حوار وإعداد فاطمة بن عبد اللّه الكرّاي غاب ثالث الوفد، الذي كلّفه الديوان السياسي للحزب لكي يذهب إلى بورقيبة في المنستير، وإثنائه عن قراره إصدار بلاغ لطرد صالح بن يوسف من الحزب، بصفته (بورقيبة) رئيسا لنفس هذا الحزب. كان «سي أحمد» بن صالح قد تلقى مكالمة هاتفية من جلولي فارس مدير الحزب آنذاك، وأعلمه أن كلاّ من الفرجاني بلحاج عمّار وحسن بن عبد العزيز، سيمرّان عليه في حمام الأنف، ليذهبوا جميعا إلى بورقيبة في المنستير. في الحلقة الماضية، رأينا كيف غاب بلحاج عمّار عن مهمّة الذهاب للاتصال بصالح بن يوسف، من الغد صباحا، في حين دخل بن صالح وبن عبد العزيز، بيت صالح بن يوسف فوجداه يتكلّم عبر الهاتف.. يقول «سي أحمد بن صالح» مواصلا سرد وقائع هذه المهمّة، وقد حصل الوفد الليلة المنقضية، على موافقة بورقيبة بأن يؤجل اصدار بلاغ الطّرد، طرد الأمين العام للحزب من الحزب: دخلنا إذن، وانتظرنا أن يكمل صالح بن يوسف مكالمته، وقد كان ملتفتا إلى الجهة الأخرى، وما إذا تمّ مكالمته، ورآنا واقفين، حتى أقبل علينا، وكان وهو يتحدث عبر الهاتف يتكلّم باللغة الفرنسية.. إذن أقبل باتجاهنا، وهو يبتسم وكان يهمّ بتحيتنا، وبين ثنايا ضحكة أطلق جملة قال فيها متوجها إليّ: «شنوّة يا سي أحمد جاي تهدّد فيّ؟». فقلت بسرعة ومفاجأة : ما هذا الكلام يا سي صالح..؟ فقال: إذن ما معنى أن تأتيني مع حسن بن عبد العزيز.. وكان يواصل ضحكته.. ويربّت على كتف سي حسن..فيما لم ينبس «بن عبد العزيز» بكلمة. فقلت له: يا سي صالح، بالعكس، نحن أتينا إليك حتى نعلمك بأننا ذهبنا إلى سي الحبيب، وأنه يقبل التهدئة.. وقد كلّفنا الديوان السياسي، وذهبنا أمس إلى المنستير ليلا، وحصلنا على وعد من بورقيبة حتى نسوّي أي خلاف بلا تشنّج.. وطلبنا منه أن يؤجّل البلاغ (المحنون).. فما كان من صالح بن يوسف إلا أن عاود الابتسام ومشى خطوة إلى الأمام وأخرى إلى الوراء، وقال لي وهو في حالة ابتسام: «أنت نيّة يا سي أحمد.. أن نيّة يا سي أحمد..» أعادها مرّتين.. حملقت في الرّجل، ولم أفهم مقصده ثم واصل قبل أن أسأله: لماذا؟ فقال لي مواصلا: أتعرف من كان معي على الهاتف، وأنتما تدخلان الصّالون؟ فقلت له: لا. فقال: كان معي على الهاتف بيار سماجا، وأعلمني أن وكالة الأنباء الفرنسية (فرانس براس AFP) نشرت البلاغ، الذي يقول فيه بورقيبة (أو يطرد) صالح بن يوسف من الحزب.. وكنت، وأنا أعلم صالح بن يوسف عن مقابلتنا الليلة السابقة لبورقيبة، لم أتفوّه بكلمة حول موقف بورقيبة ولا عن كلامه الذي قال.. المهمّ، اتخذت لغة ونهج التهدئة.. صدمت من الكلام الذي قاله وأعلنه صالح بن يوسف، ولا أدري ما نوع الاحساس الذي انتابني.. المهمّ أنني أذكر أنني قلت له بعجالة: اللّه غالب.. ثم تواصلت حالة الصدمة معي بحيث لم أعد أستطيع الكلام.. ثم أردفت بالقول: لم يعد لنا مكان هنا.. كنت ومن شدّة الصدمة، أحسّ وكأن أحدا رمى بشيء ثقيل على رأسي ودّعنا صالح بن يوسف، وكنّا تحت وقع الصدمة التي لا تصدّق.. فقد كنّا معا قبل ساعات وقال بورقيبة إنه موافق على التأجيل.. تأجيل إصدار البلاغ.. قلت آخر اللّقاء مع بن يوسف وأنا أهمّ بالخروج: «ربّي يشدّ فيك».. لم أرَ صالح بن يوسف ثانية منذ ذاك اللقاء، لكني، خاطبته عبر الهاتف، حين بدأت الاستعدادات، للجلسة الافتتاحية لمؤتمر الحزب بصفاقس سنة 1955.. بدا «سي أحمد بن صالح».. متأثرا بما وقع، وقد عاوده نفس الاحساس، وهو يروي القصّة دون تعليق.. سألته عن حسن بن عبد العزيز، وخاصة أنه كان محلّ سؤال أو تساؤل حتى في شكل مزاح من صالح بن يوسف، فقال: «حسن بن عبد العزيز هو مناضل وطني ولم يكن راضيا على الشّقاق.. وعندما بدأت الأزمة بين بورقيبة وبن يوسف، طلبت من الشيخ البحري، وقد درسنا مع بعضنا في سوسة، عندما رجعت من فرنسا، أن يجمعني بحسن بن عبد العزيز، بداية الخلاف بين بورقيبة وبن يوسف.. وحسن بن عبد العزيز هو زعيم «الفلاّقة» في السّاحل، وأعرف أنه هو من قتل الفرنسي الذي كاد يقتلني في احدى المحاولات التي استهدفتني، كنت قبل ذاك التاريخ، أسمع به فقط ولم أره قبلها.. تقابلت مع حسن بن عبد العزيز، بعد أن نظّم اللّقاء الشيخ البحري، ولا أعرف المكان الذي تقابلنا فيه، المهم أنه كان بجهة حمّام سوسة، ولم أسأل عن البيت ولا العنوان، قلت لحسن بن عبد العزيز ، وقد بدا الخلاف في أولى شراراته، ولمدة خمس دقائق: أتوسّل إليك باللّه (بجاه اللّه) أن لا تدخل في الموضوع، موضوع الخلاف بين بورقيبة وبن يوسف، كنت أخاف بل أخشى أن يصبح السلاح هو الفيصل بين الرجلين.. فإلى الحلقة الموالية، ومزيد من الخفايا..