عاجل: بالأسماء: انتخاب اللجان المستقلة بجامعة كرة القدم    توزر: مهنيون يتطلعون إلى تحسين المنتج السياحي وتسويقه والعناية بنظافة المدن وتنظيمها استعدادا للموسم السياحي الشتوي    عاجل/ 16 دولة توجّه نداء من أجل سلامة "أسطول الصمود"    مستقبل قابس يعزز صفوفه بالظهير الايسر ياسين الميزوني    عاجل/ القبض على "مروّع الأطفال" في خزندار    مدير عام الوكالة التونسية للتكوين المهني: فتح اختصاصات جديدة رفّع مواطن التكوين ب10 بالمائة مقارنة بالسنة التكوينية الماضية    توقيع اتفاقية شراكة بين منظمة اليونسكو و مؤسسة الصادق بالسرور لدعم الثقافة في تونس بميزانية تقدر ب 1.5 مليون دولا أمريكي    كيف سيكون الطقس هذه الليلة؟    عودة طوعية ل150 مهاجرا غينيا من تونس: التفاصيل    كرة اليد: صبحي صيود مدربا جديدا لنسر طبلبة    عاجل/ بالأرقام: تراجع ملحوظ في حالات الزواج والولادات بتونس    عاجل/ البعثة التونسية الدائمة بجنيف تُدين الاعتداء الاسرائيلي على قطر    وائل نوار: "الرد على المشككين في خروج أسطول الصمود لم يستغرق سوى 5 دقائق"    وفاة العرّاف "سحتوت" بمبيد حشري: النيابة العمومية تتدخّل.. #خبر_عاجل    بطولة العالم للكرة الطائرة أكابر: فوز الفيليبين على مصر 3-1    فيلمان تونسيان ضمن مسابقات مهرجان الجونة السينمائي    وفاة روبرت ريدفورد: رحيل أيقونة السينما الأميركية عن 89 عامًا    مشاركة تونسية لافتة في الدورة 13 من المهرجان الثقافي الدولي للمالوف بقسنطينة    عاجل/ تجدّد الغارات الإسرائيلية على اليمن    الكمبيالات تفوّت الشيكات: استعمالها يرتفع ب155٪...هاو علاش    عاجل/ الصيدليات الخاصة توقف العمل بهذه الصيغة    قرى "آس أو آس" تجمع تبرعات بقيمة 3 ملايين دينار.. #خبر_عاجل    دورة سانت تروبي للتحدي للتنس: معز الشرقي يتاهل الى الدور الثاني    القيروان : وفاة شيخ يعاني من إعاقة بصرية تناول مبيدا حشريا على وجه الخطأ    غار الدماء: امرأة تُضرم النار في جسدها داخل معهد    لأوّل مرة: هند صبري تتحدّث عن والدتها    مقتل 31 مسلحا من حركة طالبان الباكستانية    عاجل - يهم التوانسة : التمديد في الصولد الصيفي    امضاء مذكرة تفاهم بين الجامعة التونسية لوكالات الأسفار والسياحة واللجنة الوطنية للعمرة والزيارة بالمملكة العربية السعودية    يوم وطني الخميس 18 سبتمبر الجاري لتقييم موسم الحبوب 2025/2024    وزارة المرأة تنتدب    شنوّا تعمل البنوك بفلوسك؟    لمحبي الرياضة : تعرف على الموعد والقنوات الناقلة لمباراة ريال مدريد ومارسيليا    عاجل: دوري الأبطال يتغيّر.. شنوة التغيير الجديد؟    ألمانيا وبريطانيا والاتحاد الأوروبي يدينون الاجتياح البري لغزة    الرئيس الفنزويلي يتهم واشنطن بالإعداد لعدوان عسكري على البلاد    راغب علامة عن زوجته: لم تحسن اختياري    هشاشة الأظافر: مشكلة جمالية أم مؤشر صحي خطير؟    خطر كبير على ذاكرة صغارنا: الوجبات السريعة تدمّر المخ وتسبّب ضعف الذاكرة!    ال'' Vape'' في الكرهبة: خطر كبير على السواق والركاب...علاش؟    بنزرت: توجيه واعادة ضخ 35.2 طنا من الخضر والغلال والبقول بسوق الجملة بجرزونة    من 15 إلى 19 أكتوبر: تنظيم النسخة السادسة من الصالون الدولي للسلامة الإلكترونية    حجز 4،7 أطنان من الفرينة المدعمة لدى إحدى المخابز المصنفة بهذه الجهة..    