منذ سنوات قليلة، كان الجدال قائما حول مسألة الشعر الموزون والشعر غير الموزون (بين العمودي والحرّ، بين القصيدة الخليلية وقصيدة النثر، بين القصيدة التقليدية والقصيدة الحديثة...). هذا الجدال كان المحرّك الاقدر «على خوائه» للكتابات النقدية. لم يكن الامر سهلا أعني قبول غلبة هذا النوع من الكتابة الشعرية على الاخر كان يبدو مصيريا محددا لطريقة القول الشعري وللحكم على ما يقال. «لقد» انهم انشبوا الحرائق هنا وهناك طلبا للضوء وإنارة السبل لكنهم أتلفوا المحصول. الموضوع الاساسي والمتكرّر منذ الثورة الشعرية العربية الاولى كان «الايقاع» الذي يختزل عادة في الوزن الخليلي واذا تجاوز هذا المفهوم فالى مرادفات له تقبع في مداره واليه تنتسبُ. والحقيقة هي ان الوزن غير الايقاع. ثم روابط بينهما لكنهما يتنافران اكثر مما يتجاذبان والحقيقة أن الايقاع ليس خاصا بالشعر وعلينا ان نناقش الايقاع في النثر فطرح المسألة داخل النصوص النثرية أقرب الى الواقع والمنطق. والحقيقة ان ا لايقاع ليس خاصا بالنصوص الادبية فقد يوجد في نصّ غير أدبي. والحقيقة أن الايقاع ظاهرة توجد في الحياة بصفة عامة قبل النصوص. لكن معنى الايقاع بهذا الوجه من وجوه الطرح يضيع ويتلاشى ويفلت من كل تقنين وتقعيد اي من كل نظام. نعم، الأمر كذلك، لأننا اذا حسرنا النظر في كل ما هو قواعد مضبوطة وسلمنا بضرورة ضبط المفاهيم خرجنا من مبحث الايقاع الى مبحث اخر مختلف تماما من حيث الطرح وآليات التفكير وهذا هو المنزلق الخطير الذي سقط فيه أغلب الذين خاضوا المعارك باسم الدفاع عن قضيّة الاوزان الخليلية أو باسم الخروج عليها. قد يتبادرُ الى الاذهان ان دراسة الايقاع غير ممكنة في غير العروض والأوزان. والواقع ان في كل لغة عروضا واوزانا تختلف باختلاف خصائص الكلام ووحدات القياس والمصطلحات والمفاهيم انطلاقا من الاختلاف في مفهوم الايقاع والنظريات والمختصين فيها. ولكن ما دمنا في مجال اللغة العربية فلنجمل النظر في امرها ولننظر كيف تعامل اهلها مع مسألة الايقاع. إن معنى الايقاع انحصر في مفهوم الوزن ومعنى الوزن في أذهان العرب هو بحور الخليل وقواعد الشعر التي ضبطها وما قالوه في القافية وعمود الشعر والتفعيلة وهذا أمر طبيعي، فالمعوّل هنا يبقي على نظرية الخليل. فالوزن ينتظم الكلام الذي نصطلح عليه بالشعر بقطع النظر عن الشعرية في النص لأن المنظومات التعبيرية لها أوزان وان كانت ضعيفة السمة الشعرية. أما الايقاع فظاهرة في الكلام مهما كان الكلام ومستواه. كلّما تحدثنا عن الوزن انحصر تفكيرنا في الشعر وحده، أما الايقاع فيهمّ الشعر والنثر والسجع والخطبة والرسالة والتقارير الادارية اليوم والمقال الصحفي وغيرها. الأمر كذلك وقد نعرّج على ظاهرة الايقاع في غير الشعر طيّ هذه الورقات التي لا تبحث في النظم الوزنية وليس يشغلها شأن البحور الخليلية وقوالبها الصوتية التي يخضع لها البيت الشعري القديم او الأسطر الشعرية في القصيدة الحرّة أو في ضروب اخرى انبثقت من هذا وذاك. لا يمكن الحديث عن الايقاع ما دمنا واقعين تحت سيطرة مفهوم مهيمن نعني «الوزن الخليلي». يجب أوّلا التبرأ من كل نظام وزني