تعيين خبراء لتدقيق التقرير المالي للنادي الإفريقي    السينما التونسية تحصد أربع جوائز في اختتام الدورة التاسعة لمهرجان العودة السينمائي الدولي    نابل تحتضن الدورة الثانية من الملتقى العربي للنص المعاصر تحت شعار " المجاز الأخير: الشعر تمرين على الوجود"    جمعية الصحة العالمية تعتمد بجينيف اتفاقية الوقاية من الجوائح الصحية والتأهب والاستجابة لها وتونس تصوت لصالحها    عاجل/ حجز اكثر من 300 صفيحة "زطلة" وكمية من "الكوكايين" بهذا الحي من العاصمة    ثلاث شركات ناشئة تونسيّة تتأهل للقائمة المختصرة لكوالكم "صنع في أفريقيا 2025"    كأس افريقيا للأندية الفائزة بالكاس للسيدات: تأهل الجمعية النسائية بالساحل الى الدور نصف النهائي    من الهند إلى تونس: عيد الألوان يغسل الحزن بالفرح    عاجل/ بريطانيا تستدعي سفيرة اسرائيل لديها وتتّخذ هذا الإجراء    سعر الأضاحي يصل 1400 دينار بهذه الولاية.. #خبر_عاجل    كرة اليد: مكتب جديد للرابطة النسائية برئاسة محمد علي الزياني    تشامبرز: لن نعترف بأي قرارات جديدة من هيئة دخيل قبل استشارة فريق عملي    كانوي كاياك: استحقاقات دولية هامة تنتظر أحمد سليم الجماعي خلال شهري جوان وجويلية القادمين (المدير الفني للجامعة)    عاجل/ نتنياهو يهاجم هؤولاء الرؤساء..وهذا هو السبب..    اتهام ابنتي نور الشريف بالاستيلاء على مليون جنيه    توننداكس يزيد ب10،25 بالمائة نهاية الثلاثي الأوّل من 2025    تونس: صابة قياسية في الفستق    بالفيديو تعرف على المشهد الذي أبكى عادل إمام وتفاصيله    في قضية رجل الأعمال يوسف الميموني: تمديد الإيقاف التحفظي بمحام    خلال ندوة رفيعة المستوى بجنيف.. تونس تبرز تجربتها في المشاركة المجتمعية في السياسات الصحّية    كأس تونس لكرة القدم : تعيينات مباراتي الدور نصف النهائي    مشروع تنظيم صالون البناء في مصراتة بتنظيم مشترك بين غرفة التجارة بصفاقس ونظيرتها الليبية.    10 سنوات سجنا لمروج كوكايين بحي النصر والمنازه    وزير الصحة يؤكد استعداد تونس لتكون منصة إقليمية لتصنيع اللقاحات والأدوية    أمطار أفريل: الشمال والوسط يُسجّلان معدلات قياسية    هذا موعد عودة درجات الحرارة الى المعدلات العادية..    في عيد الأم: 6 هدايا بسيطة... بقلوب كبيرة!    مجدي الكرباعي : "رابطة حقوق الإنسان دافعت عن المهاجرين ولم تصمت عن الترحيل القسري"    جريمة قتل مروعة/ فصل رأسه عن جسده: شاب ينهي حياة والده شيخ 95 سنة..!    الدورة الأولى لتظاهرة 'في الكتابة المسرحية' من 29 الى 31 ماي الجاري بمركز الفنون الدرامية والركحية بأريانة    ساحة باردو: تحويل جزئي لحركة المرور ودعوة مستعملي الطريق إلى الحذر    مصر: سقوط طائرة عسكرية ومقتل طاقمها    نقابة التاكسي الفردي: نسبة نجاح الإضراب تجاوزت 95% وتعليق مؤقت في انتظار نتائج التفاوض    في هذه الولاية..وفرة في الأضاحي وأسعار أقل ب150 دينار مقارنة بالسنة الماضية    انطلاق عملية التسجيل وإعادة التسجيل في رياض الأطفال البلدية التابعة لبلدية تونس للسنة التربوية 2026-2025    بشرى سارة: انخفاض أسعار الأضاحي بهذه الولاية..    