علاش تمّ إيقاف العمل بإجراء تمديد عقود الCIVP؟    برنامج المباريات والنقل التلفزي للجولة السادسة.. كل التفاصيل هنا    سحتوت ''العراف'' ...يتوفى بمبيد الحشرات في بوحجلة...شنوا حكايتوا ؟    نيران تلتهم الهشيم بزغوان.. 1000 متر مربع من الغابة تضرروا...شصار؟    ترامب يطلب تعويضا خياليا عن "كذب" بحقه    الكوتش وليد زليلة يكتب...حتى تكون العودة المدرسية رحلة آمنة لا صدمة صامتة؟    همسات من قوافي الوطن...إصدار جديد للمربي توفيق الجباري    انطلاق المخطط الوطني للتكوين حول الجلطة الدماغية    الرابطة الأولى: البرنامج الجديد لمواجهات الجولة السادسة ذهابا    "غراء عظمي".. ابتكار جديد لعلاج الكسور في 3 دقائق..    كلمات تحمي ولادك في طريق المدرسة.. دعاء بسيط وأثره كبير    أولا وأخيرا ..أول عرس في حياتي    أبراج باش يضرب معاها الحظ بعد نص سبتمبر 2025... إنت منهم؟    خطبة الجمعة .. مكانة العلم في الإسلام    مع الشروق : الحقد السياسيّ الأعمى ووطنية الدّراويش    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحفرُ في الشخصيات التاريخية وإشكاليّة التّصنيف في رواية »مملكة باردو« للكاتب د. عبد القادر بن الحاج نصر
قراءات: بقلم: بلقاسم برهومي
نشر في الشعب يوم 04 - 06 - 2011

صدر جديد القاص والرّوائي د. عبد القادر بن الحاج نصر رواية بعنوان »مملكة باردُو« عن الشركة التونسية للنشر وتنمية فنون الرّسم في طبعة أولى: تونس 2010 والكتاب يقع في (325 صفحة) تُزيّن صورة غلافه تصميم لياسين غربال تتكوّن الرواية من عشر مفاصل، يقوم الرّاوي الرئيس بنقلنا بين هذه المفاصل وقد كان راويا شاهدًا على حكاية الوزير مصطفى بن اسماعيل يقول:
»على نسق الرّيح تدور حول نفسك.. ما أنت إلاّ حرف كُتب بماء.. وتظنُّ أنّك تُلاحقُ الأحداث وتُطاردُ غُلامًا فاسقًا يُسمّى مصطفى بن اسماعيل لتقتص منه من أجل بلدك..«... (1)
فهذا الرّاوي يستخدم ضمير المتكلّم لمزيد من الإيهام بحقيقة ما حدث وهذا ما جعل السّرد يجري دون عقبات تُضعف المبنَى الحكائي الذي اتّسم بالتّنوع، فنجد تنوّعًا في الشّخصيات وتنوُّعًا في المكان والزّمان وتنوُّعًا في الأحداث التّقنيات، هذا التنوّع الذي خدم الرؤية التي احتوتها الرواية.
يُمكن تصنيف الرّواية ضمن سياق الرواية التّاريخيّة الاجتماعية وعنوانها الفرعي يُوحي بذلك: »حكاية ماء وملح بين تونس والجزائر«.
والشّخصية الرئيسيّة »مصطفى بن اسماعيل« كأنّها شخصيّة لُغز بذهن الرّاوي والكاتب يقول:
»بعد تسعين سنة، كنت تقطع المسافة بين مرسيليا وباريس وفي نفسك توق إلى أن تسأل أهل البلاد وعابري السّبيل تستنطق الحجر والتراب في الأرشيف وما يُخبئهُ من أسرار، لقد ثارت ثائرتك ذات يومٍ وأنت تنظرُ إلى صورة مصطفى بن اسماعيل الوزير الأكبر موضوعةٍ على غلافِ كتابٍ.. ثمّ أخذَكَ الغثَيان... (2)
وتوالَت الأحداث لحلّ ألغاز هذه الشّخصية وغيرها من الشّخصيّات ك »ابن الزاي« والبايات وقاطني الحدود التونسيّة الجزائرية اضافة إلى البُعد العجائبي الذي غلف الشّخصيات والأحداث والأزمنة ممّا جعل الرواية مفتوحة لتعدّد القراءات بالتالي تعدّد الأفهام والتّأويلات وإذا كان لابدّ من تأطير محاور القراءة:
1 الشّخصيّات.
