مع نزول أوّل قطرة من أمطار الخريف، التي عادة ما تكون طوفانية وتتسبّب في فيضانات، يدبّ الخوف والذعر في نفوس سكان أحياء ومناطق سكنية معيّنة، بينما يكون آخرون غير مبالين تماما بما قد يحصل مهما بلغ حجم الأمطار التي قد تنزل رغم أن الجميع يقطن بالمدينة أو بالمنطقة نفسها ورغم أن كميّة الأمطار التي تنزل هي نفسها وفي الوقت نفسه. ويتأكّد هذا «الاعتقاد» في ما بعد أي بعد نزول الأمطار حيث تغمر مياه الفيضانات المنازل بأحياء معيّنة بينما تمر مرور الكرام بجانب منازل كائنة بأحياء أخرى مجاورة. المثال الأكثر تردّدا للدلالة على هذا الأمر هو المدينة العتيقة بتونس العاصمة التي لم تُصبها ولو مرّة واحدة على امتداد تاريخها الفيضانات... بينما يكاد لا يمر خريف واحد دون أن تحصل فيه فيضانات، ولو خفيفة، بأحد الأحياء المجاورة التي لا تبعد عنها كثيرا... فلماذا هذا الاختلاف ومن يتحمّل مسؤوليته، خصوصا أن فيضانات الخريف تصيب في العادة أحياء تقطنها طبقات ضعيفة ومتوسطة ولابد من توفّر الحماية اللازمة لهم؟ يفسّر أهل الذكر هذه المسألة بسببين أولهما البناء العشوائي والفوضوي في الأماكن المنخفضة وقرب مجاري الأودية وثانيهما النقائص على مستوى التهيئة التحتية للأحياء السكنية (قنوات تصريف المياه). مهدّدة يقول السيد حمزة عطاء ا&^ رئيس جمعية حماية العمران والبيئة إن تمركز أغلب الانشطة الاقتصادية والادارية بالمدن الكبرى خلق طلبات كبرى على أراضي البناء... وبما أن السكان الأوائل لهذه المدن اختاروا منذ قديم الزمان الاستقرار في أماكن آمنة وبعيدة عن مجاري المياه والأودية القريبة (أماكن مرتفعة) فإن كل من يأتي بعدهم للاقتراب من مركز النشاط الاقتصادي هذا لن يجد من حل غير الاستقرار حذوهم لكن في مكان منخفض وغير آمن أو حذو مجرى مياه أو واد... وشيئا فشيئا تتوسع الرقعة ويعتقد البعض أن مجرى الماء أو الوادي القريب لا يشكل خطرا بما أنه خال من الماء (حتى في فصل الشتاء) وقد يبقى على تلك الحالة لمدّة عشر سنوات لكن الخطر عادة ما يحصل خاصة في فصل الخريف بمناسبة تهاطل الأمطار بغزارة في وقت وجيز فيفيض الوادي على المنازل القريبة منه وأحيانا يجرف بعضها. وحسب السيد حمزة عطاء ا& فإن هذه الوضعيات نلاحظها للأسف الشديد بالمدن الكبرى وأحيانا بالمدن الصغرى وضرب في ذلك مثل حي وادي العرب بحمام الأنف الذي بناه السكان داخل مجرى الوادي لكن جمعية حماية العمران والبيئة تفطّنت الى الأمر واتصلت بالسلط المعنية فصدر إذن بهدمها وتمكين السكان من منازل تعويضية أخرى. كما أضاف أن مناطق أخرى مازالت مهدّدة مثل بعض الأحياء بالمحمدية ومنوبة والمغيرة وحمام الانف وحي النصر لأنها موجودة قرب مجاري مياه وأودية... وأكّد في هذا الاطار ان الاودية الصغرى والجافة باستمرار هي الأخطر لأنها تغري الناس بالبناء قربها ثم «تدورعليهم» عندما تنزل أمطار غزيرة وتفيض على منازلهم. وأكّد المتحدّث ان الجمعيات الناشطة في هذا المجال تنبّه باستمرار لمثل هذه المخاطر وما على السلطات المعنية الا اتخاذ الاجراءات اللازمة لمنع هذه البناءات الفوضوية وشبه الفوضوية. وللمواطن نصيب... ذكر مصدر من وزارة التجهيز والاسكان والتهيئة الترابية ل «الشروق» أن تجنّب خطر البناء قرب أو داخل مجاري الأودية أو المياه يبقى أساسا منوطا بعهدة المواطن لأن السلط لا يمكنها المتابعة اللصيقة للمواطن البارع في استنباط الحيل للتهربّ من الرقابة والبناء في الأماكن المحظورة. فمثلا حسب المصدر المذكور وقع التفطن سنة 2003 الى بعض المواطنين بجهة حي النصر بالعاصمة يقومون ليلا بردم أحد الأودية بعد أن تسوّغوا لذلك آلات جارفة وشاحنات لنقل التراب والحجارة وذلك حتى يتسنى لهم البناء بعد أن رفضت