(اطار تربوي متقاعد) لقد أثرت في الخواطر التربوية (1) الصادرة بعدد يوم السبت 26 جوان 2004 ما للمكانة التي أصبحت تحتلها شهادة الباكالوريا من أهمية في المجتمع التونسي والتي ارتقت إليها على مرّ السنين حتى صارت محور الحديث داخل الاسرة التونسية. فلقد شاهدنا احد الابناء ينجح في شهادة الاستاذية مثلا فيمرّ الحدث مر الكرام وكأنه حدث عادي بينما ينجح اخوه في شهادة الباكالوريا فتقام الاحتفالات وتنظم السهرات ويفد المهنئون محمّلين بالهدايا و... و... وحتى وسائل الاعلام لا تشذ عن هذه القاعدة ففي كل البرامج تقريبا يتحدث المنشطون عن النتائج ولكن الاولوية المطلقة لشهادة الباكالوريا إذ تُهدى للمتدخلين من الناجحين في الباكالوريا هدايا مختلفة كالهواتف الجوّالة والمرطبات والمثلجات، وهو ما لا يقع مع بقية الشهادات العليا والتي تفوق الباكالوريا قيمة وعلما. ويوم الاعلان عن النتائج يوم الاحد 20 جوان 2004 كنتَ ترى مظاهر الابتهاجات ومختلف التعابير عن الافراح ما لم يكن معروفا فيما مضى من السنين الخوالي فأمام كل معهد، ورغم تعرّف أغلب الناجحين على نتائجهم عن طريق الموزع الصوتي تجمّع الشباب المدرسي والمعارف والأهل وخاصة منهم العنصر النسائي وتحلقوا ينصتون الى مدير المؤسسة وهو يعلن عن النتائج عن طريق مضخّم الصوت، وكلّما نطق باسم احد الناجحين ارتفعت الصيحات وتعالت الهتافات والزغاريد، بل لقد شاهدنا بالمعهد الثانوي بالمنزه السادس من يطلق الشماريخ الملوّنة في الفضاء فتتناثر منها تلك الاوراق الصغيرة الملوّنة لتحط على رؤوس الحاضرين وفي المحيط المجاور فتبدو وهي في الجوّ ثم على الثياب وعلى الارض وكأنها أوراق زهور طبيعية تشارك الناجحين افراحهم، وحتى الآلات الموسيقية كالطبل والدف والمزمار سجّلت حضورها في هذه الاحتفالات التلقائية. وقد أبى بعض الشباب الا ان يصوّر هذه الاحداث وهذه الاوقات التاريخية بواسطة الكاميرا والات التصوير. **شعبية ولا تعجب لكثرة السيارات الراسية بالانهج المحيطة بكل معهد، ثم بتحرّكاتها وجولاتها بين الشوارع وهي تحمل ذلك الشباب الزاهي المنتشي والملاحظ ان اغلب هذه السيارات من السيارات الشعبية واغلبها يقودها شباب لا كهول، بل ان الفتيات اكثر من الفتيان داخل هذه السيارات... وكلّها تعمل على جلب الانتباه ب «التزمير» والاهازيج... إنها الفرحة، الفرحة الكبرى بالتحوّل من عهد الى عهد، عهد الثانوية الى عهد الكلية. وانها فرحة الانطلاق والتحرّر من النظام المدرسي الى النظام الجامعي، ولا شك أنه حسب ما يصل الى مسامع الشباب المدرسي، هو نظام أقل قيودا فالطالبات غير مدعوّات الى حمل الميدعة، والتأخير لا يستوجب الحصول على بطاقة دخول، والحضور وان كان يسجّل، فإن فيه من المرونة حسب ما يراه الاستاذ بالكلية ما قد يسمح ببعض التجاوز! ولكن في خضمّ هذه الفرحة على طلبة المستقبل ان يعوا أنهم اصبحوا مسؤولين وأن الحرية لا تعني الفوضى ولا تعني الخروج عن القواعد الاخلاقية، ولكنها تعني تحمّل المسؤولية: المسؤولية في الاختيار والمسؤولية في العمل، والمسؤولية في السلوك سواء داخل المؤسسة