إطلاق خط جوي جديد دبلن – النفيضة    تقلبات جوية منتظرة بداية من هذا التاريخ    اليوم في الجلسة العامّة: البرلمان يحسم في تنظيم العقود ومنع المناولة    فلاحو تطاوين يرفضون تسعيرة 21.900 دينار للكيلوغرام الحي: ''السعر العادل يبدأ من 26 دينارًا''    السجن ثم السفارة: المصادقة على تعيين أب صهر ترامب سفيرًا بفرنسا وموناكو...مالقصة؟    طرابلس: العثور على 58 جثة مجهولة الهوية في مستشفى    رئيس الجمهورية: الثورة التشريعية لا يمكن أن تتحقق الا بثورة في إدارة المرافق العمومية    طقس اليوم: ظهور خلايا رعدية محلية مرفوقة بأمطار    طهران: تونس تدعو دول منظمة التعاون الاسلامي إلى إقامة شراكة متضامنة ومستدامة في مجال البحث العلمي    النائب رؤوف الفقيري: السجن لكل من يُمعن في التشغيل الهش... ومشروع القانون يقطع مع عقود المناولة نهائيًا    غياب الترشحات لرئاسة وعضوية الهيئة المديرة للنادي الصفاقسي    نابولي وإنتر دون مدربيهما في الجولة الختامية من الكاتشيو    الجزائر تتهم فرنسا بخرق اتفاق الجوازات الدبلوماسية    صفاقس: افتتاح وحدة حديثة لتصفية الدم بالمستشفى الجامعي الهادي شاكر    خلال الحفل السنوي بفرنسا...تتويج تونسي في مهرجان «كان» السينمائي    المهدية... في اختتام شهر التراث.. «الجبة» واللّباس «المهدوي» في قائمة «اليونسكو»    موعد رصد هلال ذي الحجة    هذا موعد رصد هلال شهر ذي الحجة..#خبر_عاجل    الخطوط التونسيّة تؤمن 44 رحلة لنقل 5500 حاج خلال موسم الحج    رصد هلال ذو الحجة 1446 ه: الرؤية ممكنة مساء هذا التاريخ    لا تُضحِّ بها! هذه العيوب تُبطل أضحيتك    من تجب عليه الأضحية؟ تعرّف على الشروط التي تحدّد ذلك    









في أسبوع الفن التشكيلي بعين دراهم: الابداع أولا، والابداع أخيرا جوانب أخرى مضيئة في حياة العميد
نشر في الشروق يوم 18 - 06 - 2005

«... هي وحدها لوحة بديعة، ساحرة، معروضة على الدوام.. سترون ذلك بالعين المجرّدة، وستلمسونه في تلك الصلة الحميمية التي ستشعرون بأنها تربطكم بنبض قلوب اهاليها».
تلك هي الكلمات التي قالها فنان تشكيلي الى عدد من اعضاء الوفد الصحفي الى اسبوع الفن التشكيلي بعين دراهم في دورته السابعة، وكان يقصد بالطبع عاصمة خمير، المدينة الرابضة عند أقدام جبل «البير».
فعلا، كانت عين دراهم لوحة ساحرة وهي تستقبل زائريها وتحتضنهم بكل الحب، وتودعهم بحب اكبر، متمنية ان يعودوا اليها في كل آن وحين.
ولسوف تظل الزيارة ذكرى جميلة لا تمحوها الايام ولا يلفها النسيان.
هكذا، هي عين دراهم متسربلة بالسحر والبداعة ومتوشحة بالجمال والوداعة.
نعم، هي كذلك دوما، وستظل فهذا الارتباط الوثيق بينها وبين الجمال والسحر الطبيعيين لا مجال للشك فيه.
ويكفي ان نعرف ان المعتمدية توجد بها على بعد كيلومترات قليلة من المدينة اقدم المنظومات البيئية في العالم، وهي مخثة «دار فاطمة» التي تعود الى 33 الف سنة وهذه المخثة الواقعة على ارتفاع 770 مترا عن سطح البحر هي وسط بيئي طبيعي لا نظير له في كل اصقاع الدنيا، وهي نتيجة لترسّب النباتات الميتة في الاماكن المغمورة بالمياه.
ولكونها منظومة بيئية فريدة في العالم، فقد ادرجت ضمن قائمة المناطق الرطبة التونسية ذات الفوائد المختلفة. وسجلت ضمن افضل الاماكن الممتازة للسياحة الايكولوجية او السياحة الخضراء.
