أبرز ما جاء في زيارة رئيس الدولة لولاية الكاف..#خبر_عاجل    زاراها قيس سعيد...كل ما تريد معرفته عن مطحنة أبة قصور في الكاف    سعر ''بلاطو العظم'' بين 6000 و 7000 مليم    عيد الاضحى 2025: الأضاحي متوفرة للتونسيين والأسعار تُحدد قريبًا    الصين تدرس عرضا أميركيا لمحادثات الرسوم وتحذر من "الابتزاز"    لي جو هو يتولى منصب الرئيس المؤقت لكوريا الجنوبية    الجولة 28 في الرابطة الأولى: صافرات مغربية ومصرية تُدير أبرز مباريات    الرابطة المحترفة الثانية : تعيينات حكام مقابلات الجولة الثالثة والعشرين    نهائيات ماي: مواجهات نارية وأول نهائي لمرموش في مانشستر سيتى    لأول مرة في التاريخ: شاب عربي لرئاسة ريال مدريد الإسباني    الرابطة المحترفة الأولى (الجولة 28): العثرة ممنوعة لثلاثي المقدمة .. والنقاط باهظة في معركة البقاء    تشيلسي يهزم ديورغاردن 4-1 في ذهاب قبل نهائي دوري المؤتمر الاوروبي    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    طقس اليوم: أجواء ربيعية دافئة وأمطار رعدية محلية    عاجل/ أمطار أعلى من المعدلات العادية متوقعة في شهر ماي..وهذا موعد عودة التقلبات الجوية..    الأشهر الحرم: فضائلها وأحكامها في ضوء القرآن والسنة    رئيس الجمهورية: تونس تزخر بالوطنيين القادرين على خلق الثّروة والتّوزيع العادل لثمارها    وجبة غداء ب"ثعبان ميت".. إصابة 100 تلميذ بتسمم في الهند    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة والأسعار ستُحدد لاحقًا وفق العرض والطلب    "نحن نغرق".. سفينة مساعدات متجهة إلى غزة تتعرض لهجوم جوي (فيديو)    صفاقس ؛افتتاح متميز لمهرجان ربيع الاسرة بعد انطلاقة واعدة من معتمدية الصخيرة    سقوط طائرة هليكوبتر في المياه ونجاة ركابها بأعجوبة    توتنهام يضع قدما في نهائي الدوري الأوروبي بالفوز 3-1 على بودو/جليمت    بقيادة بوجلبان.. المصري البورسعيدي يتعادل مع الزمالك    قضية منتحل صفة مسؤول حكومي.. الاحتفاظ بمسؤول بمندوبية الفلاحة بالقصرين    مخاطر الاستخدام الخاطئ لسماعات الرأس والأذن    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    خطبة الجمعة .. العمل عبادة في الإسلام    الطبوبي في اليوم العالمي للشغالين : المفاوضات الاجتماعية حقّ ولا بدّ من الحوار    الوضع الثقافي بالحوض المنجمي يستحق الدعم السخي    أولا وأخيرا: أم القضايا    المسرحيون يودعون انور الشعافي    إدارة ترامب تبحث ترحيل مهاجرين إلى ليبيا ورواندا    بنزرت: إيقاف شبان من بينهم 3 قصّر نفذوا 'براكاج' لحافلة نقل مدرسي    الجلسة العامة للبنك الوطني الفلاحي: القروض الفلاحية تمثل 2ر7 بالمائة من القروض الممنوحة للحرفاء    المهدية: سجن شاب سكب البنزين على والدته وهدّد بحرقها    الكورتيزول: ماذا تعرف عن هرمون التوتر؟    انتخاب رئيس المجلس الوطني لهيئة الصيادلة رئيسا للاتحاد الافريقي للصيادلة    لماذا يصاب الشباب وغير المدخنين بسرطان الرئة؟    تونس العاصمة وقفة لعدد من أنصار مسار 25 جويلية رفضا لأي تدخل أجنبي في تونس    ارتفاع طفيف في رقم معاملات الخطوط التونسية خلال الثلاثي الأول من 2025    بالأرقام/ ودائع حرفاء بنك تونس والامارات تسجل ارتفاعا ب33 بالمائة سنة 2024..