والتنكّر لمقولات سجنت هذه الظاهرة داخل اطر شكلية لا يمكن بحال ان تمسّ جوهر الشعر او تقترب منه. سنقول للمرّة الاخيرة «الوزن لا يصنع الشعر» نعم قد يتخلّل الوزن قصيدة ولكنه لا يصنع شعريتها «الوزن ليس الايقاع» نعم قد يكون أحد عناصره في حالات مخصوصة منه ولكنه لا يمثله تماما. الايقاعات حرّة الاوزان مقنّنة مضبوطة فالوزن بهذا الطرح تطبيق او تحقيق لنماذج ايقاعية جاهزة في الذهن لكن الشعر لا يخلو من ايقاعات حرّة بقطع النظر عن اوزان الخليل. لن نخوض في تنويعات الأوزان اي نظام العلل وضروب الزحافات وأنواع القوافي المعتمدة فتلك من شأن بحوث اخرى. ولن نخوض في مسألة النبر في الكلام فليس من السهل دراسة النبر ولم يتوصّل بعد الى وضع قواعد او اليات في هذا الموضوع. وهو امر يخصّ المشافهة اكثر مما يخص الكتابة. وخلاصة القول ان في تراثنا نظرية في الوزن محكمة البناء منسجمة وليس فيها نظرية في الايقاع. ماذا نقصد بالايقاع اذن؟ إنّ الظواهر التي تصل المعنى بالمبنى في القصيدة. القصيدة الحقيقية وليس ما يتشبّه بها أو ما يُروّج له كما يروّج لبضاعة استهلاكية لابد للايقاع من كيان صوتي / تركيبي / تعبيري. للبحث الحديث آراء في مسألة الايقاع ونزعة الى وضع نظريات تدل على دقة المسألة وتوسّع جوانبها مهما تنوّعت زوايا النظر إليها ووعي بأهمية الايقاع في جميع أنواع الكلام وأثره في بناء معانيه وتوجيه الرؤى فيه. نركّز هنا على احدى النظريات التي قاربت الاكتمال وتشكلت ملامحها نقصد نظرية الباحث الشاعر الفرنسي هانري ميشونيك وهنري ميشونيك هو شاعر وناقد فرنسي مولود بباريس سنة 1932 وهو أستاذ الالسنية بجامعة فانسان وقد نشر مجموعة من الكتب الشعرية منها في اعاداتنا 1976 أسطوري كل يوم 1979 نحو العبور 1990. ونقد الايقاع 1982 . النظم والحياة 1990 / الحداثة، الحداثة 1994 / سياسة الايقاع، سياسة الموضوع 1995 / انشائية الترجمة 1999، وتمجيد الشعر 2001. ويدرك متابعو أعمال ميشونيك مدى مراهنته على بناء نظرية متكاملة حول مسألة الايقاع مراهنة انطلقت منذ صدور اطروحته «نقد الايقاع» وتواصلت في كتبه الاخرى بنفس الاصرار والطموح. وقد قامت شهرة ميشونيك على اساس ما حوته كتُبه النقدية من طرح جديد لمسألة الايقاع في الكلام عامة، وبحث مغاير عن تعريفات اشمل له واكثر التصاقا بالفكر الانساني الحديث «المتحرّك». وطبيعي ان يكون كتابه «نقد الايقاع» مرجعا لا غنى للباحث في الادب عامة وفي الشعر خاصة عنه. الكتابُ يقطع مع سائر الكتب النقدية التي تناولت هذا الموضوع ويرسي أسسا مستحدثة في التعامل معه لا باعتباره مكوّنا من مكوّنات الكلام الموقّع بل باعتباره ظاهرة متأصّلة في الكلام عامة تنبئ عن اصول تكوّنه ومدارات تقبّله وتأويله. إنه كما يقول مسار نقدي للفكر الانساني من خلال الكلام وايقاعه وهو الى ذلك دراسة تحليلية للعلوم اللسانية وطريقة جديدة للنظر الى النصوص بحثا عن المفاهيم التي ظلت غائبة او محجوبة وسط زخم المفاهيم الرائجة والتي يعتبرها مشابهة للسلع الخاضعة لقانون العرض والطلب. ويهتم ميشونيك في كتابه «نقد الايقاع» بالأدب الفرنسي والانجليزي والألماني والروسي