وحتى نقرّب الصورة الى الاذهان نقول ان المخثة عبارة عن حشية (جراية) اذ يمكن للمرء ان يقفز فوقها فيرتفع وينزل، تماما كما يحصل لو انه قفز فوق الحشية وهذا وحده مدعاة للتأمل في عظمة الخالق عز وجل وقدرته على صنع العجائب، والمخثة هي، فعلا، احدى عجائب الدنيا.
بناء شامخ
حلة أخرى من السحر والجمال لبستها عين دراهم، وهي تعيش عرسها السنوي: اسبوع الفن التشكيلي.
هذا العرس ذو الأبعاد الثقافية والاقتصادية والسياحية والترفيهية يزيد المدينة بهجة وحبورا وتوهجا بما يقدمه لزائريها واهاليها من فقرات وأنشطة غزيرة ومفتوحة على ضروب من الابداع الثقافي وصنوف من الابداع الفني، وذلك على الرغم من ان عاصمة خمير لا تشكو، والحمد لله، من ظمإ ثقافي مقارنة ببعض الجهات. وكيف يشكو من الظمإ من له عيون عين دراهم؟ كانت المدينة ترفل في ابهى الحلل، عندما حلّ بها عشية السبت الماضي وفد من الصحفيين والفنانين التشكيليين والاستاذ الجامعي المنجي معتوق عضو الاتحاد. ومازالت بالتأكيد الجازم ترفل في الحلل ذاتها لأن عرسها سيتواصل الى بعد غد الاحد.
وبالطبع فإنها لن تخلع برقع الفرح بانتهاء العرس ولن تشح بحبها وسحرها على زائريها خلال هذه الصائفة، وهي التي اعتادت ان تحتضن الجميع بكل الدفء وبكل الجمال والعذوبة.
هناك، في دار الشباب قبالة نادي ابو القاسم الشابي (الذي اصبح الآن اثرا بعد عين) عُرضت في قاعة فسيحة مجموعة كبيرة من اللوحات التشكيلية والصور الفوتوغرافية التي انجزها فنانون محترفون منهم من هو آت من وراء الحدود كالفنان الليبي احمد السيفاو، ومنهم من اجتباه الله كالفنان ابراهيم الضحاك اذي اكرمته هذه الدورة، جريا على سنة حميدة دأبت عليها التظاهرة منذ دورتها الاولى وهي تكريم رواد الفن التشكيلي الاحياء منهم والأموات.
ولسوف تظل ذاكرة جمعية الفن التشكيلي بعين دراهم (وهي الهيكل الراعي للتظاهرة) تحتفظ بصور وانطباعات جد طيبة عن مدى تحمّس الدكتور علي الكسيكسي والي جندوبة لكل ضروب الابداع والابتكار والاختراع فالسيد الوالي ما انفك يرعى كل اداء ثقافي وابداعي، ومافتئ يحضّ على الانخراط الواعي صلب الممارسة الثقافية لأنه يؤمن شديد الايمان (وهذا ما يعرفه عنه الجميع) بژأن الفكرة المستنيرة والثقافة الواعية هي الأدوات الفاعلة التي يمكّن بها مواجهة كل تحديات العصر والتغلّب عليها.
ومما له دلالة في ما يتصل بحرص السيد الوالي على دعم النشاط الثقافي ان سيادته قد وفّر للجمعية ولكل الجمعيات والهياكل الثقافية بالجهة الدعم السخي، وزاد فقرر وضع مقر خاص على ذمة جمعية الفن التشكيلي، وهو مقر فسيح ومتعدد الاجنحة ويقع على مرتفع يشرف على المدينة وسترممه الجمعية بمساعدة السلط الجهوية والمحلية.
وبذلك، وضع الدكتور علي الكسيكسي الاسس الاولى لبناء ثقافي شامخ، ينتظر ان يشع على كافة ارجاء الوطن، على اعتبار ان الجمعية عازمة على تحويل المقر (وهو في الاصل كنيسة قديمة) الى «كعبة» يحج اليها الفنانون كلما أرادوا ليجدوا فيها كل ما.. يحفّز على الخلق والابداع، ناهيك وانها ستكون فضاء مفتوحا على الدوام، يتوفر على جناح للإقامة ومرسم وقاعة عروض، وفضاء للقراءات الشعرية.
ولتعذرنا الآنسة شريفة عبيدلي متفقدة التعليم الابتدائي ورئيسة الجمعية ان كشفنا قبل الأوان عما تنوي الجمعية القيام به بعد استلام المقر، وكيف ان نشاطها سيكون مفتوحا امام جميع الفنانين على اختلاف الألوان والأنماط الفنية من موسيقى ومسرح وسينما وفن تشكيلي وغيرها.
