ذكر الرواة عن الفرزدق أنه قال: «أنا عند الناس أشعر العرب ولربّما كان نزع ضرس أيسر عليّ من أن أقول بيت شعر». وورد في كتاب الامتاع للتوحيدي (1) عن صعوبة مخاض الشعر ما يلي: «له أرَن كأرَن المُهر وباء كإباء الحَرُون وزهْو كزَهو المَلِك وخفق كخفق البرَق وهو يتسهّل مرّة ويتعسّر مرارا، ويذلّ طورا ويعزّ أطوارا». وانُوا يستُندون الى اعتقاد واهم أن فطاحل الشعراء لهم شياطين للشعر ويذكر في هذا الصدد: «لافظ بن لاحظ» شيطان امرئ القيس، و»هبيد» شيطان عبيد بن الأبرص، «وهادر» شيطان زياد الذبياني، و»مسحل بن جندل السكران» شيطان الأعشى (2) وتوهّم العرب أن هؤلاء الشياطين يقرؤون بمساعدتهم لأصحابهم من الشعراء على الشعر. ويروى أن «لافظ بن لاحظ» قال: «أنا والله منحته ما أعجبك منه» أي أنه منح امرئ القيس ما أعجبك من شعره أيها السامع أو القارئ. إن العرب القدامى جعلوا من الشياطين والأوهام نبع شعرية قصائدهم. كما أنهم فاضلوا بين الشعراء وبالتالي بين شعرية قصائد شعرائهم بخلق طبقات لهم. فقد اختار أبو زيد القرشي في كتابه: «جمهرة أشعار العرب» «تسعا وأربعين قصيدة قسّمها الى سبع طبقات، في كل طبقة سبع قصائد، وفي أعلى الطبقات: طبقة السموط وهي المعلّقات، وتليها المجهرات والمنتقيات والمذهبان والمراثي والمشوبات والملحمات» (3). فالتصنيف يخضع للطول والقصر وللأغراض وكذلك لشهرة القصائد. وإن كان الرقم سبعة له دلالات عقائدية وميثيولوجية، أما ابن سلام الجمحي في «طبقات فحول الشعراء» فقد قسّم كتابه الى: (4) طبقات الجاهليين وتضمّ عشر طبقات. طبقات أصحاب المراثي وهي طبقة واحدة طبقات شعراء القرى وتضمّ خمس طبقات طبقات الاسلاميين وتضمّ عشر طبقات. ويعتبر توفيق الزيدي أن مقاييس الجمّحي ثلاثية: زمانية ومكانية وغرضية. فالشعراء بل النقاد والرواة كانوا يصنّفون الشعراء اعتبارا بجوانب خرافية كما رأينا أثناء حديثنا عن شياطين الشعر وأخرى اجتماعية باعتبار النسب والحسب للشعراء ثم للجوانب التقنية وهذا ما توصّل اليه الزيدي في تحديده لأدبية النص في التراث النقدي الى نهاية القرن الرابع للهجرة. فأما في أيامنا هذه، فقد ظهرت تصنيفات من نوع آخر مثل: أدب الشباب، وأدب نسوي، وأدب ذكوري وما الى ذلك. وما يهمّنا الآن هو شعر الشباب. وقد تحدّثنا في هذا الصدد قديما ونشرنا في أمره ما حدّدنا فيه مفهوم أدب الشباب ودور هؤلاء في تحريك الساحة الشعرية خاصة والأدبية عموما. I في الشعرية : بعد أن استقرأ الخليل بن أحمد الفراهيدي الشعر العربي واستنتج البحور، تحدّدت الشعرية في القصيد العربي بالوزن والقافية وهو ما ذكره قدّامه بن جعفر. وهذا ما جعل ألفية ابن مالك في النحو وسينية ابن سينا في النفس وبردة البصيري ومعلقات شعراء ما قبل الإسلام في نفس القيمة التفاضلية باعتبار أن هذه النماذج توفّر الوزن والقافية... إلا أن الدراسات القرآنية اصطدمت بهذا التعديد للشعرية وأربكت النقاد ومن لهم اهتمام بالشعر نظرا لوجود آيات قرآنية يمكن أن تتّفق والأوزان الشعرية الخليلية. فأضاف الباقلاني عنصري «القصد والنية» (5) أي أن القائل عليه واجب النية بأن ما يقوله هو شعر. وسوف لا أتابع تدرّج النظرية العربية في الشعرية، لكنني سأتناول هذا المصطلح الحديث لدى المعاصرين. إن العرب تناولوا الشعرية على أسس ظواهر منعزلة مثل الوزن والقافية والايقاع الداخلي للنص أو الرؤيا. وفي الدراسات الغربية نجد دراسة ل: تودوروف «Todorov» في الشعرية وأخرى ل: ريفاتير «Riffaterre» في «سيميائيات الشعر» كما كتب «رومان ياكوبسن Yakobson» في الوظيفة الشعرية. وهذه الدراسات تلتقي مع ما كتبه «موكاروفسكي Mukarovsky» في «لغة الشعر» سنة . (6) ولم تصل دراسة الى حسم هذه المسألة مسألة الشعرية رغم طموح أصحابها لذلك يقول كمال أبو ديب (7): «وسيكون من السذاجة حتى أن تطمح هذه الدراسة الى حل مشكلة الشعرية أو تقديم ما يزعم أنه فهم نهائي لأبعادها. فقد شغلت هذه المشكلة الفكر النقدي في العالم منذ أرسطو، وما تزال تحتل موضعا مركزيا في أنظمة نقدية وجمالية كاملة. لقد حدّد «أمبروت إكو Umberto Eco» مثلا غاية المنهج النقدي الذي أسسه (كروتشة Croce) بأنها إقامة حدّ فاصل بين الشعر واللاشعر». وانشغلت بها جماعة الشكليين الروس واهتم بها إليوت ورولان بارت صاحب كتاب: «الكتابة درجة الصفر». وليتبيّن المرء حيرة المهتمين بقضية الشعرية نسوق هذه القولة لتودوروف: «من أجل أن نحدّد الشعر، يكفي أن نقول كيف يختلف عن النثر، إذ أن الشعر والنثر يملكان أيضا نصيبا مشتركا هو الأدب». والحديث عن الشعرية يفرض علينا: تحديد مجال الشعرية في النظرية العربية القديمة ابراز عيوب أو فضائل هذه الشعرية تشكيل الرؤية الى الشعرية. إن النظرية العربية تختزل الشعرية في البحور الا أن هذه البحور تحوي عديد الهنات نذكر منها: 1) أن تشريع اللجوء الى الزحافات والعلل يُدخل الخلل على البحور فيختل الكمّ الصوتي وبالتالي الزمني 2) الاختلاف في كمية المقاطع بين النظري والتطبيقي فالبحر عادة يتضمّن مجموعة من المقاطع في المستوى النظري ولما يدخل حيز التطبيق ويتضمن زحافا أو علّة فإن عدد المقاطع يتقلص، لذلك أقدّم القائمة التالية والخاصة بالبحور (8). البحر الطويل : نظريا يتضمن 14 مقطعا وفي التطبيق يمكن أن يكون 13 مقطعا البحر المديد : وزنه النظري 14 مقطعا والمستعمل 11 مقطعا والحد الأدنى 9 البسيط : وزنه النظري : 14 مقطعا يمكن أن يكون 10 مقاطع الوافر : وزنه النظري : 15 مقطعا والمستعمل 13 والأدنى 8 الكامل : 15 مقطعا نظريا والمستعمل بل الحد الأدنى 9. الهزج : النظري 12 ووزنه المستعمل 8 والحد الأدنى 7 الرجز : 8/12 الرمل : 7/12 المتقارب : 11/12 (وقليلا ما يكون 8) المتدارك : 11/12 الخفيف : 11/12 أو 8 السريع : 12/10 المنسرح : 12/ 11 المضارع : وزنه النظري 12 والمستعمل 8 والحد الأدنى 8 المقتضب : 8/8 المجتثّ : وزنه النظري 12 ووزنه المستعمل : 8 وحدة الأدنى: 8. 3) اختلاف الصوت في المقطع الواحد مثل: مِن # مَن # في كذلك = على # لَفي الخ.. وهذا من شأنه أن يحدث خللا صوتيا في الوزن. 4) إذا نظرنا الى النص وأردنا تحسّس «الشعرية» فيه توجّب علينا التأكيد على: أن الشعرية هي انجاز لشركاء ثلاثة وهم: الشاعر (الباث) ثم القارئي (السامع/المتقبّل) وأخيرا صاحب المطبعة أو شريط الكاسيت (أداة الارسال). فالشاعر يشكّل الشعرية في ذهنه قبل تسجيل قصيدة الشعري كتابيا أو بصريّا أو سمعيّا وذلك في ذهنه: فهو يسأل نفسه: كيف ستكون شعرية القصيد؟ أما الناشر أو صاحب المطبعة فهو الذي يحدّد أشكال الحروف ومساحات البياض والسواد وطريقة الاخراج. وأخيرا المتقبّل، وهذا الشريك الثالث يعتبر هاما لأنه يخضع للمكتسب المعرفي والحالة النفسية التي عليها أثناء التعامل مع القصيد سمعا أو بصرا. والحديث عن الشعرية يفضي بنا البحث فيها وعنها الى قضية التجريب.