2 الأحداث، الفضاء المكاني، الزّمان.
3 اللّغة والرّمز والتّقنيّات.
الشّخصيات:
تنقسمُ الشّخصيات في الرواية إلى قسمين:
أوّلا شخصيّات فاعلة ومؤثرة: »مصطفى بن اسماعيل« و»ابن الزّاي« و»البَايْ« و»رُوستانْ« وشخصيّة »مصطفى بن اسماعيل« تشكّل مادّة بحث تاريخيّة للرّاوي أو الكاتب.
ثانيًا: شخصيات ثانوية: الرّاوي أو الكاتب الأب الأخ صاحب الحانة... الخ...
فشخصيّة »مصطفى بن اسماعيل« تُمثّل الإنسان الواقعي بكلّ عُيُوبه وسِمَاته فهو يعكسُ طبيعة البشر من حيث جمعِهِ بين المُتناقضات:
»مُصطفى بن اسماعيل! قِّط في مزبلة، رُوحٌ قَذرة في جسم شيطان.. وأنت!
أَنْتَ تسيرُ في شارع الحيّ اللاّتيني وقد تأبطت محفظَة قديمة حشوتها أوراقا ودفاتر، وقبضت بيدك على خُبزةٍ تقضِمُهَا..«... (3)
فهذا التّناقض يجعل شخصيّة »مصطفى بن اسماعيل« سهلة من حيثُ الاقتناع وسرعة الانفعال وبساطة التّفكير وأحيانًا يجدُ المتلقي بأنّها شخصيّة مُركبة وغامضة الملامح سعى الكاتب جاهدًا للحفر في أدّق تفاصيلها ومُحيطها.
فالكاتب يعرف بشخصيّات الرّواية الرئيسيّة مُبيّنا أبعادها النّفسيّة والاجتماعية، والفكرية كاشفًا خلال ذلك عن طباعها وسلوكها الشّاذ:
»تْفُو.. وألفُ تفُو.. أنت رجُل »خائنٌ لا يؤتمنُ جانبك، أليس الباي.. أيّها الكلبُ هُو وليّ نعمتُنا.. لوْلاهُ لمّا كنت أنتَ في هذا المكان، ولكنتُ أنا، ابن اليهودية، أجُوبُ الشّوارع.. الطّاعَة الطّاعة وإلاّ جززت الموسى على رقَبتكَ مثل خروفٍ...«... (4)
فالشّخصيات تُناسبُ الزّمان والمكان، وهي شخصيّات حقيقيّة معروفة، ولكنّنا قد نجدُ فيها شيئًا من الرّمز:
»على ضوء القنديل جلس مصطفى وابنُ الزّايْ مُتقابلين يُحرّكان قطع الشّطرنج، وكلّما نقل مصطفى قطعة من مكان إلى آخر قهقه عاليّا:
لا تُؤاخذني.. هذه اللّيلة أنا مزطول.
قال ابن الزّايْ:
أي نعم.. يحقُّ لك ذلك. لقد ضربتَ عدّة عصافير بحجرٍ واحدٍ..«... (5) الأحداث والفضَاء (المكان):
لعلّ الأحداث والمكان ترافقت في هذه الرّواية حتّى تماهَى أحدهما في الآخر، فكلّ حدث كان في مكان وكلّ مكان كان فيه حدث إذن تنوّع الحدث بقر ما تنوّع المكان وأحْيانًآ كان المكان يُحدّد الحدث الذي يقعُ فيه.
وهكذا تعدّدت الأماكن تعدُّدًا غنيًّا، فمن باريس إلى قصر باردُو حيث يجلس البايْ على العرش إلى دار الباشا إلى ريف البلاد سنة 1952 حيث كانت الشّاحنات الثّقيلة المكتظّة بالجُنود والعتاد تشقُّ البراري إلى قُرَى الحُدُود التّونسيّة الجزائرية.