وطالما اننا كشفنا عن البرامج المستقبلية للجمعية، فلا بأس ان نكشف كذلك عن حلم كبير ورائع يراود كل اعضائها وهو إحداث سوق عكاظ تونسية فيها يلتقي شعراء البلاد ليقرأوا الشعر، ويناقشوه في وسط طبيعي خلاّب، ذلك ان السوق ستكون من حول الصخرة التي كان شاعر تونس الخالد الشابي يجلس عليها وسط الجبل، ليكتب قصائده في محيط ملهم يفجّر القريحة.
ابداع... ابداع
في القاعة التي احتضنت المعرض والتي غصت بجمهور غفير عُرضت كذلك بعض التحف الفنية التي ساهمت بها، مشكورة سفارة كوريا بتونس، وهي معروضات شدت الانتباه مثلما شدته اعمال التشكيليين المحترفين بفضل تنوعها وانتمائها الى مدارسها مختلفة وكذلك بفضل الجهود التي بذلها الفنان ابراهيم البهلول من اجل ان يكون المعرض على صورة رائعة من حيث الاخراج.
والحق ان لمسات الفنان ابراهيم البهلول كانت جلية في قاعة ثانية احتضنت المعرض الحرفي والمعرض البيئي ومعرض الابداعات التلمذية، وهي معارض تكاد تضارع ابداعات واعمال المحترفين.
ووسط هذه الاعمال برزت بصورة خاصة اعمال الفنانة التشكيلية علياء ابراهيم التي انفردت بأسلوب مبتكر من حيث الادوات على وجه الخصوص. فهي ترسم بالشمع وبطريقة لا تسمح لك بقراءة لوحاتها الا اذا كانت في مواجهة قرص الشمس او سلط عليها ضوء ساطع قوي.
والفنانة علياء ابراهيم تبرهن بأعمالها هذه على انها تنظر الى الحياة بكل تفاعلها وتناقضاتها وهوامشها بحاسة جمالية مرهفة وبعين تختلف عن كل عين اخرى ينظر بها اليها فنان آخر، وهو ما حدا باحد الزملاء الى دعوتها لإقامة معرض متنقل تحت عنوان «عيون العلياء».
ويقتضينا واجب الانصاف اذ نذكر ان السيد الوالي والسادة المنصف الحمراني رئيس البلدية وخالد بن اسماعيل المعتمد والناجي المويهبي عضو مجلس النواب وكاتب عام الجامعة الدستورية، واحمد الشوباني المندوب الجهوي للثقافة والشباب والترفيه وكل المسؤولين والضيوف كانوا يتوقفون امام كل عمل ويبدون الاعجاب به وهو اعجاب مشبع بالتفاؤل لمستقبل الفن التشكيلي في هذا البلد الذي يرعى الثقافة وينزلها المنزلة التي تليق بها فهذه الاسماء الجديدة التي بدأت تخطو خطواتها الاولى لابدّ مؤتية ثمرتها عاجلا أم آجلا.
وعلى الرغم من المشاغل الطارئة التي اخطر بها السيد الوالي في حينها فإنه قد حرص على الاطلاع على كل المعروضات. وفي ذلك دليل آخر على تعلقه الكبير بالثقافة ودعمه للمثقفين.
اما وقد انتهت مراسم الافتتاح الرسمي، فقد انتقل الجميع الى نزل نور العين الرابض فوق هضبة تقع على ارتفاع 800 متر عن سطح البحر لمتابعة بقية برنامج اليوم الاول، عدا السيد الوالي الذي اضطرته هذه المشاغل الى المغادرة، فنابه السيد خالد بن اسماعيل المعتمد، وهو من المعتمدين الشبان المتحمسين لكل ضروب الممارسة الثقافية.
هناك في نزل «نور العين» الذي عملت إدارته العامة على توفير مناخات خاصة اعتبارا لخصوصية التظاهرة من ناحية واحتفاء بضيوف المدينة من ناحية اخرى. هناك ألقت رئىسة الجمعية كلمة اختزلت فيها الاشواط التي قطعتها التظاهرة حتى تصل هذه السنة الى دورتها السابعة بفضل الدعم الذي تلقاه من كل الاطراف المعنية وخاصة منها كل من وزارة التربية والتكوين، ووزارة الثقافة والشباب والترفيه وولاية جندوبة ومعتمدية عين دراهم وبلديتها ودائرة الغابات واتحاد الفنانين التشكيليين.
