«أعطني مسرحا أعطك شعبا عظيما» كلمة مأثورة يكفي اليوم أن ندرك من خلالها شدة إيمان قائلها بجلال رسالة المسرح وخطورتها، لنقف على خطورة الدور الذي يضطلع به مهرجان للمسرح، ومستوى التحديات التي هو مطالب برفعها والرهانات التي هو معني بتحقيقها. و»مهرجان قفصة للمسرح» صرح ثقافي بدأ يعلو شامخا ليؤثث ركنا من أركان المشهد الثقافي الوطني، بلغ هذه السنة دورته التاسعة التي امتدّت فعالياتها من يوم 22 ماي 2004 الى يوم 29 ماي 2004. لن أتحدث عن هذه الدورة حديث التغطية ولا حديث مختص في الفن المسرحي، فهذا أمر لا أدّعيه، بل سأقدم ملاحظات متابع ومنشغل بالساحة الثقافية عموما، هي ملاحظات لا تنحو منحى الاطراء الذي لا يفيدنا كثيرا، لكنها تميل الى التقويم الموضوعي الحريص على تحقيق الأنجع واصابة الهدف والغاية. جاءت هذه الدورة على مستوى البرمجة ثرية ومتنوعة، شملت عروضا مسرحية يومية قادمة من مختلف ولايات الجمهورية، وتربصا فنيا حول التعبير الجسماني، وندوة فكرية حول الدراماتورجيا والكتابة المسرحية، وتكريما لبعض المسرحيين. هذه البرمجة الممتدة على أسبوع كامل تبرهن على الجهد المبذول في التنظيم والحرص على الارتقاء بالمهرجان والفن الرابع في الوطن عامة، ولن أتحدث عن مستوى العروض وقيمتها الفنية إذ يبقى الحكم في ذلك لأهل الذكر والاختصاص، بل سأتطرّق الى ملاحظتين: الأولى تهم الندوة الفكرية والثانية تهم التربص الفني. جرت ندوة «الدرامتورجيا والكتابة المسرحية» يوم الاثنين 24 ماي 2004 بدار الثقافة ابن منظور حيث تقع العروض المسرحية كل ليلة، وكانت الافادة منها حاصلة لجودة المداخلات، وثرائها وتخصصها إذ تداول على الكلمة الأساتذة كمال اليعلاوي وظافر ناجي وبشير القهواجي ومحمد سيف حاولوا خلالها اثارة اشكالات الدرالماتورجيا تعريفا وممارسة وعلاقتها بالكتابة المسرحية وبمختلف العمليات المتدخلة في العمل المسرحي، وكانت الندوة فرصة للحوار بين الجمهور وأهل المسرح وبين المسرحيين في قضايا المسرح اليوم ومشاكله وشواغله. أما التربص الفني فاتخذه نموذجا على القدرة على التحرك «اللوجستي» لمنظمي المهرجان، اضافة الى أهميته التكوينية، حيث أمكن اجراؤه رغم تعذر حضور المؤطرة إيمان السماوي لأسباب قاهرة في آخر لحظة، فتمت الاستعانة بالأستاذ حافظ جليطي لتأطير المتربصين، وبذلك لم يقع التفريط في هذا المكسب مع حرص على كفاءة المؤطر، ولعل ذلك يبرهن على كفاءة تنظيمية استطاع بها الواقفون على تنظيم المهرجان التعامل مع كل طارئ دون الاخلال بمستوى الأنشطة. لكن هذه البرمجة وتلك العروض ما الهدف منها؟ هل بدأ المهرجان إن لم نقل واصل يميل الى النخبوية؟ أليس المهرجان نشاطا جماهيريا أساسا؟ بل ما قيمة المسرح دون جمهور؟ فأين الجمهور من المهرجان؟ وأين المهرجان من الجمهور؟ كيف يحضر جمهور قفصة العروض المسرحية للمهرجان؟ كيف كان السبيل لدخول قاعة العرض كل ليلة؟ من خلال المتابعة لاحظنا أن الواحد من الجمهور لكي «يتمتع» بالفرجة وهو قادم على حضور عرض مسرحي ليس متأكدا من جودته، فهو محيّر بين أمرين: * الخيار الأول أن يدفع ثمن التذكرة وهو رمزي في الحقيقة، وهو الخيار التلقائي والعفوي، ليجد نفسه وسط قاعة يكاد يكون الوحيد الذي دفع فيها مقابل تذكرة للدخول، وفي جمهور أقل ما يقال عنه أنه لا علاقة له بالمسرح، يمارس التهريج والتشويش وسوء الأدب لا يتورّع عن انتهاك حرمة المسرح والأخلاق.. هذا النوع من الجمهور لم يبرهن عن رغبته الصادقة في متابعة عرض مسرحي بتكليف نفسه عناء اقتناء تذكرة زهيدة الثمن أي هو من ثمن علبة السجائر أو من ثمن شيشة! فهو غير مقتنع بالعرض ولا يحترم المسرح منذ البدء ، وانعدام «الحافز» في علم النفس والبيداغوجيا من أهم عوامل الفشل.. لكن الغريب في الأمر أن هذا الجمهور «منح» فرصة الدخول «مجانا».. فهل نستجدي حضور السلبي؟ أم نخشى غضبه إذ عاملناه بصرامة؟ أم هو السعي الى ملء القاعة؟ لذلك فإن القادم على هذا الخيار الأول بدفع ثمن التذكرة يحسّ أنه مغفل، ضحك الجماعة على ذقنه،واستخفوا بعقله، حين حملوه «تكاليف» فرجة تهريجية لصالح هذه الفئة الغريبة، وحشروه معهم عنوة، واستدرجوه وتحيلوا عليه وعلى حسن نيته حين جاء يمني النفس بمتعة الفرجة المسرحية، تلك «الجنة المفقودة». * أما الخيار الثاني فهو أن يسلك مثل غيره سبيل التملّص من دفع ثمن التذكرة نقدا ليدفعه وقوفا على الباب ليعرّف بنفسه ويستجدي الدخول «بواسطة»، بعد أن يخضع لعملية قيس مهينة هو فيها رهين براعته وعلاقته بمن يحرس الباب وبمن معه و»بالجماعة»، ليحصل على صكّ أو شهادة أو تسخير من «أحدهم» يشفع له، ويبيض به وجهه، ثم يجد نفسه بعد الدخول وسط الجو الذي وصفناه سابقا، لكن هذه المرة يزداد احتقاره لنفسه لما سلف من اهانة لا تلائم الممارسة الثقافية فيسلك حينئذ مسلك المتهورين من الجمهور، إذ ماذا بقي له وقدخلع ما تبقى له من برقع الحياء أو خلعوه له في بوابة «المعبد». فهل بهذه الممارسات يعالج «المسرحيون» نفور الجمهور؟ أم أن هذه آخر تقليعات تقنية «التطهير» القديمة؟ أهكذا نربي جمهورا قادرا على مساعدة الحركة المسرحية؟ نحن لا ندعو الى مجانية العروض مطلقا ولكن نرى أن يتخلى المسرحيون عن اللهفة التجارية ليقدموا بعض التضحيات إن كانوا يرون أن المسرح رسالة كما ندعو الى توحيد قاعدة التعامل مع الجمهور سواء كان ذلك بمقابل أو مجانا، خدمة للمهرجان والمسرح عموما. ويبقى ابداء الرأي في ما يقع عرضه من مسرحيات هاما وضروريا فهذا المهرجان مناسبة جيدة يرصد من خلالها المختصون مستوى الفن المسرحي في تونس اليوم وما يعتمل من أفكار ومدارس وما تعانيه من مشاكل. الأستاذ محمد الهادي زعبوطي