ومع تنوّع المكان كان القارئ أمام لوحة تاريخيّة اجتماعية نطقَ فيها كلّ شيء امّا مباشرة أو بطريقة غير مُباشرة:
»حتّى عنّابة الجميلة الشيّقة الرّائقة الوفيّة لأبنائها، حتّى ناسها الطيّبون الكُرماء الأشاوس، حتّى الأهل، والخال والخالة والأشجار والجبال والغابات والأودية، لم يشهدوا طيف أم الخير مارًّا على عجلٍ لم يسمعوا وقع خطوتها، لم يحسُوا بشيء منها، أبدًا أبدًا...«... (6)
فالمكان ارتبط بالحدث والحدث حفَر في الشّخصيات آثاره، حتّى في شخصيّة الرّاوي أو الكاتب:
»مرارة الطّريق، وعَنَاء السّفر، الخطوة الأولى على الأرض الاسفلتيّة، الشّوارع العريضة المُكتظّة، اللاّفتات المُضيئة والعلامات والنّاس على قدمٍ وساق بين رائحٍ وغادٍ.. أمامك أيّها القادم إلى باريس أحوال وأهوَال.. عواطِفٍ وأمواجٍ مُتلاطمة..«.. (7)
فهذا الرّاوي يتماهَى مع المكان وهو يبحثُ وينّقبُ في الوثائق التّاريخيّة ويتكبّدُ المعاناة وسهر اللّيالي والعمل الوضيع والمرهق حتّى مرحلة الوصول لتلك الوثائق ومعرفة الحقيقة وكشف أسرار شخصيّات تلك الحقبة، ويتغير الأماكن وتنقل الرّاوي بينها ازدادَ علمًا ومعرفة بحقائق الأشياء وهو لا يتوقف عند الظّاهر والقشور:
»لحظات، ساعات، أيّام، ثمَّ وجدتَ نفسك تجُوبُ الشّوارع العريضة... وتتوقفُ أمام المكتبات، ومراكز الأرشيف، لماذا جاءت الامبراطورية بطُمّ طميمها، جُيُوشًا ومستشارين، ودبلوماسيين ومُعمرّين ليستولُوا على الإيَالة الجميلة؟
من فتح الأبواب؟ من فرش الزّرابي المبثوثة؟ من أمسك القلم: »بإسم الشّعب والتّاريخ أُمضى على مُعاهدة الحماية.. لكم الأمر والنّهيُ أنتم السّادةُ ونحنُ العبيد...«... (8).
فكما يتبيّن في نصّ الرّواية الرّاوي ليس عُنصرًا مُحايدًا.. فالأسئلة الحارقة تسكُنُه وكأنّه يُشارك في صنع الأحداث، كأنّ الرّاوي يرى في كشف سبر غور الوثائق بوّابة ستُوصِلهُ إلى الحق المطلق والعدل المطلق، ولو توّقفنا عند قصّة عُثُوره واكتشافه الحقائق في الوثائق لوجدّْنا أنّ مدار الرّواية هو بين الدّنيا والآخرة، والمعرفة والجهل، والباقي والفاني، والظاهر والجوهر، والرّضى والسُّخط، وقد تنوّع الزّمان تبعًا لتنوع المكان فهناك الزمن الواقعي والزّمن النّفسي اضافة إلى الزّمن الخطيّ:
»عائلات اجتازت الحدود نحو تونس، وأخرى أخذت تنتقلُ ذهَابَا وإيّابًا.. في جبال خمير مُتّسع للهاربين من قهر عُتاة المُعمّرين والجيش الفرنسيّ، عائلات أخرى انتشرت في السّباسب والصّحراء... أشرقت شمس الحدود ساطعة دافئة.. الجزائر من هنا وتونس من هناك.. يا لروعة الطّبيعة.. يا لجمَال الأمكنة.. بعضُ طلقات المدافع تُسمعُ على بُعد عشرات الكيلومترات...«... (9).
وشخصيّة »مصطفى بن اسماعيل« ترمُزُ إلى الغواية والعبث والشّهوات، يتحدّى حتّى نفسه ليتسلّق سلم المناصب والثّكالب على جمع الثّروات:
»كان لابدّ له أن يصعد درجات المجد، وليصعد كان لابدّ من أن ينزل آخرون وتتدحرج رؤوس، إنّه زمن التّحدي وقد قَبِلَ التّحدي، وأقبل على المراهنة بحياته.. كان يعلم أنّه يقفُ في كلّ لحظة على شفَا الهاوية.. لو زلّت القدم لن يرحمهُ أحد...«... (10).
