«... أجد نفسي في حيرة عندما يطلب مني أن أتحدت عن العراق... عشت الألم خلال مشاركتي في «هدوء نسبي» وأبكاني هذا العمل كثيرا... كثيرا... لم أجد في هذا المسلسل تمجيدا للاحتلال ولكني وجدت الادانة واضحة لكل من سبب الأذى للشعب العراقي..» هكذا صرّح الفنان العراقي جواد الشكرجي في حديث خص به الشروق عند مشاركته في مسلسل «هدوء نسبي»للمخرج التونسي شوقي الماجري وعن العراق المحتل وشعبه الجريح ومستقبله... في الحوار التالي الذي جاء محمّلا بالألم والأمل. وأنت قادم من العراق وبعد 6 سنوات من الحرب بماذا حملت من بلدك الجريح؟ أجد نفسي في موقف صعب عندما يطلب مني أن أتحدث عن العراق ليس لأنه وطني بل لأن العراق مهد الحضارات والعالم يشهد بهذا، بل خرجت منه القوانين وانطلقت منه الفنون وتشكلت على أرضه الخلافات من علي ابن أبي طالب الى الخلافة العباسية والحركات الصوفية... وكان ايضا مسرحا للاحتفال منذ سقوط بغداد على يد «هولاكو»... الى يومنا هذا والعراق «يغلي» وفي طياته الثورة والغضب والعنف يقابلها انسان يحمل الوعي والمحبة... هذا العراق الذي غدا سرا لشعوب الارض بل يكاد العراق ان يكون سرّ ا& على أرضه... والعراق اليوم ومنذ دخول المحتل وهو يتشكل في كل يوم بل في كل ساعة يأخذ أشكالا متعددة من خلال هذا العنف والضغط الحاصل... وفي خضم ذلك نجد في هذا الطوفان من الألم طفلا يحمل قلما ودفترا وهناك طبيب يداوي جروح الناس، ومعلم يحاول بناء الانسان من جديد... وفي وسط هذا الركام نجد العراق المحتل وكل العراقيين يحلمون بمستقبل جديد في الأمان والعيش الرغيد... لا أستطيع أن أتحدث الا عن قضية واحدة، أرى العراق تحت وطأة الألم كطائر جريح...كيف هناك ارادة قوية وصلبة لدى هذا الانسان بأن يعيد لهذا الوطن جماله. كرجل مسرح ما هي الابداعات التي تمخصت في رحم الاحتلال وتولدت عنه؟ الفن والثقافة لا يمكن ان تترعرع وان تأخذ دورها الطبيعي الا في مناخ السلام والحرية وهذا اليوم لا نجده في عراقنا لهذا فإن كل الصراعات الابداعية الآن هي في طور السيرورة وستأخذ الحجم في المستقبل القريب. في المقابل هناك اعمال ابداعية خارج العراق تعبّر عن هذا الالم وهناك داخل الوطن من المبدعين يستطيعون العمل... هم ابطال حقيقيون لأنهم يعملون في حيز المستحيل لهذا يبقى الحلم كبير والألم أكبر في ان يقدم المبدع العراقي في هذه الفترة الشيء الكبير من الابداع. وأنت شاركت في المسلسل العربي «هدوء نسبي» للمخرج شوقي الماجري، ما هي الرسالة التي يريد ان يبلّغها هذا النص؟ اعتقد بل أجزم ان المسلسل أراد من خلال الاعلاميين الذين دخلوا بغداد قبل الاحتلال واثناءه وبعده أن يكشف عن طبيعة المجتمع العراقي وتفاصيل حياته اليومية لذلك ابتعد المسلسل عن كل المسميات السياسية واتجه الى المجتمع العراقي وتحدث عن جروحاته.. لهذا كانت رسالة هذا العمل موجهة لكل شعوب الأرض حتى ترى هذا الشعب بكل طموحاته وآلامه وآماله.. ألا تعتقد أن المسلسل جاء في بعض جزئياته مجاملا للنظام الرسمي العربي، وفي مواضيع عديدة سقط في فخ تمجيد أو تحييد الاحتلال فيما كان واضحا في إدانة فترة حكم صدّام؟ لم أجد تمجيدا للاحتلال كما ذكرت ولكني وجدت الادانة واضحة لكل من سبّب الأذى للشعب العراقي، فالمسلسل لم يطرح الصورة كاملة وكيف كانت الأجهزة تتعامل مع الاعلاميين وما الى ذلك من تجاوزات وانتهاكات.. نعم كان ذلك ما يحصل في تلك الفترة. نحن حاولنا في المسلسل ألا نعطي حكما قطعيا حول كلما أحاط بالشعب العراقي من نظام، نحن تحدثنا عن شعب ذبيح وجريح ولم ندخل في التفاصيل لأننا لسنا منظّرين أو قضاة بل حاولنا من خلال هذا العمل الفني أن نظهر معاناة الانسان العراقي في تلك الأزمة التي مرّ بها. هل يتحول العمل الفني الى محايد حين يتعلق الأمر بكارثة عالمية حدثت للعراق بسبب الاحتلال الأمريكي؟ العمل الفني أبدا لا يكون محايدا حتى وإن كان الأمر متعلقا بأكبر الكوارث الانسانية، الفن هو انحياز كامل للإنسان، فما حدث لهذا الوطن بسبب الاحتلال هل من المنطقي أن نحاول نحن تجميله؟! هذا مستحيل ولا يجوز.. ليست هناك مجاملة ولا محايدة ولا تمجيد.. بل هناك عمل إبداعي فني لا غير. لكن عراق صدام كانت تحمل نهضة علمية، صحية، تعليمية، رغم الحصار، لماذا تمّ التعتيم على كل هذا في المسلسل؟ نحن لا نستطيع أن نقول كل شيء في عمل فني وعندما نريد أن نبرز الشعب العراقي في كل مراحله لا بد من العودة الى إلى أزمة سابقة وما خاضه هذا الشّعب من نضالات ضدّ الأنظمة الدكتاتورية هذه هي الحقيقة وخاصة في وطن يزخر بالصراعات، فمن الصّعب أن نتحدّث في عمل فنّي واحد عن كلّ هذه الأحداث لذلك تبقى ميزة هذا العمل أنه ولأول مرة في الدراما العربية تطرح القضية العراقية بهذه الحيادية للشعب العراقي وليس للمحتلّ. ألا ترون أن العمل غاص أكثر في معاناة وصعوبات الصحفيين على حساب معاناة الشعب العراقي المحروم، والذي يعيش منذ الاحتلال على وقع فتنة طائفية لا تريد أن تخمد؟ فكرة العمل انطلقت على أساس الواجب تجاه الإعلاميين الذين عاشوا فترة الحرب على العراق. وهو ما لم تبثّه القنوات العربية، لكن هناك أيضا مشاهد حقيقية عن واقع هذا الشعب ومعاناته الاقتصادية والجوانب الأخلاقية وملامحه الشخصية العراقية. ورغم ذلك الرسالة أرادت أن توضّح عمل الإعلامي ومن خلاله نرى المعاناة، إذ نجد الوطني الشريف والعراقي المتخاذل، ومن سرق أموال الدولة. عشت الحرب على أرض الواقع وجسّدتها في «هدوء نسبي» وشاهدتها على الشاشة، أيها كانت قاسية وشديدة على ذاتك؟ أن أعيش الحرب وأن أعيش المأساة بكلّ تفاصيلها.. أحسست بالهذيان وكأنني في غيبوبة لهذا عندما وجدت نفسي أعبّر عن هذه المعاناة كانت ذاكرتي تعود بي إلى الماضي لأعيش الألم أضعافا.. أرى أن الفنّ لا يعكس الواقع وإنما يقدّمه بمنظار مضخّم فالعين هي مرآة الزوم (جميل إمام) هذه الجملة فعلا تنطبق على عين الكاميرا وهي تحاول أن تصوّر لنا الواقع وأن تظهر لنا هذه الأحاسيس من خلال معاناة الوجه وحركاته وسكناته. عشت الألم خلال تجسيد الشخصية وعشته أكثر عندما شاهدته.