والاسباني والعبري والعربي أيضا ومن ثمّة شمولية منطلقاته وموضوعية النتائج المتوصّل اليها فيه. إنه مغامرة أكثر من كونه بحثا اكاديميا تحكمه تقاليد وحدود منهجية. يحتوي الكتاب على خمسة عشر محورا بعد المقدّمة هي: 1 تاريخية النظرية 2 أنشطة نظرية أنشطة شعرية 3 مأزق نظرية الايقاع 4 الكلام بلا موسيقى 5 الايقاع بلا وحدات قيس 6 القصيدة والصوت 7 مسافات الايقاع 8 أوضاع الايقاع 9 نثر وشعر 10 العروض الخالص او عروض الخطاب 11 الاعداد والتصرّف الذاتي 12 لا للبيت الشعري الحر نعم للقصيدة الحرّة 13 التقليد الكوني 14 نقد أنتروبولوجيا الايقاع 15 لا للعلامة. نعم للايقاع ويؤكّد هذا المحتوى ان مجال اهتمام الباحث ممتدّ في الزمان وفي المكان ويسعى الى الالمام بشتى المواضيع النقدية التي تتصّل بمسألة الايقاع وفيه ا يضا خروج الى فضاءات أرحب من عالم الادب لأن ميشونيك يرى ان للايقاع علاقة بكل الانتاجات الانسانية مهما تباينت. في تعريف الايقاع : الايقاع: المصطلح في أصله اليوناني يعني الجريان والتدفّق. يرى جان كوهين ان الايقاع دورية زمنية ملحوظة. يرى ريتشاردز (مبادئ النقد الادبي) ان الايقاع يعتمد على التكرار والتوقّع. يقول بول فاليري (يورده نبيل رضوان في كتابه). لقد قرأت بل صنعت عشرين تعريفا للايقاع الا انني لا أتبنى اي تعريف من هذه التعريفات. الايقاع خطوط عمودية ترسم على خط الزمن الأفقي. الايقاع يحدث حركة كأنه يقطع الزمان الذي عليه الكلام. الايقاع هو ما يدلّ على تغيّر وتيرة الكلام فإذا استتبت الرتابة انتفى الايقاع. الايقاع توظيف صوتي وتوجيه معنويّ يتحقق بالتطويع. تطويع بين المبنى والمعنى، بين التصوير والتخييل بين الصوت والكلمة بين التعبير والتركيب. الايقاع مسألة كما نلاحظ من خلال هذه التعريفات شديدة التعقيد ومنسرحة عن التقنين والتحديد وهي على خلاف «الوزن» تخلو من قواعد مضبوطة لذلك تحتاج الى مزيد من البحث بل لعلّ مسألة الايقاع في القول الشعري وغيره ما تزال منطقة عذراء تنادي عقول الباحثين وتغري الدارس غواية. تعرّضت سوزان برنار الى مسألة الايقاع خلال حديثها عن الانساق الايقاعية. قصيدة نثر وقصيدة نظم. لدى بودلير. وركّزت على تشكل الجمل داخل القصائد وما يعنيه ذلك من حالات للذات الشاعرة اثناء الكتابة أو أثناء بناء القصيدة فتذكر مثلا الجملة المتنافرة الجملة المتموّجة الجملة الغنائية وكل نوع من هذه الجمل يعكس اسلوبا معيّنا وايقاعا مخصوصا تنتجه ثنائية الذات الشاعرة / الموضوع. وهذا ما يستعيده ميشونيك فيعمّقه ويربط بينه وبين العلوم الانسانية عامة فتغدو القصيدة بالنسبة اليه مجمع أصوات أصوات الفرد والمجتمع والتاريخ والجغرافيا والسياسة والمستويات الجمالية والفكرية. ويغدو الايقاع في النص بالنسبة اليه كلاّ منسجما لا يمكن فصل مكوّناته بسهولة ولذلك يميل الى القول بأن الايقاع انما هو مسألة تهم القارئ اكثر مما تهم الشاعر باعتبار أنه اقدر على تغيير هذا الايقاع بعد اكتشافه داخل النصوص وفق مستويات التقبّل لديه ووفق حساسيته الفكرية والنفسية. فاذا كان الايقاع غير مضبوط فكيف نستدرجه وكيف نتفاعل معه وكيف نشير اليه؟ (درويش). * في شهوة الايقاع (مقاطع منتخبة): 1) الاصدار: توارد خواطر او توارد مصائر. لا أنت أنت ولا الديارُ ديارُ أبو تمّام والآن، لا أنا أنا ولا البيتُ بيتي لوركا. الايقاع يعتمد على التكرار والتوقع ريتشاردز (1893/1979) مبادئ النقد الادبيّ إن المقطعين متشابهان بشكل ملفت لا في المعنى فحسب بل في الايقاع ايضا (وهذا بقطع النظر عن الوزن الخليلي). نقول هذا الاستنتاج تجاوزا لأننا لا نفصل المعنى عن الايقاع فالمعنى أحد مولّدي الايقاع بل هو ثاني اثنين في تحديد هذا الامر.الذات الكاتبة والموضوع. بهذا يكون الايقاع تمظهرا لكليهما في الخطاب. للذات الكاتبة ايقاعها الخاص. فقوّة الشاعر تنشز من ايقاعه الخاص (آلان موقف الشاعر). وقوّة الموضوع تنشأ من ايقاعه الخاص. فشهوة الايقاع عند درويش هي شهوة الذات الشاعرة في الخروج من ايقاعها القديم والبحث عن ايقاع جديد، ايقاع معلن منذ البدء. ولكنّه مخادع، يقول ما لا يُضمر ويحاول التنكّر ليظلّ في منطقة مظلّلة، فكما يحجب القناع الوجه الذي يحمله فإن الوجه يحجب هو ايضا قناعه. فقراءة مقطع «لوركا» يترك الانطباع بمعان يمكن اجمالها في معنى التحوّل / الفاجع اي اكتشاف حال جديدة وواقع مرعب. والآن... (بعد ما وقع...) (بعد طول هذه الاعوام الطويلة). أكتشف ما يلي: والآن،... لا أنا أنا ولا البيت بيتي: المعنى الظاهر هو النفيُ أما ما يذهب اليه درويش «القارئ» اي «متقبل النص ومنتجه في آن باعتبار تبنّيه للمقطع ووضعه في بداية المجموعة، فهو معنى مختلف تماما إنه معنى يناقض المعنى الاول. ولنقرأ من جديد: والآن لا... (أنا أنا) والآن لا... (البيتُ بيتي) المعنى المتستّر هو التأكيد وبالعودة الى «مقطع» أبي تمام يمكن ان نكتبه على النحو التالي: لا... أنت أنت والديار ديارُ إنه الايقاع الذي يقود هذه القراءة الى اعادة تمثّل الكلام الى اعادة بنائه، لأنه (أي الكلام) لا يحضر ذات الشاعر فقط بل يستدعي حضور ذات المتقبّل. وهنا مربط الفرس. فالقارئ كثيرا ما يقول لو أعيد كتابة هذا النص لأبرزت معان اخرى. لا يتوفّر هذا الامر الا بعد معاشرة النص والالمام بكلياته وجزئياته والايقاع تنغيم للمعنى لفرط حضور الذات (ذات الشاعر / ذات القارئ) أي رافد من روافد الاسلوب. والاسلوب كما نعلم مرتبط بالذات. دعنا الآن نتفحّص العنوان. جملة لاحقة (لا تعتذر عما فعلت) = (اعتذر عما فعلت) جملة سابقة يعلّق الشاعر: يقول: الشاعر يقول «لنفسه» ص 25 نحن أمام معنيين متباينين (موقفين). الجملة اللاحقة تنفي الجملة السابقة. موقف الشاعر العميق هو الاتيان بما ينفي ما يريد قوله بالفعل. وإذا طبقنا هذا على التصدير اي انه اختار مقطعين ينفيان ما يريد قوله (واعيا او غير واع). وبالتالي يصبح ما ذهبنا اليه قابلا للصحة. والواقع اننا كلّما تقدّمنا في المجموعة ازداد يقيننا بأن الفكرة التي تقوم عليها القصائد، فكرة واحدة (معنى واحد) (ايقاع واحد). قول شيء والعودة عنه في ذات الوقت). أو و قول شيء بعكس ما يجب قوله الانفصال عن الذات بغاية معارضتها في ما تقول وما تكون (الظلّ ص 83) (هو هادئ، وأنا كذلك ص 87) * نص المداخلة التي القيت في ملتقى المروج للشعر