السلط الترخيص لهم بذلك... فماذا كان سيحصل لهؤلاء لو أتمّوا البناء وفاض ذلك الوادي، طبعا ستحصل كارثة لأنه سيجرف كل ما بنوه بما فيه، وهو ما حصل مثلا في احدى السنوات الماضية بجهة تطاوين. وأكد المتحدث من جهة أخرى ان الدولة تؤكد باستمرار وبصفة دورية على ضرورة التحرّي في اسناد رخص البناء والصرامة في ما يتعلق بالبناء الفوضوي من ذلك مثلا التصدي للبناء في المناطق المنخفضة وفي (أو قرب) مناطق الملك العمومي للمياه (الأودية والأنهار والبحار والبحيرات) وهو ما تنصّ عليه مجلة التعمير والتهيئة الترابية،ولو يقع تطبيق ذلك بحذافيره لما حصلت وتحصل مآس بسبب الفيضانات. فالطبيعة، خاصة في مجال المياه، تسترجع دوما حقها حتى بعد عشرات السنين وذلك حتى لو كان مجرى الماء أو الوادي في قلب الصحراء حسب محدّثنا لذلك يجب أن تتكاتف جهود كل الاطراف، من مواطن وسلط بلدية ووزارات لمنع هذه الظاهرة تماما. استعدادات في شهر أوت 2009، صدرت تعليمات عن وزير التجهيز والاسكان والتهيئة الترابية وفي اطار جلسة عمل، لضرورة التوقي من مخاطر الأمطار الأولى لفصل الخريف وما قد ينجر عنها من فيضانات وخاصة بمجاري الاودية العابرة للمدن، أي أن حقيقة وجود مدن مبنية على ضفاف أودية ومجاري مياه لا نقاش فيها، وهو ما يدفع الى التساؤل لماذا وُجدت هذه الوضعية أصلا حتى نفكّر فيما بعد في التوقي منها وننفق من أجل ذلك أموالا، أي بلغة أخرى لماذا أقيمت تلك المدن حول وبجانب الأودية أو في المناطق المنخفضة ومن الذي رخّص للمواطنين لاقامة بناءاتهم؟ اعتمادات سنويا، يقع صلب وزارة التجهيز رصد اعتمادات مالية كبرى للتوقي من مخاطر الفيضانات بكامل أنحاء البلاد، لكن رغم ذلك تبقى أهم وسيلة للتوقي هي الامتناع عن البناء قرب مناطق الخطر. فمثلا وقع سنة 2008 رصد مبلغ مليارين و660 مليونا لصيانة وتعهد المنشآت المائية (المجاري الطبيعية والاصطناعية وهضاب الحماية) وذلك بكامل أنحاء البلاد وهو ما أدّى الى جهر وتنظيف حوالي 1750 كلم من هذه المنشآت وسنة 2009 تم رصد اعتمادات بقيمة حوالي 3 مليارات لجهر وتنظيف حوالي 2000 كلم، غير أن المصدر المذكور أشار الى أن تدخلات وزارة التجهيز لوحدها تبقى غير كافية ما لم تتولّ الاطراف الاخرى القيام بما هو موكول لها خاصة مصالح وزارة الفلاحة (تعهد الأودية الكائنة خارج مواطن العمران) والديوان الوطني للتطهير (الأودية العابرة للمدن). وعلى العموم فإن ما يمكن قوله هو أنه لو يقع صرف جزء من كل هذه الاعتمادات والمجهودات لتوفير أراض صالحة للبناء في مناطق آمنة وبعيدة عن مواقع الخطر وتأمين ظروف التنقل لها اذا كانت بعيدة، فإن خطر الفيضانات سيخفّ. إعداد: فاضل الطياشي أهمية مجاري تصريف مياه الأمطار قال السيد حمزة عطاء ا& رئيس جمعية حماية العمران والبيئة أن حدّة الفيضانات يمكن التخفيف منها الى أبعد حد حتى في المناطق القريبة من مجاري المياه من خلال اقامة قنوات ومجاري خاصة بتصريف مياه الامطار وهو ما نجده بكثرة في البلدان الاوروبية لكن نكاد لا نجد له أثرا في بلادنا... ففي تونس، يقع التركيز أكثر على مدّ قنوات التطهير (تصريف المياه المستعملة) عند اقامة حي سكني جديد ولا يقع الاهتمام بمدّ قنوات موازية لصرف مياه الامطار... وحتى إن كانت هذه الاخيرة موجودة فإنه يقع دمجها مع قنوات تصريف المياه المستعملة ويكثر عليها الضغط فتفيض كلما نزلت الأمطار ولا تقدر على الاستيعاب. وحسب المتحدث، فإن قنوات صرف مياه الامطار عادة ما تصبّ في البحر أو في بحيرات معدّة للغرض أو في الأودية خارج المدن (على غرار ما كان موجودا مثلا بمدينة حمام الأنف منذ الاستعمار) وهذا من شأنه أن يخفف من حدّة مياه الأمطار مهما كانت غزارتها خاصة في الخريف.