قبل مدّة نشرت واحدة من أبرز الصحف الآسيوية خبرا عن اكتشاف هيكل عظمي في العربية السعودية، طوله أكثر من ثلاثين مترا، مما لا صلة له بأي من الاكتشافات والنظريات الموثوقة حتى الآن، هذه الأيام تتحدث صحف عديدة عن انتقال العراق من مرحلة السيادة، وكأن بقاء أكثر من مائة وأربعين ألفا من الجنود الاجانب داخل العراق جزء من المظاهر السيادية. ومع صدور هذا المقال يكون الخبراء والنقاد قد اجتمعوا في لندن، في مؤتمر حقوق التأليف الشكسبيرية، للاستماع الى الامريكية روبين ويليامز وهي تنضاف الى قائمة القائلين بأن شكسبير «الحقيقي» كان امرأة اسمها سيدني هربرت او الكونتيسة بيمكبروك. أخبار متلاحقة تختلف في الكثير لكنها تتفق في الاستهداف عقولنا، لكأننا أمام سباق غير منظور بين الشعوذة والاعلام وبين الشعوذة والسياسة وبين الشعودة والفكر والثقافة. لا يقول احدهم شيئا ولا يشير الى شيء الا وهو يريد اخفاء شيء او لفت الانظار عن شيء. فيما تتجه انظار العالم الى ما يحاك في العراق وما يغلي به مرجل الانتخابات الامريكية الوشيكة، يغفل الجميع عن حرب الابادة المتواصلة في فلسطين، ولا ينتبهون الى تدهور حقوق الانسان في شوارع «أكبر» ديمقراطيات الغرب. وقس على ذلك، لم يعد هدف الكثير من كبار العالم تغيير الواقع بحيث يكون مطابقا لما يريده الناس، بل صار هدفهم «إخراج» الواقع سينمائيا كي «يبدو» مطابقا لما يريده الناس. إنه تنافس آخر، أو سباق آخر، ولكن بين السينما والواقع هذه المرة. لهذا السبب، ربما، أزعج مايكل مور الكثيرين في امريكا. اعتبروه صانع أهجيات لا أفلام، انكروا عليه استعمال «الخدع السينمائية» نفسها التي أقاموا عليها أسس المنعرج الكارثي الذي قادوا اليه العالم. حين تحدث عن تلاعب بالمعلومات وعن مصالح وتحالفات ولوبيات وعن قراءة مبيتة للاحداث، قالوا إنّه من أتباع «نظرية المؤامرة» التي أكل عليها الدهر وشرب. مسكينة «نظرية المؤامرة» انها «مأكولة ومذمومة». لم يفرط في نفيها أحد الا رأيته أفرط في تأكيدها كلما تعلق الامر بسيناريوه الخاص. ومع ذلك فقد فاز «المخرج» مايكل مور على «المخرج» بول بريمر، أفلح الاول في عرض فيلمه في أكثر من 500 قاعة، وتصدر الفيلم قائمة أفضل الايرادات في الأيام الاولى لعرضه، وحصل على أكبر جوائز مهرجان كان، وبات صاحبه يستقبل كالنجوم في بلده وخارجها، بينما لم يجرؤ «المخرج» بول بريمر على عرض فيلمه (فيلم تسليم السلطة والسيادة) في الموعد المحدد، ولم يجرؤ على عرضه امام الجميع بل فضّل عرضا شبه سري، وعلى الرغم من «المؤلفة قلوبهم» فان الفيلم لم يحصل على أي جائزة باستثناء جائزة أسوأ خدعة سينمائية، ولم يستمتع مخرجه بما يستمتع به المخرجون عادة من «حمامات جماهيرية» بل سرعان ما قفل راجعا الى بلده وهو يتلفّت تحسبا من الأخطار. ترى ماذا يمكن ان نستنتج من كلّ هذا؟ أشياء كثيرة من بينها أن العالم قد لا يحب الحقيقة لكنه يكره الكذب. قد يحبّ الخيال لكنه لا يكره الواقع. لذلك فهو يعشق السينما لكنه يمقت الغشّ. قد تكون الأسطورة أحيانا أجمل من الحقيقة التاريخية. الاسطورة او الخرافة تعبير عن انتظارات الجماعة وهي من ثم «حقيقية» من زاوية ما. تمنيت مثلا ان يكون خبر الهيكل العظمى في السعودية صحيحا وليس خدعة بواسطة «الفوتوشوب». تمنيت أن يكون العراقيون قد استرجعوا سيادتهم فعلا. تمنيت ان نكتشف فجأة ان شكسبير امرأة تدعى سيدني. من الممتع ان نتخيل سحنات اولئك «المحنطين» في عقلانيتهم وقد اسقط في أيديهم وباتوا مجبرين على مراجعة الكثير من وثوقيتهم الجرداء امام «عفسة ابراهيم» وخرافة الرجل ذي القدمين الكبيرتين «Big feet» وساقي هرقل وغيرها من الحكايات المجنحة لكن الامر يختلف حين يكون مغالطة مقصودة وتلاعبا بالمعلومة وخيانة للميثاق الذي يجمع بين المواطن من جهة، ورجل الاعلام او السياسة او الفكر من الجهة الاخرى. في مجلة نيوزويك (العدد 211) يورد روبرت صامويلسون العديد من الارقام المزعجة التي تثبت ان نسبة ثقة الامريكيين في صحافتهم من حيث الصدقية والاخلاقية قد انخفضت بمقدار الثلثين خلال السنوات العشرين الأخيرة. الشرخ نفسه يفصل بين الجمهور ومفكري البلد وصناع القرار فيه، واذا حدث هذا في «أكبر» ديمقراطية في العالم فماذا عن الضواحي والجوار؟ تلك نتيجة التلاعب بالمرجعيات والقيم. لكن الامل يظل دائما حيا بفضل الفن. قد يتحول كل شيء الى سينما، وقد تختصر السينما في تزييف الواقع، عندئذ، يظهر امثال مايكل مور، مهما اختلفنا معهم، كي يعيدوا السينما الى الفن، وكي يجعلوا الواقع يثأر من السينما.