تلفت نظر الزائر القادم من تونس العاصمة بعد أن يعبر جسر السكك الحديدية القائم عند مدخل جوهرة الساحل لافتة حديدية لونها أصفر كتب عليها بحروف سوداء «الدواميس» (CATACOMBES) في دراسة له تحت عنوان «أضواء على تاريخ سوسة نشرت بمجلة «منارة الساحل» يذكر الأستاذ محمود زين العابدين أن كلمة «دواميس» هذه وراء العديد من الروايات التي هي من نسج الخيال عند المسيحيين والعارفين المهتمين بتاريخ المسيحية، فبمجرد ذكرها تصور لهم الذاكرة ألوان التعذيب والتنكيل والاضطهاد التي تعرض لها المسيحيون القدامى وقد أجاد الكتاب في وصفها وما جرى فيها من آلام ومآسي حتى أنه كلما وقع اكتشاف دواميس جديدة في مكان ما ذهب في ظن الناس أن ذلك المكان قد تعرض فيه المسيحيون للاضطهاد والتعذيب ويرجع الأستاذ زين العابدين هذا الاعتقاد للفكرة الشائعة عند الناس والتي تقول إن المسيحيين في تلك العهود قد اضطروا إلى حفر الدواميس لمباشرة طقوسهم سرّا لتفادي بطش الحاكمين الذين قاوموهم وضايقوهم حتى يرتدوا عن دينهم. تحت الأرض أمّا اليوم فالذي يجب أن يجزم به هو أن الدواميس الموجودة بمدينة سوسة لم تكن أكثر من مقابر أنشأها المسيحيون لدفن موتاهم وقد سمح لهم بذلك قانون الدولة في ذلك العهد وإلا فكيف يعقل أن الحاكمين تغافلوا لهذا الحد ولوقت طويل جدا عن معرفة هذه الأماكن السرية ومنع ما يدور فيها. إذن فالدواميس مقابر وليست مخابئ كما كان يعتقد كما أنها لم تكن مكانا للعبادة فهي ضيقة قليلة التهوئة ولا تتسع لعدد كبير من المتعبدين. على أن التاريخ قد ذكر أن بعض الاتجماعات الدينية في وقت ما انعقدت في هذه الدواميس ولكن كل ذلك حدث صدفة وفي مرات معدودة لم تجعلها أماكن دائمة للعبادة والوعظ. ويورد الأستاذ زين العابدين هنا سؤالين: الأول: إذا كان المسيحيون قد اتخذوا هذه الدواميس مقابر لا مخابئ فلماذا اختاروا هذه الطريقة في دفن موتاهم ولماذا لم يدفنوهم بطريقة حفر سطح الأرض كما هو متعارف. أما السؤال الثاني فلماذا لم يقلدهم الوثنيون في ذلك والذين لم يعتنقوا المسيحية بعد في ذلك العصر؟ والجواب عن السؤال الأول هو أن المسيحيين في أول عهدهم بالمسيحية لم يقتصروا على الدواميس لدفن موتاهم بل إن المقابر العادية لهم كانت موجودة أكثر من الدواميس سواء في قرطاجنة أو غيرها. والجواب عن السؤال الثاني هو أن الوثنيين في ذلك العصر الذي لم يعتنقوا فيه المسيحية قد استعملوا أيضا الدواميس كمدافن وقد عثر بسوسة على واحد منها. كهف كبير وتذكر الدراسات أن هذه الطريقة لدفن الموتى انتشرت عند الرومان لأن عادة حرق جثة الميت بدأت في الاضمحلال وحلّت مكانها الطريقة العادية وبالعودة إلى دواميس مدينة سوسة يؤكد الأستاذ محمود زين العابدين أن أول الدواميس وأقدمها حسب الباحثين هي دواميس روما وهي تشبه إلى حد كبير دواميس سوسة التي اكتشفها الكولونيل «فانسان» سنة 1888 وبدأت أعمال البحث والتنقيب فيها سنة 1903 ميلاديا. وهذه الدواميس عبارة عن كهف كبير تحت الأرض ذي دهاليز متشعبة في جوانبها التي تشبه رفوف مكتبة ترقد عليها جثث الموتى بعد تغطيتها بطبقة من الجبس أو الجير. ان حفر هذه الدواميس المقابر لا شك كان عملا شاقا خطيرا يتطلب جهدا وصبرا فالهواء منعدم غالبا والأكيد انها من عمل رجال مختصين اتبعوا تصميما قد وضع في الأول رسم دهاليزها المتعددة تحت إشراف مهندس مسؤول. وبما أن دواميس سوسة مشابهة تماما لدواميس روما ولا تختلف عنها لا في الشكل أو المساحة وهي ذات أطوال غير متساوية ضيقة الارتفاع أطولها يصل إلى 50 مترا وأقصرها لا يقل عن 10 أمتار أما أكثرها عرضا فيبلغ المترين وبها كوات صغيرة توضع عليها مصابيح من «الطفل» للإنارة. وهناك كتابات سوداء رسمت على القرميد أو الجير وهي ذات حروف صغيرة تسجل اسم الميت. وقد وجد في الجزء المسمى منها بدواميس الراعي الصالح (La Catacombe du bon pasteur) أكثر من 7 الاف جثة دفنت في 107 دهليز.