إنّه العبث الذي ليس له حدّ فيصْحُو الانسان منهُ، وقد تتماهَى شخصيّة »مصطفى بن اسماعيل« في الغواية، وتتمَاهى الغواية فيه فيضَعُ كلّ ماهو فاضل وسامٍ:
»لقد حذقَ حركة النّفوس، وردود فعل أهل السّوق.. امّا أن يكون الواحد قويّا، بيده مقاليد الأمور، يُمسكُ الآخرين من رقابهم بحِبَال لا يتّنفسون الاّ بمقدار يُقدّره هو، وفق ما يُريد ووقت ما يُريد...«... (11).
فحتّى الضّمير والوازع الوطني لا أثر له في مثل هذه الشّخصيات.. يتآمر لبيع أرض وطنه لسلطات الحماية الفرنسيّة:
»يضحك المُرافقُ، ثمّ يُقهقهُ:
»أنتَ أحق مسؤول في الإيّالة بصداقة فرنسا.. لأنّك الوحيد الذي يربطُ مصير تونس بالدّولة العظيمة... ستجِدُها إلى جانبك وجانب الأوفياء العارفينَ بالأمور من أبناء الإيَالة، ولسوْف تضعُك أنت ومن تُزكّيهم في المرتبة العليا..«... (12).
ديدنه الطّمع وكسب مزيد الثّروات والنّفاق سمَة حياته:
»يعْلمُ رُوستان أنّ مصطفى قد تذهبُ به الأهواء إلى أقاصي الدّنيا، يكرهُ ويُحبُّ ويتآمرُ ويتصالحُ، يُرشي هذا ويتلقّى رشْوةٍ من ذاك، يعدُ ثمّ سرعان ما يخلفُ الوعد، بعد ذلك يزحفُ على رُكبتيه طالبًا الصّفح، ويتنمّرُ في اللّحظة المُوالية من أجل المحافظة على المنصب العالي وتأمين مصادر الاسترزاق من أوسع الأبواب...«... (13).
اللّغة والرّمز والتّقنيات:
كلّ ماكان في الرّواية من عناصر كان مُلَغّزًا ابتداء من حقائق وأسرار الحقبة التّاريخيّة المُتعر لها فترة حكم البايات ودخول سلطات الحماية ومؤامرات قصر باردُو وشخصيّة »مصطفى بن اسماعيل« نفسه.. وهذا يدلُّ على تمكّن الكاتب د. عبد القادر بن الحاج نصر من اللّغة، فقد استخدمها هذا الاستخدام الذّي أبقى القارئ مشدُودًا بحبل التّشويق والتّطلع إلى حلّ هذه المعضلات وكلّ ذلك جاء بلغة موحيةٍ.
وظف الكاتب تقنيات متعدّدة مثل انسيابيّة السّرد (شخصيّة الرّاوي أو الكاتب) أو (العودة إلى الماضي واستحضار الطفولة وذكرياتها، كما نلمس تقنيّات التّلخيص (فباعتبار ثراء الأحداث وتشعبّها في الفترة التاريخيّة المتناولة لم يُسهب في رواية أحداثها بقدر ما وطفها لخدمة أغراض نصّه) فاقتصر اذن على ما يلزم ويخدمُ هدف الرواية وبنائها وكلّ ذلك كثّف إيحاءات الرواية في نصّ غلبت عليه خاصيّة الفنّي التنوع في كلّ عنصر من العناصر في نسج محكم يترك القارئ مُتأمّلا مفكّر لا في كلّ جملة منها، وهي عناصر تُراوح بين التّاريخي (الأرشيف والوثائق) وهذا يُحيل لطابع الكتابة الوثائقيّة أو التّسجيلية لفترة تاريخيّة مُحدّدة والإجتماعي (تصوير حياة الأهالي في قرى الحدود التونسيّة الجزائرية وشظف العيش آنذاك وطابع البداوة) وهذا يحيل على الرواية الاجتماعيّة.
وإذا أشرنا إلى الرواية الاجتماعيّة يمكن اعتبارها تحمل قيّما أخلاقية بعينها والنص في »مملكة باردُو« مُحمّلٌ بمتناقضات تلك القيم أساسا والأخلاق: النّفاق المؤامرات الجشع التّكالب على الثّروات... الخ.. من السلوكيّات الشّاذة« الفكر، الدّهاء، الطيع فهل الكاتب يبحث عن الوجه الآخر والانساني الأصيل والقيّم الحقّة حتّى في نماذج شخصيّات تُفتقد لكلّ ذلك؟!
