يوم الاثنين الماضي احتفل الكثيرون، لا في كوبا والأرجنتين فحسب بل في مختلف بلاد العالم، بذكرى ميلاد غيفارا (14 جوان 1928). لم تسقط ذكرى «التشي» على الرغم من بهارات العولمة وحروب «الإمبراطورية» الجديدة ونجوم «أنابيب» ستار أكاديمي. في الثمانينات كان يحلو لي (مع الكثير من أبناء جيلي) الردّ على أغنية الشيخ إمام «غيفارا مات» بأغنية البحث الموسيقي «غيفارا آت». لم يكن ذلك إيمانا برجل خارق بل كان انخراطا في ثقافة ظلّت تبدو لي حتى الآن الثقافة الوحيدة التي تجعل الإنسان جديرا بالحياة: ثقافة مقاومة الجهل والقبح والظلم والتدجين والغشّ والاستغلال وتحويل الإنسان الى بضاعة. من يومها وأنا أعتبر «التشي» رمزا لروح المقاومة وحلما لا ذكرى ومعنى لا صنما يُعبد. ولا أرى حتّى الآن فرقا كبيرا بينه وبين أبي ذرّ الغفاري والحلاّج والهنديّ الأحمر جيرونيمو وغيرهم. لذلك لم أستغرب حين شاهدت على الفضائيات صوره مرفوعة بعد سبعة وثلاثين عاما من رحيله، إلى جنب صور الشيخ ياسين، في مظاهرات الاحتجاج على جرائم شارون.. هكذا إذن، تثبت الأحداث أن غيفارا يظلّ «آتيا» في كل إنسان جدير بهذه التسمية، على الرغم من كل الهزائم والعثرات والغربان الناعقة الداعية إلِى ثقافة الانبطاح والاستسلام الوقائي والاستباقيّ وكلّ ما هو على وزن الدجاج الذي «يقاقي».. أحنّ بين الوقت والآخر إلى الكثير من النصوص والحوارات التي تركها غيفارا. أذكر أنّي مدين له باكتشاف كورساكوف مثلا، صاحب العديد من الروائع الخالدة مثل شهرزاد والديك الذهبي. عبّر «التشي» في أحد حواراته عن إعجابه بأعمال هذا الفنّان، وخاصّة بقصيدة سمفونية لم تنل ما تستحق من الشهرة، ألّفها كورساكوف تحت عنوان «عنترة». وكان ذلك كافيا كي أنتبه إلى هذا الموسيقي وإلى أعماله الأخرى، ثمّ اكتشفت في ما بعد أنه يستحقّ فعلا المتابعة بصرف النظر عن رأي «التشي» فيه. ثمّ دارت الأيام وشاءت الصدف أن أقرأ إثر ذلك بسنوات تصريحا لسولجنتسين يقول فيه الشيء نفسه بخصوص كورساكوف، فاجتمع هذا الثلاثي في ذهني بمثل تلك «المقارنات العجيبة» التي يعقدها الذهن أحيانا بين العناصر المتباعدة. وهكذا بدأت المخيلة تشتغل، واكتشفت أن ما يجمع بين هؤلاء الثلاثة أعمق ممّا يبدو بكثير.في الثامن من أكتوبر 1967 سقط غيفارا في أحد أدغال بوليفيا رميا بالرصاص، وفي الثامن من أكتوبر 1970 أي بعد ذلك بثلاث سنوات يوما بيوم، مُنحَ سولجنتسين جائزة نوبل للآداب.. قد تبدو العلاقة بين «الواقعتين» أقرب إلى الصدفة. لكنّ ما أثار انتباهي أنّ ثلاثتهم كان يجمع بين الفنّ والحرب.. فقد صعد كورساكوف لتحية الجمهور عند عرض أول سمفونية له وهو في بزّته العسكرية. أما «التشي» فقد كان طبيبا وشاعرا دون أن يمنعه ذلك من أن يكون قائدا ميدانيا شهد له الكثيرون بالشجاعة.. وأما سولجنتسين فقد كان كاتبا ودارس رياضيات وفيزياء ثمّ دارس آداب وتاريخ وفلسفة