وقد اضيفت منذ الدورة السابقة الى قائمة الاطراف الداعمة «دار الانوار» للنشر والتوزيع والصحافة والاعلان، واضيفت «ابتداء من الدورة الحالية، الوكالة الوطنية لحماية المحيط التي ساهمت في تنشيط ندوة تكوينية وتحسيسية حول مخاطر النفايات البلاستيكية.
وتعرضت رئيسة الجمعية لمسيرة الفنان الراحل ابراهيم الضحاك الذي تم تكريم روحه، وعُرض شريط وثائقي حول مسيرته.
ولا غلوان كلمتها حول مسابقة عميد «دار الانوار» العميد صلاح الدين العامري (رحمه الله) للصحفيين اليافعين كانت مؤثرة جدا وتعكس بكل تجرّد ووضوح ما يكنه اهالي خمير من حب واحترام كبيرين لفقيدنا العزيز.
ولو استقصينا علاقته بعين دراهم وطبرقة لتبدّت لنا علاقة متينة وقديمة ترجع الى بواكير شبابه، عندما شاءت ظروف الحياة ان تستقبله احدى المؤسسات التربوية بعين دراهم، ليواصل فيها التعليم.
وعلى هذا، فالفقيد العزيز، كان حب خمير واهاليها هو الطابع الذي يعتلج في نفسه، وكانت له صداقات لا تحصى مع عدة، شخصيات من المنطقة.
اما كلمة السيد خالد بن اسماعيل فقد بلورت المفهوم الجديد للثقافة، عندما اكد ان دور المثقف لا ينبغي ان يتوقف عند مفهوم الممارسة وتقديم الانماط الثقافية، بل عليه ان يتعدى ذلك الى تكوين المواطن القادر على الاسهام بوعي وجدارة في مسيرة التنمية الشاملة.
وانطلاقا من هذا المفهوم الجديد جدد السيد المعتمد التأكيد على استعداد السلط الجهوية والمحلية لرعاية كل بذرة من بذور النهضة الفكرية والعلمية والثقافية والتقنية.
نجاح واعجاب
كلمة السيد المعتمد، تلاها الاعلان عن اسماء الفائزين في المسابقة الوطنية في الوسط المدرسي التي نظمتها الجمعية بالتعاون مع وزارة التربية والتكوين وتمثلت هذه السنة في انجاز مجسمات تبرز خصوصيات الجهات وقد فاز بجوائزها تلامذة من عدة ولايات.
ثم كانت عملية توزيع شهائد التقدير على المسؤولين والمؤسسات الداعمة ومن بينها «دار الانوار» التي اسندت الجمعية شهائد تقدير الى رئىسها مديرها العام السيدة سعيدة البجاوي العامري، ومديرها العام السيد عمر الطويل والى ثلة من صحفييها وصحفياتها اعترافا منها بريادة الداربين سائر المؤسسات الاعلامية الوطنية ومن الواضح ان المحاضرة التي القاها الدكتور سامي بن عامر وكانت حول «النحت والمحيط البيئي» قد شدّت الاهتمام بثرائها اولا. وبتوفقها ثانيا في توضيح العلاقة العفوية بين فن النحت وثراء المنظومة البيئية الذي يعد اول ملهم للفنان.
ولقد خلص المحاضر الى تأكيد تأثير المحيط البيئي على تشكيل الوعي لدى الفنان بما يحضه على مزيد الكشف عن قواه الخلاقة التي تظهر في اوضح مجاليها وتبلغ القمة في ظلال المناخات الطبيعية.
وليس هذا كل ما شهده اليوم الاول من ايام التظاهرة التي تنتظم، هذه السنة، تحت شعار «النحت والمحيط البيئي» فهناك فقرات اخرى تنشيطية حازت هي الاخرى اعجاب كل الضيوف، فضلا عن ابناء الجهة.
ولربما مرّت سنوات وسنوات دون ان تسقط من ذاكرة كل ضيف نزل على الدورة السابعة اجمل الذكريات عن عين دراهم المدينة والانسان والثقافة والطبيعة والترفيه وعن تلك السهرة التي تواصلت حتى تقاطعت خيوط الفجر مع خيوط الليل،ولم تكن هيئة الجمعية بغافلة على النجاح الذي حققته كل فقرات اليوم الاول فعملت على ان تكون فقرات اليوم الثاني، استمرارا للنجاح والاعجاب معا.