(تقرير)    إقبال جماهيري كبير على معرض تونس الدولي للكتاب تزامنا مع عيد الشغل    تونس: تفاصيل جديدة عن متحيل يتجوّل 10 أيام كمستشار حكومي ويزور إدارات رسمية    مصدر قضائي يكشف تفاصيل الإطاحة بمرتكب جريمة قتل الشاب عمر بمدينة أكودة    وزير الصحة: لا يوجد نقص في الأدوية... بل هناك اضطراب في التوزيع    الطبوبي: انطلاق المفاوضات الاجتماعية في القطاع الخاص يوم 7 ماي    نحو توقيع اتفاقية شراكة بين تونس والصين في مجال الترجمة    يوم دراسي حول 'الموسيقى الاندلسية ... ذاكرة ثقافية وابداع' بمنتزه بئر بلحسن بأريانة    عاجل/ مجزرة جديدة للكيان الصهيوني في غزة..وهذه حصيلة الشهداء..    توقيع عدد من الإصدارات الشعرية الجديدة ضمن فعاليات معرض تونس الدولي للكتاب    عاجل/ المُقاومة اليمنية تستهدف مواقع إسرائيلية وحاملة طائرات أمريكية..    التوقعات الجوية لهذا اليوم..طقس حار..    قيس سعيد: ''عدد من باعثي الشركات الأهلية يتمّ تعطيلهم عمدا''    محمد علي كمون ل"الشروق" : الجمهور على مع العرض الحدث في أواخر شهر جوان    صادم: أسعار الأضاحي تلتهب..رئيس الغرفة الوطنية للقصابين يفجرها ويكشف..    توجيه تهمة 'إساءة استخدام السلطة' لرئيس كوريا الجنوبية السابق    أذكار المساء وفضائلها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحفرُ في الشخصيات التاريخية وإشكاليّة التّصنيف في رواية »مملكة باردو« للكاتب د. عبد القادر بن الحاج نصر
قراءات: بقلم: بلقاسم برهومي
نشر في الشعب يوم 04 - 06 - 2011

صدر جديد القاص والرّوائي د. عبد القادر بن الحاج نصر رواية بعنوان »مملكة باردُو« عن الشركة التونسية للنشر وتنمية فنون الرّسم في طبعة أولى: تونس 2010 والكتاب يقع في (325 صفحة) تُزيّن صورة غلافه تصميم لياسين غربال تتكوّن الرواية من عشر مفاصل، يقوم الرّاوي الرئيس بنقلنا بين هذه المفاصل وقد كان راويا شاهدًا على حكاية الوزير مصطفى بن اسماعيل يقول:
»على نسق الرّيح تدور حول نفسك.. ما أنت إلاّ حرف كُتب بماء.. وتظنُّ أنّك تُلاحقُ الأحداث وتُطاردُ غُلامًا فاسقًا يُسمّى مصطفى بن اسماعيل لتقتص منه من أجل بلدك..«... (1)
فهذا الرّاوي يستخدم ضمير المتكلّم لمزيد من الإيهام بحقيقة ما حدث وهذا ما جعل السّرد يجري دون عقبات تُضعف المبنَى الحكائي الذي اتّسم بالتّنوع، فنجد تنوّعًا في الشّخصيات وتنوُّعًا في المكان والزّمان وتنوُّعًا في الأحداث التّقنيات، هذا التنوّع الذي خدم الرؤية التي احتوتها الرواية.
يُمكن تصنيف الرّواية ضمن سياق الرواية التّاريخيّة الاجتماعية وعنوانها الفرعي يُوحي بذلك: »حكاية ماء وملح بين تونس والجزائر«.
والشّخصية الرئيسيّة »مصطفى بن اسماعيل« كأنّها شخصيّة لُغز بذهن الرّاوي والكاتب يقول:
»بعد تسعين سنة، كنت تقطع المسافة بين مرسيليا وباريس وفي نفسك توق إلى أن تسأل أهل البلاد وعابري السّبيل تستنطق الحجر والتراب في الأرشيف وما يُخبئهُ من أسرار، لقد ثارت ثائرتك ذات يومٍ وأنت تنظرُ إلى صورة مصطفى بن اسماعيل الوزير الأكبر موضوعةٍ على غلافِ كتابٍ.. ثمّ أخذَكَ الغثَيان... (2)
وتوالَت الأحداث لحلّ ألغاز هذه الشّخصية وغيرها من الشّخصيّات ك »ابن الزاي« والبايات وقاطني الحدود التونسيّة الجزائرية اضافة إلى البُعد العجائبي الذي غلف الشّخصيات والأحداث والأزمنة ممّا جعل الرواية مفتوحة لتعدّد القراءات بالتالي تعدّد الأفهام والتّأويلات وإذا كان لابدّ من تأطير محاور القراءة:
1 الشّخصيّات.
