بعد صيف حار وبطيء، لا تكاد شمسه الجهنمية تغيب حتى تهبط المساءات بهوائها المعدني على رؤوسنا الصغيرة المرتخيّة على أكتافنا كالثمار الناضجة في قاع السلال. صيف لا يطاق. بل لعلّه فوق الطاقة البشرية. وفوق كل احتمال الطبيعة صيف لا يليق بالكتابة والقراءة والمتعة... ومع أولى أمطار الخريف الطوفانية عادت النسائم عليلة تبعث الإنشراح في النفوس الكئيبة، وتعيد للذاكرة أشياءها وأسماءها الغائبة.
كنت أقرأ من حين لآخر ما تكتبه آمال مختار هنا وهناك، في الجرائد والمجلاّت من كتابات صحفية عابرة لكنّها كانت، رغم ذلك ترشح بكثير من عسل اللفظ وطراوة العبارة وأناقة التعبير، ولم يسعفني الحظ أن قرأت روايتها الأولى الصادرة، سنة ، عن دار الآداب البيروتية تحت عنوان «نخب الحياة». ربّما كنت منشغلا عنها بضجيج المدينة وصراخها العالي لكنّني لم أنس أن رواية جديدة تنتظرني في زاوية مظلمة من دائرة الظل، فلم أنتبه اليها إلا أخيرا عندما أومضت في ذاكرتي واشتعلت حريقا من الرغبة.
لم تكد أصابعي تلامس غلاف رواية «نخب الحياة» لآمال مختار حتى داهمني بعض الضجيج القديم الذي صاحب صدور الرواية والذي لم يكن، في الحقيقة، يصل الى أذني دقيقا وصافيا، ولم أكن أهتم لذلك، فأنا لا أصغي الا الى النص ودواخله أما ما هو لغط خارجي وضجيج عمومي فإنه لا يعني الا باعة سوق الجملة والسكارى وكائنات الشوارع الخلفية.. وال.. هلمّ جرّ دعنا من الاستطراد ولنعد الى السطر الأول من الرواية «فاحت رائحة قديمة، بلا هوية، اقترنت في ذاكرتي بمطعم المبيت الجامعي» الذي قادني الى السطر الأخير «لا أريد أن أقول لك أحبّك». كيف قطعت المسافة بين السطرين دون أن أنتبه الى محطات القطار التي كانت تتوالى وتتسارع أمام عيني خلف نافذة المترو أو الى زوجتي وهي تقدّم لي الغذاء أو الى صوت المذيع الأجش. لعلّها المرة الأولى التي التهم فيها رواية كاملة دون توقف.. هكذا دفعة واحدة.. أنا الذي قال عني مولاي جلال الدين الرومي «شكّاء وملول» لا أقدر على الثبات في مكاني أو في زماني أكثر من دقيقتين اثنتين دون أن أتململ أو أنزعج.. تلك هي طبيعتي أو ربّما خطيئتي؟
لم تكن هذه الرواية بمعناها القديم، حكاية طويلة متشعبة تتقاذفها الأحداث وتقودها الشخصيات في خط مستقيم واضح يقتفي خطاه القارئ بكثير من التوقّع والترقّب والتكهّن يكون ذلك ربما سببا في نشوته وتشويقه ومتعته. لا، ليست رواية بهذا المعنى ولا بمعنى آخر كنا نعتاده حتى في أكثر الروايات سريالية وغرائيبة ولكنها رواية واقعية جدّا، متلبسة بمكانها وزمانها، مثقلة بذاكرتها، فهي تسمّي الأشياء والأماكن بأسمائها فهذه بون وبالرمو وتونس والدار البيضاء وأريانة والمنار وهؤلاء عبد اللطيف ومحمد وابراهيم وشيراز وسوزي ونيكول وجون بيار مدير المركز الثقافي الفرنسي بل هذه سوسن بن عبد الله بطلة الرواية امرأة متحرّرة تدخن وتشرب الويسكي وترقص في «ملهى المشتل» وترتاد «مطعم غاستون» وتستمع الى أغاني عدنان الشواشي ويعجبها علي الرياحي والهادي الجويني في رائعته «تحت الياسمينة في الليل». هي ليست تونسية بحاضرها مكانا وزمانا فقط بل بتاريخها الممتد الى عليسة التي شيّدت قرطاج على الحدود بين التراب والماء «هذه التي ولدت في لحظة غضب». يقول لها : إذن، نحن حسب تحليلك أبناء غضب امرأة فتقول له : بالتأكيد، عليسة، شيّدت قرطاج في لحظة غضب وأحرقتها في لحظة غضب، لكن نار غضبها لم تأت عليها كلّها وهذه البقايا: نحن. هكذا تقول الرواية في أولى صفحاتها لكن في آخر الرواية عندما تجمع البطلة «أشلاء روحها وذاكرتها ووحدتها». لتبحث عن مكتب للطيران وبعد أن حلّقت الطائرة في سماء تونس وحامت فوق قرطاج وتتبعت هدوء الأرض والبحر بعد رحلة وجودية مثيرة قادتها خارج حدود الوطن.. الى ألمانيا تحديدا أو مجازا جرّبت خلالها «فعل الحياة» بحثا عن الحرية المفقودة تعود البطلة لتخط في آخر الرواية قرارها النهائي والحالم «سأعود عليسة جديدة، سأعيد رسم قرطاج كما أشاء. وأما إذا أحرقتها في لحظة غضب، فلن أترك البقايا، كما فعلت عليسة، سأتي على كل شيء».
هل هي رواية واقعية كما دلّت على ذلك الأسماء والأحداث والوقائع والأمكنة والأزمنة هل كان السرد يصب في مجرى الحكاية؟ هل ثمّة حكاية تقليدية بمقدماتها وخيوطها التنازلية والتصاعدية وبعقدها وانفراجاتها. أي بكل ما يسنده النقاد لخصائص الحكاية؟ إننا لا نتابع أحداث رواية نتوقع مساراتها أو نتكهن بنهاياتها تلبية لعاداتنا القديمة في قراءة كسولة ومطمئنة. إذن ما سرّ هذه المتعة التي نشعر بها ونحن نلتهم السطور والصفحات من أول حرف الى آخر نقطة؟ هل هي اللغة الروائية الجديدة التي تستعير من القصيدة فوضاها وحرائقها، لحظاتها المتشظية وأدواتها الفنية والجملية وخاصة قدرتها على هدم الواقع وبنائه، تفتّته وتجمّعه أمام دهشة القارئ وانبهاره؟ هل هي الأحداث كما تصوغها المؤلفة حسب هواها ورؤيتها وانفعالاتها وأحاسيسها لتخلق عالمها الخاص. هل هي دعوة الى القارئ الكسول والمطمئن الى الانخراط في أحداث الرواية والتحرّك بقوّة داخلها؟ هل كلّ هذا وأشياء أخرى يعرفها نقاد السرد والأخصائيون أما نحن القراء العاديون فلا نملك الا أن نستمتع كثيرا دون أن نبرّر أسباب هذه المتعة، بالضرورة. لكن هل يحق لا أن نتساءل في النهاية، عن طبيعة هذا النص، لشدّة التباسه بالشعر: هل هو قصيدة طويلة أم رواية؟
هذه ملاحظات أولى سريعة سجلتها كتابة مسترسلة على قراءة مسترسلة دون تشطيب أو مراجعة للأخطاء.