل من موقع المظلوم والمقهور الحقد بالحقد، والكراهية بالكراهية تجاه الظالم لنا، والحاقد علينا والكاره لنا والمعتدي علينا من أجل حقنا في الدفاع عن أنفسنا وفي الحرية والإستقلال والعزة والكرامة.
وإذا كان الغرب المتحالف مع اليهود يصنع بهذه البشاعات التى يمارسها في العالم ضد المستضعفين مجدا وتاريخا، ويحقق أرباحا ومنافع، ويعتبر أن من حقه ذلك طالما هو مقتنع بذلك وقادر عليه،فأنه من حقنا كضحية من ضحايا هذه المناهج والبرامج، وهذه التصورات والممارسات العدوانية البربرية المتوحشة أن نحدد من كل ذلك موقفا على أي مستوى من الضعف نحن عليه، ومهما يكن فيه من التهجم والتحامل فإنه يبقى دائما أقل بكثير مما يجب فعله وقوله مقارنة بما يقوله وما يفعله.
وإذا كان الغرب الصليبي اليهودي يصنع من خلال ذلك مجدا وتاريخا ويحقق مصالح ومنافع وأرباحا فماذا عن الطوائف التقليدية العدمية والعلمانية العبثية السائرة على دربه، والمتبعة لخطاه، والمتشبثة بمناهجه وثقافته ونمطه المجتمعي والحضاري في أوطان شعوب الأمة، سواء من البطون الحاكمة أو الداعمة والمعاضدة لها والمتحالفة معها؟
إن ما تجدر الإشارة إليه وما يجب الحرص على تأكيده، أن المتابع لهذه النخب، والمتأمل لسلوكهاوعلاقاتها
وفي تفكيرها أنها قد جمعت بين المازوشية والسادية، فمازوشيتها تتاكد لدى الأغلبية الساحقة من أفرادها في علاقتها بالأجنبي، فهي في قمة المتعة والرضى عن الذات من الوقت الذي يمتطي فيه الأجنبي المعادي في الأصل ظهورها ويمضى في إهانتها واحتقارها والإستخفاف بها. يؤكد الصحافيون الذين حضروا قمة الدول الثمانية الأكثر تصنيعا في العالم المنعقدة بإحدى المدن الأمريكية في شهر جوان 2004 أن الزعماء العرب الملتحقون بالقمة لم يحضر لإستقبالهم أي مسؤول سام أمريكي، ولم يقع استقبالهم كما وقع استقبال كل من عداهم من الزعماء المدعووين لحضورها. فقد تم إنزالهم في غير مكان انعقاد القمة ليقع إلحاقهم به بعد ذلك إلحاقا، وبعد أن انصرفت الفرق الموسيقية، وبعد رفع البسط الحمراء المعدة لترجل الزعماء عليها، يذكر الصحفيون أن كل من قرضاي أفغانستان حامد قرضاي العميل الأمريكي المعروف، وقرضاي العراق غازي عجيل الياور "الرئيس" العراقي المنصب من قبل قوات الإحتلال الغربي هناك، قد وصل كل واحد منهما على متن طائرة صغيرة كان الأمريكيون يستعملونها لشحن البضائع. أما سادية أفراد هذه النخب، فتتاكد من خلال علاقتهم بعموم أفراد شعوب الأمة الواقعين تحت نفوذهم وسيطرتهم، من خلال نفوذ الأجنبي وسيطرته عليهم وهم في قمة النشوة والفخر والإعتزاز بالنفس، وفي قمة السعادة والرضى عن الذات، عندما يلحقون درجات كبيرة من البطش بالجماهير وإذلال الأحرار من أبناء الأمة، ويحصل لهم من ذلك بقدر ما يحققوا ما يرضي عنهم ساداتهم وكبرائهم من الأجانب. فهم من المازوشيين و لساديين في آن من الوقت الذي أصبحت تحصل لهم المتعة حين يكونوا من الفاعلين وحين يكونوا من المفعول بهم،وحين يعذبون الآخرين من المستضعفين من بني جلدتهم ويؤلمونهم، وحين،وحين يكونوا مادة الأجنبي وهدفه في التعذيب والإيلام احتقارا وإهانة وإذلالا... ولعل ذلك من أشد حالات المرض النفسي تعقيدا. فقد ارتضى هذا العلماني الهجين الذي هو في الأصل عربي مسلم أن يكون خادما لذاك الغربي الصليبي اليهودي الأصيل في ثقافته وحضارته والذي أصبح لا يرضيه إلا أن يكون مخدوما.