2 الأحداث، الفضاء المكاني، الزّمان.
3 اللّغة والرّمز والتّقنيّات.
الشّخصيات:
تنقسمُ الشّخصيات في الرواية إلى قسمين:
أوّلا شخصيّات فاعلة ومؤثرة: »مصطفى بن اسماعيل« و»ابن الزّاي« و»البَايْ« و»رُوستانْ« وشخصيّة »مصطفى بن اسماعيل« تشكّل مادّة بحث تاريخيّة للرّاوي أو الكاتب.
ثانيًا: شخصيات ثانوية: الرّاوي أو الكاتب الأب الأخ صاحب الحانة... الخ...
فشخصيّة »مصطفى بن اسماعيل« تُمثّل الإنسان الواقعي بكلّ عُيُوبه وسِمَاته فهو يعكسُ طبيعة البشر من حيث جمعِهِ بين المُتناقضات:
»مُصطفى بن اسماعيل! قِّط في مزبلة، رُوحٌ قَذرة في جسم شيطان.. وأنت!
أَنْتَ تسيرُ في شارع الحيّ اللاّتيني وقد تأبطت محفظَة قديمة حشوتها أوراقا ودفاتر، وقبضت بيدك على خُبزةٍ تقضِمُهَا..«... (3)
فهذا التّناقض يجعل شخصيّة »مصطفى بن اسماعيل« سهلة من حيثُ الاقتناع وسرعة الانفعال وبساطة التّفكير وأحيانًا يجدُ المتلقي بأنّها شخصيّة مُركبة وغامضة الملامح سعى الكاتب جاهدًا للحفر في أدّق تفاصيلها ومُحيطها.
فالكاتب يعرف بشخصيّات الرّواية الرئيسيّة مُبيّنا أبعادها النّفسيّة والاجتماعية، والفكرية كاشفًا خلال ذلك عن طباعها وسلوكها الشّاذ:
»تْفُو.. وألفُ تفُو.. أنت رجُل »خائنٌ لا يؤتمنُ جانبك، أليس الباي.. أيّها الكلبُ هُو وليّ نعمتُنا.. لوْلاهُ لمّا كنت أنتَ في هذا المكان، ولكنتُ أنا، ابن اليهودية، أجُوبُ الشّوارع.. الطّاعَة الطّاعة وإلاّ جززت الموسى على رقَبتكَ مثل خروفٍ...«... (4)
فالشّخصيات تُناسبُ الزّمان والمكان، وهي شخصيّات حقيقيّة معروفة، ولكنّنا قد نجدُ فيها شيئًا من الرّمز:
»على ضوء القنديل جلس مصطفى وابنُ الزّايْ مُتقابلين يُحرّكان قطع الشّطرنج، وكلّما نقل مصطفى قطعة من مكان إلى آخر قهقه عاليّا:
لا تُؤاخذني.. هذه اللّيلة أنا مزطول.
قال ابن الزّايْ:
أي نعم.. يحقُّ لك ذلك. لقد ضربتَ عدّة عصافير بحجرٍ واحدٍ..«... (5) الأحداث والفضَاء (المكان):
لعلّ الأحداث والمكان ترافقت في هذه الرّواية حتّى تماهَى أحدهما في الآخر، فكلّ حدث كان في مكان وكلّ مكان كان فيه حدث إذن تنوّع الحدث بقر ما تنوّع المكان وأحْيانًآ كان المكان يُحدّد الحدث الذي يقعُ فيه.
وهكذا تعدّدت الأماكن تعدُّدًا غنيًّا، فمن باريس إلى قصر باردُو حيث يجلس البايْ على العرش إلى دار الباشا إلى ريف البلاد سنة 1952 حيث كانت الشّاحنات الثّقيلة المكتظّة بالجُنود والعتاد تشقُّ البراري إلى قُرَى الحُدُود التّونسيّة الجزائرية.