وفعلا، كانت الورشات سواء منها المفتوحة امام التلامذة او المفتوحة امام المربين على درجة عالية من التنظيم، وشفت كلها عن هاجس ابداعي يسكن نفوس الجميع. ولا ادل على ذلك من لوحة التعبير الجسماني التي قدمتها مجموعة من التلامذة تحت ادارة منشطة متخصصة.
واستمرارا للاسلوب الابداعي الذي ينتزع منك الاعجاب تفجّرت مواهب الفنانين الهواة وهم ينجزون الجداريات مسهمين بذلك في اضافة لمسة أخرى من الجمالية على المدينة الجميلة بطبعها.
وهذا كله، تعقبه انشطة تتواصل الى بعد غد الاحد من بينها عرض مسرحي وتجسيد لعملية جني الفلين المعروف لدى العامة بالفرنان، ومحاضرة حول «الاعلام والبيئة» وبالطبع فإن انجاز الجداريات وتنظيم الورشات وعرض ابداعات الفنانين المحترفين والهواة، ويتواصل الى آخر يوم في الدورة.
وعلى ذكر الفلين يجدر بنا ان نذكر ان هذا الصنف من الاشجار يوفر مادة علفية دسمة للماشية، ويوفر كذلك مادة القشر التي تستخدم في بعض الصناعات، وفي البناءات كمادة عازلة، وهي تصدّر الى الخارج، وتوفّر قسطا هاما من العملة الصعبة.
في المزار الشريف
كان من اول الاشياء التي سألنا عنها بعض الزملاء والزميلات الذين رافقونا الى عين دراهم، التي نعتز بالانتماء اليها تلك الصخرة التي كان شاعر تونس الخالد ابو القاسم الشابي يجلس عليها وسط الجبل، ولا تزال المسارب المفضية اليها توحي بأن شاعرنا الفذ قد دوّن ملحمته الشعرية بين تعرجاتها وانثناءاتها وما بين انحداراتها وارتفاعاتها.
وهذا التاريخ الشعري الخصب العظيم هو الذي سأل عنه الزملاء والزميلات وبحثوا وتكبدوا مشاق الصعود والنزول بين منحدرات الجبل ومرتفعاته ليصلوا الى صخرة الشابي، وليقرأوا هناك شيئا من شعره، وكأنهم يحجون الى مزار شريف وكان من فرط الحب والاحترام لشاعر تونس ان خرج بعضهم من الفندق في الساعة الرابعة والنصف صباحا قاصدين هذه الصخرة، وما اكترثوا ولو لحظة، بما يمكن ان يتهددهم من مخاطر لو اعترضتهم جحافل الخنزير الوحشي العائدة الى اوكارها ولكن الله لطيف بعباده.
وكانت هناك اشياء كثيرة حولنا توحي بأن عين دراهم تكن لفقيد «دار الانوار» عميدنا الراحل صلاح الدين العامري القدر نفسه من الحب والاحترام والتقدير الذي تكنه لأبي القاسم الشابي.
ومن المفارقات ان العميد من عشاق شعر الشابي. ألم يواكب سنة 1966 ايام الشابي الدراسية، ويكتب عنه سلسلة من المقالات الشهيرة؟
وذلك الحب ليس استنتاجا او انطباعا سطحيا تخرج به من كل حديث خاطف قد يدور بينك وبين بعض من عرفوا فقيد الصحافة التونسية والعربية بين قمم جيال خمير وتواصلت صداقاتهم معه على امتداد السنين حتى آخر يوم في حياة سي صلاح، انما تترجمه علامات لوعة وامارات اسى على رحيله مازالت ظاهرة على وجوه الذين زاملوه وصادقوه من اهالي خمير، وتعكسه مبادرة الجمعية منذ الدورة السابقة بتكريم روحه اعترافا بكفاءته العالية، وجرأته وشجاعته وسداد رأيه ووجاهة افكاره. والحق الذي يجب ان يسجّل بمداد الفخر والاعتزاز ان هذه المبادرة التي جاءت من جمعية لاتزال غضة فتية، قد اصابت ما في نفوس جميع محبي فقيدنا العزيز والاوفياء من قرائه، فقابلوها بالاستحسان، اذ تلقت الجمعية في نهاية الدورة السابقة سيلا من المكالمات الهاتفية من الداخل والخارج وكانت كلها تشكر لها شديد حرصها على تكريم روح الفقيد وان كان التكريم ليس غاية في حدّ ذاته انما هو يافطة يتجدد تحتها التذكير بأن سي صلاح كان استثناء وكان مدرسة في الوطنية وفي الاصرار الكبير على النجاح وكان مجدد الصحافة التونسية وفارسها الاول بلا غرور ولا منافس، وكان نهّاضا لكل جليلة عظيمة من الاعمال.