فثقافة الغرب وإن كانت ثقافة حضارة العلم والتقنية التى أسعدت الإنسان بإنتاجها العلمي والتقني إلا أنها لا يمكن أن تكون حضارة إنسانية لما انبنت عليه من أسس التمييز بين الأعراق والديانات والثقافات والحضارات، ولما يتم اتباعه لفرضها من أساليب القهر والإذلال والتصفية العرقية والإبادة الجماعية وكل أساليب ومناهج الإستضعاف.
فإلى جانب ما يحصل في الشيشان وأفغانستان وكشمير وفلسطين والبوسنة والهرسك وكوسوفو في ظل هيمنة الرجل الأبيض وثقافته، يبدو المشهد العراقي إضافة نوعية تتضح من خلالها بشاعة صورة النظام العلماني ومختلف بطون الطائفة العلمانية، في التعاطي مع القضايا المصيرية وطنيا وعربيا وإسلاميا ودوليا، وفي العلاقة بالأجنبي الغازي الحاقد على الأمة والمعادي لها ولأهدافها ولطموحاتها ولتطلعاتها. فإضافة إلى ما حصل ويحصل وما يمكن أن يحصل في مدن العراق كله برا وبحرا وجوا بدءا بمدينة الفلوجة الباسلة ومرورا ببغداد والموصل والأنبار وبعقوبة وغيرها، وانتهاء بالبصرة وكربلاء والكوفة والنجف الأشرف وغيرها من المدن والقرى، يأتي سجن أبو غريب الرهيب. وهو المكان الذي ظلت تنتزع فيه من الإنسان العربي المسلم وغيره من غير العرب وغير المسلمين إنسانيتهم على امتداد عقود من الزمن في ظل النظام العلماني الذي هو نظام البعث في العراق وتحديدا نظام صدام حسين وعائلته وعشيرته. فها هو يحصل فيه من البشاعات والتعذيب ربما ما لم يحصل فيه من قبل.
فلا حرمة فيه لإنسانية جاءت ثقافة " الحرية والديمقراطية والمساواة وحقوق الإنسان" مبشرة بها وزاعمة لها، ولا حرمة فيه لجسد ولا لروح ولا لعقل. ولا معنى هناك للحرية والديمقراطية والمساواة وحقوق الإنسان، إنما كان أسلوب المحققين الأمريكان ومن معهم من المحابرات الإسرائيلية في القرن الواحد والعشرين، تماما كأسلوب الإسبان في التعامل مع الهنود الحمر في أمريكا بعد اكتشافها،واجتياح الغربيون الأوروبيون لها في القرن السادس عشر، وما كان من أمر مذبحة كاوناو بكوبا التى، في الوقت الذي يبقر فيه شاب إسباني بطن شاب هندي بسيفه فاندلقت أمعاؤه على الأرض يأتي المؤرخ لاس كاساس للضحية وهو في حالة احتضار" ملحا أن يعمده ليذهب إلى السماء ويحي مع الرب". فقد جاءت الأنباء من سجن أبو غريب بالعراق حيث تسيطر على الوضع هناك قوات الإحتلال الأمريكي الغربي أن العسكريين الأمريكيين كانوا يفرضون على المساجين العراقيين - أثناء تعذيبهم - وهم من جاؤوا وجيء بهم "لتحرير العراق" والعراقيين من الإستبداد- وارتكاب الفاحشة ضدهم غصبا- تبديل دينهم واعتناق المسيحية وقد شاهد العالم كله على شاشات الإعلام المرئي السمعي والبصري كم كانت صليبية الجنود الغربيين عموما والأمريكيين بصفة خاصة واضحة من خلال اهتمامهم برسم الصليب على المصحف الشريف في كل مرة يقصفون فيها المساجد ويقتحمونها بحجة اختفاء المجاهدين فيها والتحصن بها.