فأنا أموت ألف مرّة عندما أشاهد الإنسان العراقي مدمّر، مسحوق الكرامة.. أبكاني العمل الكثير الكثير.. وفي هذا المفصل أريد أن أحيي الفنان التونسي شوقي الماجري لانتقائه مواضيع مهمّة من نضالات الشعب العربي ابتداء من فلسطين إلى العراق. ذكرت المخرج شوقي الماجري كيف كان تعامله معك أثناء التقويم وأنت عراقي عايش الحرب؟ للمرة الثالثة أشتغل مع شوقي الماجري هو صديق وزميل، لكن للأسف لم يجد فرص عمل حقيقية في تونس لذلك توجه إلى دمشق وأجزم بأن المسؤولين عن الانتاج الفني في تونس لم يتفطنوا لهذا المبدع، لكن وأخيرا سوف يجد حظه في إخراج شريط من انتاج تونسي «مملكة النّمل» والذي سينطلق تصويره في نوفمبر بين دمشقوتونس وأعتقد القدس. وعن علاقتي بشوقي أثناء تصوير المسلسل كانت هادئة جدّا فهو إنسان حسن الأخلاق وحتى توجيهاته للممثلين كانت سلسة يتعامل بصدق ولطف ولا يتقاعس في العمل. هل تم تصوير بعض المشاهد في العراق؟ التصوير في سوريا وتحديدا في ولايات حصاد وتدمر.. لكن عندما أشاهد العمل أرى وكأن المشاهد في العراق وتلك هي أيضا من ميزات العمل. تحدثت منذ قليل عن عاشق وسارق في العراق من هذا ومن ذاك؟ كانوا في السابق العراقيين كلهم عشاق لوطنهم لكن اليوم هناك العاشق والسارق، والعاشق من ارتبط بأرضه وانتزع الفرصة والحياة أما السارق فهو العراقي والعربي وعلى رأسهم الاحتلال كلهم ينهبون ويسرقون بل بكل القوانين المباحة... هذا هو العاشق وذاك هو السارق. كيف ترون مستقبل العراق في هذه الفترة بالذات؟ الحتمية التاريخية تقول بأن الشعوب لابد أن تنهض من جديد وأقصد تلك الشعوب التي أقامت الحضارات كالعنقاء هذا الطائر الأسطوري كلّما سقط في النار نهض، والشعب العراقي أسطوري وليس من واقع الحلم ولكن الحقيقة الحتمية تؤكد بأن العراق سينهض من جديد بعد زوال هذه القشور... سينهض العراق بأجيال سيراها كل العالم بشكل مختلف، هذه ليست أمنية وإنما ما أراه اليوم وأعيشه كعراقي داخل الوطن. لكنك حاليا تعيش في سوريا بعيدا عن وطنك؟ أنا لست بعيدا، أنا أحمل وطني أينما حللت، سوريا ليست بعيدة عن بغداد وبعد أيام سوف أكون في وطني للتحضير لأعمال جديدة. هل لديك من أعمال فنية جديدة؟ لدي أعمال تليفزيونية ومشاركات في مسلسلات منها المسلسل العراقي «إعلان حالة حبّ» عمل اجتماعي سياسي يتحدث عن صراع بين عائلتين من مذهبين وطائفتين مختلفتين كتب على غرار «روميو وجوليات» وسيعرض بعد العيد على قناة الشرقية وسوف أجسد دور البطولة في عمل سياسي بحت عنوانه «أبوب» يبحث في القضية السياسية بعد الحرب مباشرة وما أفرزته هذه المرحلة من صراعات في المجتمع العراقي. مرحبا بك في تونس. أقول دائما أنا سعيد بوجودي في تونس أرى تونس وطني الثاني الحقيقي بل نصف بلدي، واذا قلت وطني قلت العراق وعندما أقول العراق أعني تونس... أتنفسها في كل لحظة سواء كنت فيها أو خارجها.