ومع تنوّع المكان كان القارئ أمام لوحة تاريخيّة اجتماعية نطقَ فيها كلّ شيء امّا مباشرة أو بطريقة غير مُباشرة:
»حتّى عنّابة الجميلة الشيّقة الرّائقة الوفيّة لأبنائها، حتّى ناسها الطيّبون الكُرماء الأشاوس، حتّى الأهل، والخال والخالة والأشجار والجبال والغابات والأودية، لم يشهدوا طيف أم الخير مارًّا على عجلٍ لم يسمعوا وقع خطوتها، لم يحسُوا بشيء منها، أبدًا أبدًا...«... (6)
فالمكان ارتبط بالحدث والحدث حفَر في الشّخصيات آثاره، حتّى في شخصيّة الرّاوي أو الكاتب:
»مرارة الطّريق، وعَنَاء السّفر، الخطوة الأولى على الأرض الاسفلتيّة، الشّوارع العريضة المُكتظّة، اللاّفتات المُضيئة والعلامات والنّاس على قدمٍ وساق بين رائحٍ وغادٍ.. أمامك أيّها القادم إلى باريس أحوال وأهوَال.. عواطِفٍ وأمواجٍ مُتلاطمة..«.. (7)
فهذا الرّاوي يتماهَى مع المكان وهو يبحثُ وينّقبُ في الوثائق التّاريخيّة ويتكبّدُ المعاناة وسهر اللّيالي والعمل الوضيع والمرهق حتّى مرحلة الوصول لتلك الوثائق ومعرفة الحقيقة وكشف أسرار شخصيّات تلك الحقبة، ويتغير الأماكن وتنقل الرّاوي بينها ازدادَ علمًا ومعرفة بحقائق الأشياء وهو لا يتوقف عند الظّاهر والقشور:
»لحظات، ساعات، أيّام، ثمَّ وجدتَ نفسك تجُوبُ الشّوارع العريضة... وتتوقفُ أمام المكتبات، ومراكز الأرشيف، لماذا جاءت الامبراطورية بطُمّ طميمها، جُيُوشًا ومستشارين، ودبلوماسيين ومُعمرّين ليستولُوا على الإيَالة الجميلة؟
من فتح الأبواب؟ من فرش الزّرابي المبثوثة؟ من أمسك القلم: »بإسم الشّعب والتّاريخ أُمضى على مُعاهدة الحماية.. لكم الأمر والنّهيُ أنتم السّادةُ ونحنُ العبيد...«... (8).
فكما يتبيّن في نصّ الرّواية الرّاوي ليس عُنصرًا مُحايدًا.. فالأسئلة الحارقة تسكُنُه وكأنّه يُشارك في صنع الأحداث، كأنّ الرّاوي يرى في كشف سبر غور الوثائق بوّابة ستُوصِلهُ إلى الحق المطلق والعدل المطلق، ولو توّقفنا عند قصّة عُثُوره واكتشافه الحقائق في الوثائق لوجدّْنا أنّ مدار الرّواية هو بين الدّنيا والآخرة، والمعرفة والجهل، والباقي والفاني، والظاهر والجوهر، والرّضى والسُّخط، وقد تنوّع الزّمان تبعًا لتنوع المكان فهناك الزمن الواقعي والزّمن النّفسي اضافة إلى الزّمن الخطيّ:
»عائلات اجتازت الحدود نحو تونس، وأخرى أخذت تنتقلُ ذهَابَا وإيّابًا.. في جبال خمير مُتّسع للهاربين من قهر عُتاة المُعمّرين والجيش الفرنسيّ، عائلات أخرى انتشرت في السّباسب والصّحراء... أشرقت شمس الحدود ساطعة دافئة.. الجزائر من هنا وتونس من هناك.. يا لروعة الطّبيعة.. يا لجمَال الأمكنة.. بعضُ طلقات المدافع تُسمعُ على بُعد عشرات الكيلومترات...«... (9).
وشخصيّة »مصطفى بن اسماعيل« ترمُزُ إلى الغواية والعبث والشّهوات، يتحدّى حتّى نفسه ليتسلّق سلم المناصب والثّكالب على جمع الثّروات:
»كان لابدّ له أن يصعد درجات المجد، وليصعد كان لابدّ من أن ينزل آخرون وتتدحرج رؤوس، إنّه زمن التّحدي وقد قَبِلَ التّحدي، وأقبل على المراهنة بحياته.. كان يعلم أنّه يقفُ في كلّ لحظة على شفَا الهاوية.. لو زلّت القدم لن يرحمهُ أحد...«... (10).