تلك هي طبيعة المشروع الثقافي الغربي، مازال وسيظل منزلا في سياقه التاريخي الغربي الصليبي اليهودي، ولا يمكن أن يكون على خلاف ذلك، ولا يمكن لأهله وصانعي أحداثه والمدونين لها والقارئين والمحللين لها وواضعي أسسه، والمراقبين لتطوره، والمؤتمنين على أصالة العرق ونقائه وتفوقه، واكتمال الدين وإطلاقه، وعمق الثقافة وشمولها، وسمو الحضارة وعراقتها أن يكونوا على أي نحو من الأنحاء الأخرى ولا أن يكونوا على غير ذلك.
إن ما تؤكده الأحداث ميدانيا وإعلاميا قولا وعملا في الأوساط الغربية المختلفة نفسها، أن قول القائلين بأن زمن قيام الثقافات والحضارات على أساس من الدين قد ولى وانتهى ليس صحيحا. ولعل معنى الدين في قول من قال ذلك، فهم الكنيسة للدين والثقافة الدينية الكنسية. ولعل القلة القليلة من المفكرين والفلاسفة من اتجه اهتمامهم إلى نقد أو انتقاد النصوص الأصلية للمسيحية واليهودية الواردة في التوراة والإنجيل.
فقد اكتسى الهجوم على الدين و دارة المعركة والصراع معه معنى الهجوم على سلطة الكنيسة ، والمعنى الذي أصبح للدين من خلالها، ويظهر هذا المعنى في فكر مونتسكيو وفولتير و يكارت وروسو وغيرهم.
ومن هذا المنطلق تأتي الدعوة إلى نخبنا العلمانية المهجنة إلى ضرورة إعادة النظر في المعنى التاريخي للإسلام مع اجتناب القراءات السلبيةالمتهافتة، إنصافا للتاريخ، وتحقيقا للإستفادة وتأكيدا للمنهج العلمي وصولا إلى حقيقة المعنى التاريخي للدين عموما وللإسلام خصوصا، وانتهاء إلى حقيقة المعنى الأصولي له في غير نقد ولا انتقاد له، باتجاه إحداث حركة فهم له تكون أساسا لثورة ثقافية حقيقية أصلية تختلف فيها الآراء والأفهام، وتتباين فيها المواقف من التحديات التى تواجه الأمة، والصعوبات التى تمر بها، والمشاكل التى تعيشها وتؤرق أبناء شعوبها وعموم المستضعفين في العالم.
وإذا كان وضع العلمانيين في الوطن العربي وفي العالم الإسلامي وفي عالم المستضعفين عموما في سلة واحدة واعتبارهم كلهم عبثيين وعدميين، فإن ذلك لا يحول دون وجود صادقين ومخلصين ومتواضعين في مختلف بطون طوائفهم في مواطن كثيرة من عالم الإستضعاف، ويمكن أن يظل الموقف كذلك حتى زوال الإجحاف بمبادرة أو مبادرات واضحة وجادة من هذه الطوائف أو من بعض عناصر مختلف بطونها تصبح جديرة بمقتضاها برفع العدمية والعبثية عنها بل برفع ذلك عن نفسها.