وإذا كانت الرّواية بكلّ أصنافها ككلّ نماذج تعتمد على الحكائيّة، بمعنى أن يكون هناك حدث ما محوريّ بالاضافة للأحداث الثّانوية فالكاتب يُوفّق في الإلمام بفنّ الحكاية: فالمُتلقّي سيُتابع حكاية غلامٍ فاسقٍ يُسمّى »مصطفى بن اسماعيل« وحكاية »ابن الزّايْ« وحكاية »أمّ الخيرْ«... الخ... من مجموعة الحكايات التي ترتبطُ بالأحداث التي تستغرق الرواية بكاملها.
وإذا كانت كلّ رواية بغضّ النظر عن إيديولوجيّة صاحبها تخضع إلى التّحليل الفنّي ويترتّب على هذا أن يكون صاحبها قد وُفّق إلى تحقيق كثير من القيّم الفنيّة فهذا ما جسّدهُ الكاتب في »مملكة باردُو« وكشفه الغطاء عن حقيقة »مصطفى بن اسماعيل« وفضاعة جيش الاحتلال الغاشم وصمود الأهالي ومُقاومتهم وإذا كان لابدّ للرواية تاريخية أو اجتماعية أو غيرها أن تحقّق هدفها حتّى لو لم يُشر كاتبها أو يُحدّد صنفها، فأحداث »مملكة باردُو« تحتمل الجانب التّاريخي والاجتماعي والسّياسي والاقتصادي والأخلاقي والفلسفي والتّحليلي (سبر عُمق الشّخصيات ونمط تفكيرها...).
كما استغلّ الكاتب ما ترسّب في ذاكرته من حكايات شعبية عن شخصيات »مصطفى بن اسماعيل« و»ابن الزّايْ« و»الباياتْ« وحكايات الكفاح المشترك التونسي الجزائري وصنع منها اسقاطات فنيّة وإذا كان د. عبد القادر بن الحاج نصر غزير الانتاج.... فروايته الجديدة »مملكة باردُو« وعنوانها الفرعي »حكاية ماء وملح بين تونس والجزائر« تتميّز بِسماتٍ ميّزت أسلوبه وان كان المتلقي يظلّ يتساءل: هل النص رواية تاريخيّة أم رواية اجتماعيّة ففيها تلتقي الأبعاد والعناصر.. فكان الكاتب هنا يُحقّق مُتعه الخاصّة بالبحث والحفر في التاريخي والاجتماعي كما أنّ الاشارة إلى أسلوب العيش في تلك الفترة يُعدُّ في الجانب الاقتصادي ودسائس ومؤامرات قصر باردُو في الجانب السّياسي وعلى القارئ متابعة التّفاصيل وائتلاف كلّ العناصر والمتناقضات ليُحقّق بدوره متعته وتلّذذه بنصّ »مملكة باردُو« وهي مملكة فيها من العجائب الخاصة والغرائب ما يفوق سذاجة الواقع (دهاء ومكر شخصيّات »مصطفى بن اسماعيل« و»ابن الزّايْ« وتقلّب الأحوال السّياسية وتلاعب والاجتماعية..) فهل بذلك تُصنّف الرواية في العجائبي؟!
هي بنصّ جامع شامل كأنّه الكاتب أرادها عصيّة على التّصنيف كما هي نصّ مفتوح لمختلف القراءات.
❊ إحالات:
(1): راجع رواية »مملكة باردُو« للكاتب د. عبد القادر بن الحاج نصر الشركة التونسية للنشر وتنمية فنون الرّسم الطبعة الأولى: تونس: 2010 ص: 5.
(2): المرجع نفسه ص 8.
(3): المرجع نفسه ص 14.
(4): المرجع نفسه ص 33.
(5): المرجع نفسه ص 64.
(6): المرجع نفسه ص 309.
(7): المرجع نفسه ص 9.
(8): المرجع نفسه ص 19.
(9): المرجع نفسه ص 24.
(10): المرجع نفسه ص 101 102.
(11): المرجع نفسه ص 102.
(12): المرجع نفسه ص 136.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.