عميد الاستثناء.. وفقيد الانسانية
ان إقدام الجمعية على هذه الخطوة، وبهذه الهمة الكبيرة والايمان الواضح بكفاءة الفارس الراحل والحرص الدؤوب على مواصلة التذكير بخصاله ومناقبه وإمارات تميّزه وتفوقه ليجعل من الملائم التذكير بأن سي صلاح رحمه الله كان الحضن الدافئ لكل قلم كان يتلمس الطريق.
وهذه الحقيقة التي يعرفها الجميع نوردها هنا مجملة مختزلة فلو اردنا لها التفصيل لاستغرق تفصيلها كتبا عدة.
وكان طبيعيا اذن، ان تذكر الجمعية هذه السنة بهذه الحقيقة وبتلك الجليلة التي كان العميد الراحل يتمتع بها فأنشأت ابتداء من الدورة الحالية مسابقة المرحوم صلاح الدين العامري للصحفيين اليافعين، وهي مسابقة وطنية نظمت على مستوى المدارس الابتدائىة والاعدادية ورصدت لها جوائز هامة ساهمت في توفيرها الدار العماد الذي اسسه ولعله من حق الجمعية ووزارة التربية والتكوين ان نعترف بالجهود المحمودة التي بذلتاها في سبيل تعميم المسابقة حتى تكون المشاركة على نحو كبير من الكثافة والتنوّع في الاسلوب والطرح.
اما القارئ، فلعله من حقه علينا ان نضع امامه حقيقة وهي ان المشاركات في المسابقة (التي ستصبح فقرة قارة من فقرات التظاهرة) كانت، فعلا كثيفة جدا. وهو ما اقتضى وقتا طويلا استغرقته عمليتا الفرز والتقويم اللتان اوكلتا الى نخبة من الاستاذة والاعلاميين وانا لنعذر اللجنة على مواصلة المهمة الموكولة اليها الى غاية ثالث ايام التظاهرة واثقين من انها ستجازي من يستحق المجازاة، وهي التي ستعلن اليوم الجمعية على النتائج ليتم توزيع الجوائز في حفل مشهود ستنظمه الجمعية في موعد ستعلن عنه.
لقد بدت لنا علاقة سي صلاح بأهالي خمير كتابا مفتوحا قرأ لنا فيه من المنابع الاصلية، ما لم نكن نعرف فالمناضل الحاج محمد عبيدلي، وهو والد رئيسة الجمعية حدّثنا بما اكتشفنا فيه عميدنا الراحل، من جديد.
كان سي صلاح ، رحمه الله، يلتقي الحاج محمد كلما زار طبرقة او عين دراهم وكان يحدثه دائما عن هواجسه وتطلعاته وكان حاضر النكتة والتعليق الثاقب، ولا يترك قضية من قضايا امته الا وخاض فيها مقدّما التحليل العميق والرؤية الصائبة.
ونستميح الحاج محمد عفوا، اذا ضاقت صدورنا على كتمان ما رواه لنا حول الجانب الانساني في شخصية الفقيد الغالي وكيف انه كان رحمه الله يحضّ دائما على اسداء المعروف وتقديم الخير.
لقد كان طيب الله ثراه، يقول لأصدقائه: «حاولوا قبل ان تفارقوا دنياكم ان تخلفوامن بعدكم اثرا حميدا في الحياة، ان تقدموا عملا صالحا من اعمال الخير والبرّ».
وفعلا، كان سي صلاح يبحث عن كل بائس مسكين، وملتمس رحمة ليكون له عونا دون تبجح ودون ان يعرف ذلك اقرب المقربين اليه.
ولقد شاءت الصدف وحدها ان نعرف انه قد مسح دموع كثيرين ممن ران عليهم القنوط والشقاء والحاجة.
نم هادئا، يا سي صلاح، فالعماد سيظل شامخ الطود، والعهد سنحفظه الى ان يجتبينا الله.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.