وسيظل مخطئا من يعتقد أن الغرب قد تغير كثيرا عما كان عليه في العصر الوسيط ، أو عما كان عليه في وقت مبكر من التاريخ الحديث، أو يمكن أن يتغير. فتاريخه في ما بينه وفي ما بينه وبين الآخر، هو في عمومه تاريخ عنف وصراعات دموية وتصفية حسابات على خلفيات مختلفة ولغايات وأهداف مختلفة عبر مختلف مراحل تاريخه. ولذلك كان أكبر منتج للعنف والإرهاب، ولوسائل وأدوات العنف والتدمير والإرهاب. وكانت ثقافته ومناهج وأدوات حكمه كذلك. فالعنف هو المظهر الغالب على ثقافته وحضارته. ورائحة الدم والبارود هي الرائحة الأكثر انبعاثا وفوحانا منهما، خاصة وأن تاريخه المعاصر يقوم على إنتاج الصراعات والقلاقل والإقتتال وتوتير العلاقات بين شعوب وأمم الأرض، للتنشيط التجاري والصناعي وكسب الأسواق وجني الأرباح. وهو الذي يتولى تمويل الإقتتال وإشعال أوار الحروب هنا وهناك، بيعا للسلاح، وترويجا للمخدرات، وإفشاء للأمراض المزمنة الفتاكة، وتجويعا للشعوب ونهبا للثروات... ومدخله إلى كل ذلك وما يجعله أكثر يسرا،هي ثقافة العنف التى فرضها على عالم المستضعفين عموما بقوة السلاح إبان الحملة الإستعمارية التى اجتاح فيها العالم " الخامل" لبعث الحركة فيه، بهدم " بناه التقليدية" وتثبيت المنهج العلماني في الحكم والإدارة والتعليم، بإشراف مباشر في مرحلة أولى طويلة الأمد، ثم عبر النخب المتغربة التى صاغها في مرحلة ثانية. وهي التى من خلالها مازال يدير المعارك ويحقق المصالح... إن الخصوصية الثقافية هي المدحل للإستقلال الحقيقي. ولا استقلال ولا مستقبل لمن لا ثقافة أصيلة له. فبذلك وبذلك فقط كسب الغرب معركة البناء الحضاري عن جدارة واستحقاق وبتفوق وسرعة مطردة. وبذلك وبذلك فقط استطاع أن يحافظ على المسك بزمام المبادرة الحضارية، وأن يحافظ على تنمية قدراته، ويضاعف من مجهوده في الإبداع والتجديد. وبذلك وبذلك فقط يستطيع أن يواصل كسب المعارك السياسية والإقتصادية والثقافية والإجتماعية وحتى العسكرية، على خلاف ما يمكن أن يكون عليه الوضع عندنا، لأن هذه الثقافة ليست ثقافتنا، وهي ثقافة غيرنا، ولا يمكن أن تكون ثقافتنا مهما ادعينا استيعابها أو التأثر بها، أو حتى الإضافة إليها والإبداع والتأثير فيها من خلال مقومات شخصية أهلها وثوابتها وأصولها.
لقد كان الغرب الصليبي يعلم أن أحد أهم منبع قوته هي ثقافته الأصلية، ولذلك كان شديد الحرص منذ بداية عصر النهضة على التمكين لها بكل الوسائل وفي كل مكان.
وما حل الغرب بمكان من الأرض غزوا واحتلالا إلا وكانت غايته الأولى التمكين لمناهجه وتصوراته وأفكاره وبرامجه وقوانينه وعاداته وتقاليده، وفي كلمة لثقافته ونمطه المجتمعي والحضاري. والتزاما بهذه الإستراتيجية جاءت قوات الإحتلال الصليبي الأوروبي الأمريكي الغربي غازية للعراق. وليس من الصدفة أن يأتي ذلك بعد انهيار الإتحاد السوفياتي، وعاصفة الطيران المدني على نيويورك وواشنطن يوم 11/09/2001 ،وبعد التدخل الأمريكي السافر في برامج ومناهج التربية والتعليم في بلدان العالم العربي الإسلامي ودعوتها الصريحة لتغييرها. ثم لم تلبث إلا قليلا حتى خرج جورج بوش الصغير زعيم البيت الأبيض على العالم بخطته "الشرق الأوسط الكبير للإصلاح".وهو الذي يفسد في الأرض ولا يصلح.