الجامعية او خارجها خاصة والكثير من الناجحين طلبة الغد سيغادرون مدنهم او قراهم الاصلية الى مدن جامعية اخرى والى عالم اخر، هو عالم جميل ورائع اذا عرف الطالب كيف يتعامل معه وكيف يستغلّه. وطوال الاسبوع الماضي الذي تلا الاعلان عن النتائج كيف ترى الصحف تتنافس على استجواب المتفوقين والتعريف بهم، وهو امر محمود، ولكنك ايضا تراها تعمل على ابراز نسب النجاح في كل جهة. والمراسلون الجهويون هم الاخرون يعمدون الى ترتيب المعاهد حسب نسب النجاح بها. ومرّة أخرى أقول إن مغادرة هذه المقارنات اكثر من نفعها. فالمعاهد النموذجية في نظري ليست مخيّرة بل هي مجبرة على أن تحقق نتائج نجاح تبلغ 100. وإذا وقع العكس فهو نشاز وهو شذوذ عن القاعدة ذلك أن التلميذ عندما يقبل بالمعهد النموذجي، فإن معدّله لا يقل عن 15 من 20 وفي بعض المعاهد قد لا يقل حتى عن 16 او 16 والنصف من 20، والنظام بالمعاهد النموذجية يقضي بأن يُحال كل تلميذ لم يحصل على معدّل سنوي يساوي 12 من 20، على معهد عادي فكيف لا ينجح كل تلاميذ المعهد النموذجي في الباكالوريا وقد ارتقوا الى السنة الرابعة من التعليم الثانوي بمعدل لا يقل عن 12 من 20، بل اني اعتبر حسب رأيي أن كل الناجحين من المعاهد النموذجية يجب الا تقل معدلات نجاحهم عن 12 من 20. **اسعاف أما المقارنة بين بقية المعاهد، ولو كانت في مدينة واحدة أو ولاية واحدة فإنها منطقيا لا تجوز فكيف نقارن بين نتائج معهد به كل الشعب الخمسة: (اداب رياضيات علوم تجريبية تقنية اقتصاد وتصرف) مع معهد لا توجد به الا الشعب العامة اي الرياضيات والاداب والعلوم التجريبية؟ وكيف تمكن المقارنة بين معهد عدد تلاميذ الاقسام النهائية به لا يتجاوز 60 أو السبعين مع معهد به 400 أو 500 تلميذ بالاقسام النهائية؟ وبالرجوع الى ما أصدرته بعض الصحف، فإن المعاهد التي حازلت المراتب الاولى هي معاهد ليس بها عدد كبير من المترشحين وليس بها الشعب الخمسة، ولذلك فإن اول معهد في ولاية صفاقس مثلا به كل الشعب (الخمس) كان ترتيبه الثامن بعد سبعة معاهد لا توجد بها الا شعب ثلاث!! هذا بالاضافة الى معطيات اخرى موضوعية تتعلق بالمحيط وبالمناخ وبمدى عناية الاسرة بأبنائها فهل تنتظر من تلاميذ آباؤهم يعملون بالخارج مثلا ما ننتظره من تلاميذ يقطنون المدن ولهم كل الامكانيات المادية ويحظون برعاية فائقة من اوليائهم الواعين بمسؤولياتهم!؟ وهذا يذكّرني بممارسات بعض مديري المدارس الابتدائية في عهد «السيزيام» حيث كانوا يعمدون الى تنقية من يرتقي من السنة الخامسة الى السنة السادسة تنقية دقيقة، فلا يسمحون بالاسعاف ويتشدّدون في مواضيع امتحان الارتقاء وفي الاصلاح ويرفضون قبول أي تلميذ فتنتقل من مدرسة اخرى اذا لم يكن ممتاز النتائج مرتفع المعدلات، كل ذلك حتى تكون نتائج «السيزيام» وهو امتحان وطني 100 وحتى يتباهوا بذلك امام الخاص والعام وحتى يفوزوا بالشكر والثناء. فالرجاء كل الرجاء الاقلاع عن ممارسة هذه المقارنات والاكتفاء. بالتنويه بالممتازين حتى يكونوا قدوة لغيرهم من زملائهم مع التمنيات بالنجاح للمؤجلين الى دورة المراقبة.