إنّه العبث الذي ليس له حدّ فيصْحُو الانسان منهُ، وقد تتماهَى شخصيّة »مصطفى بن اسماعيل« في الغواية، وتتمَاهى الغواية فيه فيضَعُ كلّ ماهو فاضل وسامٍ:
»لقد حذقَ حركة النّفوس، وردود فعل أهل السّوق.. امّا أن يكون الواحد قويّا، بيده مقاليد الأمور، يُمسكُ الآخرين من رقابهم بحِبَال لا يتّنفسون الاّ بمقدار يُقدّره هو، وفق ما يُريد ووقت ما يُريد...«... (11).
فحتّى الضّمير والوازع الوطني لا أثر له في مثل هذه الشّخصيات.. يتآمر لبيع أرض وطنه لسلطات الحماية الفرنسيّة:
»يضحك المُرافقُ، ثمّ يُقهقهُ:
»أنتَ أحق مسؤول في الإيّالة بصداقة فرنسا.. لأنّك الوحيد الذي يربطُ مصير تونس بالدّولة العظيمة... ستجِدُها إلى جانبك وجانب الأوفياء العارفينَ بالأمور من أبناء الإيَالة، ولسوْف تضعُك أنت ومن تُزكّيهم في المرتبة العليا..«... (12).
ديدنه الطّمع وكسب مزيد الثّروات والنّفاق سمَة حياته:
»يعْلمُ رُوستان أنّ مصطفى قد تذهبُ به الأهواء إلى أقاصي الدّنيا، يكرهُ ويُحبُّ ويتآمرُ ويتصالحُ، يُرشي هذا ويتلقّى رشْوةٍ من ذاك، يعدُ ثمّ سرعان ما يخلفُ الوعد، بعد ذلك يزحفُ على رُكبتيه طالبًا الصّفح، ويتنمّرُ في اللّحظة المُوالية من أجل المحافظة على المنصب العالي وتأمين مصادر الاسترزاق من أوسع الأبواب...«... (13).
اللّغة والرّمز والتّقنيات:
كلّ ماكان في الرّواية من عناصر كان مُلَغّزًا ابتداء من حقائق وأسرار الحقبة التّاريخيّة المُتعر لها فترة حكم البايات ودخول سلطات الحماية ومؤامرات قصر باردُو وشخصيّة »مصطفى بن اسماعيل« نفسه.. وهذا يدلُّ على تمكّن الكاتب د. عبد القادر بن الحاج نصر من اللّغة، فقد استخدمها هذا الاستخدام الذّي أبقى القارئ مشدُودًا بحبل التّشويق والتّطلع إلى حلّ هذه المعضلات وكلّ ذلك جاء بلغة موحيةٍ.
وظف الكاتب تقنيات متعدّدة مثل انسيابيّة السّرد (شخصيّة الرّاوي أو الكاتب) أو (العودة إلى الماضي واستحضار الطفولة وذكرياتها، كما نلمس تقنيّات التّلخيص (فباعتبار ثراء الأحداث وتشعبّها في الفترة التاريخيّة المتناولة لم يُسهب في رواية أحداثها بقدر ما وطفها لخدمة أغراض نصّه) فاقتصر اذن على ما يلزم ويخدمُ هدف الرواية وبنائها وكلّ ذلك كثّف إيحاءات الرواية في نصّ غلبت عليه خاصيّة الفنّي التنوع في كلّ عنصر من العناصر في نسج محكم يترك القارئ مُتأمّلا مفكّر لا في كلّ جملة منها، وهي عناصر تُراوح بين التّاريخي (الأرشيف والوثائق) وهذا يُحيل لطابع الكتابة الوثائقيّة أو التّسجيلية لفترة تاريخيّة مُحدّدة والإجتماعي (تصوير حياة الأهالي في قرى الحدود التونسيّة الجزائرية وشظف العيش آنذاك وطابع البداوة) وهذا يحيل على الرواية الاجتماعيّة.
وإذا أشرنا إلى الرواية الاجتماعيّة يمكن اعتبارها تحمل قيّما أخلاقية بعينها والنص في »مملكة باردُو« مُحمّلٌ بمتناقضات تلك القيم أساسا والأخلاق: النّفاق المؤامرات الجشع التّكالب على الثّروات... الخ.. من السلوكيّات الشّاذة« الفكر، الدّهاء، الطيع فهل الكاتب يبحث عن الوجه الآخر والانساني الأصيل والقيّم الحقّة حتّى في نماذج شخصيّات تُفتقد لكلّ ذلك؟!