وليس من التناقض في شيء أن يسمح الغرب الأورو- أمريكي لنفسه بالتدخل في المنطقة بهذا السفور، وأن يجد من يكون له عونا على ذلك، ويعتبر نفسه منقذا محررا في العراق وفي البوسنة والهرسك وفي كوسوفو وفي أفغانستان وفي باكستان وفي اليمن وفي دول الخليج، وبطرق وأساليب مختلفة، في الوقت الذي فعلت فيه القوات الأمريكية ما فعلت في أفغانستان، وفعلت ما فعلت ومازلت تفعل في معتقل غواتنامو، وما فعلت ومازلت تفعل في سجن بغرام في أفغانستان وسجن أبوغريب وباقي السجون والمعتقلات العراقية،وفي المعتقلات السرية المنتشرة عبر العالم التي لا يودع فيها إلا الإسلاميون ولا يعلم أحد ماذا يفعل بهم هناك، والتي كشفت المنظمات الإنسانية ضلوع الكثير من الدول الغربية الأوروبية والدول العربية "الإسلامية" العميلة فيها.
فالتحرير في الثقافة الغربية يحمل معنيين أساسيين:
- فهو يحمل معنى الحرية للإنسان الغربي الأبيض من كل القيود ومن كل المعوقات ومن كل الضغوطات تفكيرا وسلوكا، وهو حر كذلك في أن يفعل مع الأعراق الدونية والمنحطة والوضيعة على حد ما عليه ثقافته ما يشاء، معتبرا ما يقوم به إزاءها من استرقاق وتنكيل وتعذيب وإذلال وإهانة من قبيل إشعاره بمزيد الإحساس بإنسانيته على حد القاعدة الفلسفية والمعالجة الإجرامية والتبرير السخيف الذي وضعه الفيلسوف الصليبي الألماني صاحب المدرسة المثالية في الفلسفة لظاهرة الرق التي كان الرجل الغربي الأبيض قد تورط فيها بيعا وسخرة قرونا من الزمن والبعيد كل البعد عن كل شعور إنساني ، ولذلك لاحظ العالم كله إثر ظهور فضيحة سجن أبو غريب ببلاد الرافدين أن من استهجن تلك البشاعة واستنكرها وخاصة من الجانب الأمريكي، ليس لأن ذلك المستوى من التعذيب هو حط من الكرامة و إهدارا لإنسانية الإنسان الذي يزعمون أنهم إنما جاؤوا لتحريره وإعادة الإعتبار لإنسانيته التي سلبها منه نظام البعث الإستبدادي، ولكن لأن ذلك كان لا ينبغي أن يخرج إلى العالم، وعندما خرج ذلك ووجد طريقه إلى الرأي العام الأمريكي والدولي فقد تم النظر إليه على أن فيه إساءة كبيرة لأمريكا وللأمة الأمريكية ولتاريخها الذي هو تاريخ رعاة البقر ولثقافتها التي هي ثقافة الإسترقاق والميز العنصري والإبادة الجماعية والتصفية العرقية للسكان الأصليين من الهنود الحمر .ولم يكن ذلك في الحقيقة إلا ترجمة حقيقية وتعبيرا صحيحا عن طبيعة الأمة الأمريكية وعن حقيقة وطبيعة الثقافة الأمريكية.
