(1) لعل الخبر الثقافي السار يأتينا اليوم من جانب الفاضل الجعايبي وجماعته، إذ تأكد ان هذا المبدع المسرحي قد تمكّن من تحقيق حلمه في حصوله على فضاء خاص بفرقته. وهو أمر مثير للانتباه على عدة مستويات وله لا محالة دلالة يجدر بنا التوقف عندها. (2) لا شكّ ان الفاضل الجعايبي رجل المسرح المعروف هو من أهم المخرجين والمؤلفين المسرحيين الذين تمكّنوا من نحت طريق في الإبداع ومسلك في النظر الى الشأن المسرحي يرتقي الى مرتبة المدرسة. ولا شكّ ايضا أن الرجل سما بالمسرح التونسي الى مستوى التجارب العالمية بما يقتضي ذلك من شجاعة فكرية ومقدرة فنية ونظرة إبداعية وجرأة سياسية ومكابدة وتواصل وثبات. ولعل كل هذه الخصائص مجتمعة قد جعلت من إبداعاته المتواصلة على مدى ثلاثين عاما من تاريخ المسرح التونسي، أعمالا فنية مرجعية تقدّمت بالمسرح التونسي أشواطا ووسعت آفاق تعبيره ومواطئ حضوره بما ضمن تواصل عطائه رغم التراجع الواضح للشغف بهذا الفن الكبير. ولا شك ان هذا الحضور لفاضل الجعايبي محليا وعربيا وعالميا، إنما هو بمثابة الدليل القاطع على مقدرة الرجل في بلورة رؤيته الحصيفة للعالم من خلال اكتساب مشروع ابداعي وفكري وجمالي قلّما نجده عند رجالات المسرح في بلد عربي آخر. لنذكر «كوميديا» و«فاميليا» و«عشاق المقهى المهجور» و«سهرة خاصة» و«جنون» وهي عناوين لأعمال مثّلت دون شك محطات مركزية نحو الوصول الى لغة مسرحية تونسية العبرة عالمية النبرة، لأن العالمية هي محليّة بلا جدران. (3) لقد برهن الجعايبي كما برهن غيره من أترابه مثل توفيق الجبالي صاحب مؤسسة «التياترو» على أهمية المبادرة الشخصية في اجتراح الخوصصة نهجا ضمن اطر الانتاج المسرحي منذ سبعينات القرن الماضي. وأهمية هذا المسلك خارج الطرق المعبدة أصبح حجّة حين يكون بهذا النجاح على تعثّر القطاع العام في المجال المسرحي المثقل بيروقراطيا والمكبل تعبيريا. كما أنه يقيم الدليل في الوقت نفسه وبطريقة مفارقة على استسهال نهج الخوصصة حين يكون مفتقرا للخبرة والتجربة وحين يكون مجرّدا من مشروع فكري ومجرد وسيلة لكسب المال. (4) إن تمكّن الجعايبي من فضاء مسرحي ومشروعه هذه الأيام في تدشين سلسلة من عروض عمله «خمسون» يعدّ إسهاما في افتتاح الموسم الثقافي مسرحيا، خاصة وأن الفضاء المقتنى يحتلّ موقعا هاما في شارع منسوب للعلامة ابن خلدون في قلب العاصمة مما يضفي حيوية على المدينة كلها في هذا الوقت المتميّز من الحراك السياسي والحال ان القطاع العام سواء تعلّق الامر بالمسرح الوطني او بفرقة مدينة تونس للتمثيل ذات التاريخ التليد او بالمراكز الدرامية... يبدو في حلّ من هذا الالتزام الثقافي. (5) وأخيرا فإن حضور الجعايبي وجماعته في المشهد الثقافي العام والمسرحي بالخصوص وما يفرضه من قيمة إبداعية عالية ومن جدل فكري جاد، ومواجهة صدامية أحيانا بينه وبين التقاليد السارية في الفعل الثقافي، يقيم الدليل على أن الشأن الابداعي في تونس لا يحسم في الحقيقة حسب ميولاته او اتجاهاته بل بالاعتماد على ما يفرضه من قيمة وإضافة وفي هذا ما يثبت ايضا على حاجة الدولة لمن يكون قادرا على الأفضل والأقدر على التأسيس. ولا ننسى ان في ذلك كذلك دليلا على حرية المبدع وحظوته في تونس.