ولم يمنعه ذلك من الالتحاق بالجيش سنة 1941 واستحقاق وسامين وبلوغ درجة الكابتن. كنت كالعديد من أبناء جيلي شديد الولع بالمثقف الفارس ذي الهالة الشاعرية، وأعترف بأن جذوة هذا الولع لم تنطفئ حتى الآن، ربّما بسبب الطفل المزمن فيّ، إلا أنّي كثيرا ما سألت نفسي أمام كلّ «فروسية» من ذلك النوع وكثيرا ما أسألها اليوم، كيف يمكن لفنّان أو مفكّر أن يتحمل متطلّبات القتال، وأيّ تمزّق يعاني كي يجمع بين صناعة الجمال وصناعة الموت، موت الآخر أيّا كان، وإن كان عدوّا للحظة.. سؤال لم يكن غائبا عن «التشي» أيضا، وهو الذي سأل نفسه ذات يوم: ماذا يعني أن تكون «طبيبا» وأن تفتح عيادة في شارع كبير وأن تعالج الإجسام وأنّ تصف لها الأدوية، بينما الملايين يحتاجون الى طبّ من نوع آخر، يغيّر كلّ حياتهم لا جزءا صغيرا من أجسامهم؟ هكذا سأل نفسه وهو يكتشف ما تخفيه مدن العالم وأدغال أمريكا الجنوبية. هذا الصنف من الأسئلة ألحقه في نظري بالشعراءالملعونين. ممّا جعلني أحفظ الكثير من «شذراته» حتى الآن وكأنها أبيات من الشعر، وأذكرها أحيانا لابنتي كي أطمئنّ الى أنّ ذاكرتها لن تظلّ حكرا على «مخلوقات» برامج تفريخ نجوم الأنابيب وحدها. قال لأحد رفاقه ذات مرة وكان الرصاص يتناولهما من كلّ جانب: «أتعرف كيف أشتهي أن أموت؟ أشتهي أن أموت تماما مثل بطل قصّة جاك لندن في أراضي ألسكا المثلجة البيضاء، حيث تمنّي أن يستند بهدوء الى جذع شجرة وأن يستقبل الموت بصمت وكبرياء.. كم أتمنّى الآن أن أستريح الى جذع شجرة كي يهدأ الهدير داخلي وأموت..» لكنه لم يمت كذلك، بل عفّر دمه تراب بوليفيا في ساحة مدرسة صغيرة قد يجهل مكانها أغلب النّاس اليوم. كتب الكثيرون إنّه «انهزم» هو وما يمثله، واعتبروا موته إعلانا عن «الهزيمة النهائية» التي شهدها مفتتح القرن الحادي والعشرين، هزيمة ثقافة المقاومة. لكن ها هي صوره تزيّن «تيشورتات» شباب العالم من آسيا وإفريقيا الى أوروبا وأمريكا وأستراليا. ها هو مهرجان كان السينمائي في دورته الأخيرة يحتفي بفيلم عن رحلته حين كان في الثالثة والعشرين من عمره، لاكتشاف قارّته الحبيبة. ها هو العالم يذكره أكثر مما يذكر سولجنتسين (مثلا) الذي استقبله الغرب استقبال الأبطال في السبعينات، ومنحه جائزة نوبل، وجعله سلاحا في حربه ضد «المنافس» السوفياتي، ثم سرعان ما لفظه ما أن انتهت مدة صلوحيته وانقطعت الحاجة إليه.. مات غيفارا كإنسان وها هو يعيش كأسطورة، ومات سولجنتسين كأسطورة وها هو يعيش كإنسان.. مثقّفان ومقاتلان في جبهتين متقابلتين. كلاهما حارب طيلة حياته بعيداعن الآخر وكأنه يحارب المشروع الذي «عاش» من أجله الآخر. فما الذي بقي منهما؟ وأين هما الآن؟ وبعيدا عن المفاضلة أو المقارنة، من منهما أكثر حياة «الميت» أم «الحي»؟ ثمّ ما الفرق بينهما وبيننا نحن؟ ثمّ من الذي انهزم منهما ومن الذي انتصر، إن كان ثمّة من منتصر أصلا في مثل هذه الحرب؟