ومن شهادة أحد المترجمين العراقيين في سجون الإحتلال نورد ما يلي:" ومنذ اللحظات الأولى لاعتقال المشتبه بهم تبدأ الإنتهاكات، فمداهمة البيوت تبدأ في أوقات متأخرة من الليل عندما يكون الناس نياما، حيث يتفاجؤوا بأصوات تحطيم الأبواب بالمتفجرات وإطلاق النار وصراخ الجنود الأمريكان، مما يجعل العوائل تنهض من النوم مذعورة ليجدوا الجنود يحيطون بهم ويوجهون بنادقهم إليهم ويصرخون في وجوههم بكلام لا يفهمونه، ويقوم الجنود بتقييد الرجال ومدهم على الإرض وتعمد إهانتهم والإعتداء عليهم بالضرب أمام زوجاتهم وأولادهم، كما يقوموا بإخراج كافة أفراد العائلة من البيت للقيام بالتفتيش، وأخذ ما يعثرون عليه من أوراق وأسلحة وأحيانا بعض النقود والذهب دون أن يستطيع أحد الإعتراض على ما يفعلون، وبعدها يتم اصطحاب الرجال معهم إلى المعتقل بعد تغطية رؤوسهم بالأكياس ذات الرائحة الكريهة وسط صراخ النساء والأطفال.
ويضيف المترجم أن الجنود الأمريكان تعودوا على استقبال المعتقلين بالإهانات حتى قبل أن يعرفوا سبب جلبهم إلى المعتقل وينظرون إليهم جميعا على أنهم أعداء ومجرمون وإرهابيون لمجرد جلبهم إلى السجن، وحتى الجنود الذين ليس لهم علاقة بالتحقيق كانوا يعمدون إلى إهانة المعتقلين لمجرد جلبهم إلى السجن، وحتى الجنود الذين ليس لهم علاقة بالتحقيق كانوا يعمدون إلى إهانة المعتقلين لمجرد الإنتقام لمقتل زميل لهم على يد المقاومة، أو لمجرد كونهم لم يعودوا إلى بلدهم كما وعدهم قادتهم(...) وعن الأساليب التى تتبعها قوات الإحتلال مع المعتقلين داخل السجن... نزع الملابس كليا عنهم وربطهم إلى الأبواب، منعهم من النوم من خلال الإزعاج بالموسيقى المرتفعة والصراخ والإستجواب المتكرر، سكب الماء البارد عليهم وإيقافهم أمام مكيفات الهواء في الشتاء وإيقافهم تحت حرارة الشمس اللاهبة لساعات طويلة في الصيف دون ماء إو طعام...الصعق بالتيار الكهربائي، كما يتم إغراق غرف المعتقل بالماء ويتم إجبار المعتقلين على الإستلقاء عراة على تلك الأرض لوقت طويل...
أما عن الإعتداءات الجنسية فيؤكد أن الأمريكان يعلمون جيدا أهمية الصمعة والشرف لدى العراقيين لذا يتعمدون الإساءة اليهم...بهدف إضعاف مقاومتهم وإجبارهم على الإعتراف بما لديهم من معلومات...إجبار المعتقلين بعد تعريضهم للتعذيب على ممارسة الجنس فيما بينهم، وعن مجندات أمريكيات أجبرن معتقلين عراقيين على ممارسة الجنس معهن وهم مقيدون خصوصا المتدينون منهم، كما يقومون بتعرية المعتقلين من شيوخ العشائر ورجال الدين وكبار السن من ملابسهم ويجبروهم على ارتداء ملابس نسائية ويسخرون منهم أمام بقية المعتقلين، وتحدت له معتقل بأن مجندة أمريكية أجبرته على التعري وهو مغطى الرأس ثم سحبته إلى قاعة ثم رفعت الكيس عنه فإذا به وسط قاعة للسجينات العراقيات اللواتي أخذن يصرخن وينظرن إلى الحائط من الحياء بينما كانت المجندة وزملاؤها يضحكون عليهم...."(1)
وبمجرد تسرب صور التعذيب والإهانة والإذلال وكل الممارسات القذرة الحاطة من إنسانية الإنسان لوسائل الإعلام العالمي الرسمي والحر، تداعى الكونغرس الأمريكي لتدارس الأمر واستجلاء حقيقة ما حصل


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.