وإذا كانت الرّواية بكلّ أصنافها ككلّ نماذج تعتمد على الحكائيّة، بمعنى أن يكون هناك حدث ما محوريّ بالاضافة للأحداث الثّانوية فالكاتب يُوفّق في الإلمام بفنّ الحكاية: فالمُتلقّي سيُتابع حكاية غلامٍ فاسقٍ يُسمّى »مصطفى بن اسماعيل« وحكاية »ابن الزّايْ« وحكاية »أمّ الخيرْ«... الخ... من مجموعة الحكايات التي ترتبطُ بالأحداث التي تستغرق الرواية بكاملها.
وإذا كانت كلّ رواية بغضّ النظر عن إيديولوجيّة صاحبها تخضع إلى التّحليل الفنّي ويترتّب على هذا أن يكون صاحبها قد وُفّق إلى تحقيق كثير من القيّم الفنيّة فهذا ما جسّدهُ الكاتب في »مملكة باردُو« وكشفه الغطاء عن حقيقة »مصطفى بن اسماعيل« وفضاعة جيش الاحتلال الغاشم وصمود الأهالي ومُقاومتهم وإذا كان لابدّ للرواية تاريخية أو اجتماعية أو غيرها أن تحقّق هدفها حتّى لو لم يُشر كاتبها أو يُحدّد صنفها، فأحداث »مملكة باردُو« تحتمل الجانب التّاريخي والاجتماعي والسّياسي والاقتصادي والأخلاقي والفلسفي والتّحليلي (سبر عُمق الشّخصيات ونمط تفكيرها...).
كما استغلّ الكاتب ما ترسّب في ذاكرته من حكايات شعبية عن شخصيات »مصطفى بن اسماعيل« و»ابن الزّايْ« و»الباياتْ« وحكايات الكفاح المشترك التونسي الجزائري وصنع منها اسقاطات فنيّة وإذا كان د. عبد القادر بن الحاج نصر غزير الانتاج.... فروايته الجديدة »مملكة باردُو« وعنوانها الفرعي »حكاية ماء وملح بين تونس والجزائر« تتميّز بِسماتٍ ميّزت أسلوبه وان كان المتلقي يظلّ يتساءل: هل النص رواية تاريخيّة أم رواية اجتماعيّة ففيها تلتقي الأبعاد والعناصر.. فكان الكاتب هنا يُحقّق مُتعه الخاصّة بالبحث والحفر في التاريخي والاجتماعي كما أنّ الاشارة إلى أسلوب العيش في تلك الفترة يُعدُّ في الجانب الاقتصادي ودسائس ومؤامرات قصر باردُو في الجانب السّياسي وعلى القارئ متابعة التّفاصيل وائتلاف كلّ العناصر والمتناقضات ليُحقّق بدوره متعته وتلّذذه بنصّ »مملكة باردُو« وهي مملكة فيها من العجائب الخاصة والغرائب ما يفوق سذاجة الواقع (دهاء ومكر شخصيّات »مصطفى بن اسماعيل« و»ابن الزّايْ« وتقلّب الأحوال السّياسية وتلاعب والاجتماعية..) فهل بذلك تُصنّف الرواية في العجائبي؟!
هي بنصّ جامع شامل كأنّه الكاتب أرادها عصيّة على التّصنيف كما هي نصّ مفتوح لمختلف القراءات.
❊ إحالات:
(1): راجع رواية »مملكة باردُو« للكاتب د. عبد القادر بن الحاج نصر الشركة التونسية للنشر وتنمية فنون الرّسم الطبعة الأولى: تونس: 2010 ص: 5.
(2): المرجع نفسه ص 8.
(3): المرجع نفسه ص 14.
(4): المرجع نفسه ص 33.
(5): المرجع نفسه ص 64.
(6): المرجع نفسه ص 309.
(7): المرجع نفسه ص 9.
(8): المرجع نفسه ص 19.
(9): المرجع نفسه ص 24.
(10): المرجع نفسه ص 101 102.
(11): المرجع نفسه ص 102.
(12): المرجع نفسه ص 136.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.