على الساعة السادسة صباحا بتوقيت تونس، وبعد أن رتل الشيخ عبد الباسط عبد الصمد ما تيسر من سورة القيامة طلع الرئيس على الشاشة وألقى خطابه الشهير: باسم اللّه الرحمان الرحيم أيها المواطنون، أيتها المواطنات واعتصموا بحبل اللّه جميعا ولا تفرقوا واصبروا وصابروا، فإن اللّه مع الصابرين لقد تعرضت البلاد إلى فاجعة على الساعة الخامسة من صباح هذا اليوم حيث سقطت رؤوس نووية على العاصمة. والأغلب على الظن، إن هذه الرؤوس التي تحملها صواريخ عابرة للقارات، انطلقت خطأ من أوكرانيا جرّاء خلل انتاب العقل الالكتروني المتحكّم في مفاتيح الحقيبة النووية. أيها المواطنون، أيتها المواطنات إن هذه الكارثة التي حلّت بنا ستدخل البلاد في ليل أبدي وستنزل من السماء أمطار صفراء وحجارة حارقة وستهب ريح صرصر تسلخ جلد البشر وأديم الأرض. وإلى يوم تعود فيه الحياة إلى سطح الأرض والوطن وحفاظا على فصيل البلدية والشاشية والجبّة التونسية والمقعارة والشاذلي زويتن من الانقراض، قررنا لكم العيش تحت الأرض. ولقد هيأنا لكم ظرفيا هذه المخابئ: دواميس منجم الحديد بجبل الجريصة ودواميس مناجم الفسفاط بالرديف وأم العرايس والمتلوي والقلعة الخصبة. ونحن بصدد البحث عن مواقع أخرى بجبل الحلوف وجبل الرصاص وسيدي عمر والخنقة والحوض. كما سيتكفل صندوق 26 26. وهذا عهد اقطعه على نفسي، بتوفير موائد الإفطار في شهر رمضان المبارك، والأدوية والإنارة صيفا وشتاء. أيها المواطنون، أيتها المواطنات لقد أمرنا إدارة السكك الحديدية وشركات النقل بين المدن والأرياف أن تسخر كل ما في وسعها من امكانات لتقلّكم مجانا إلى هذه البقاع المحمية من التلوث. وسأبقى مع قلّة من المتطوعين على سطح الأرض لأدير شؤونكم وندوروا الزير. وبداية من هذا اليوم ستشاهدونني على شاشة التلفزيون مرتديا القناع الواقي من الغازات السامة والأشعة فوق البنفسجية. من أجل تونس كل شيء يهون. عاشت تونس، عاش الرئيس. في لمح البصر، خرجت الملايين باتجاه محطة الأرتال بساحة برشلونة ومحطة الحافلات بباب عليوة ومحطات سيارات الأجرة بباب سعدون. كانت الشوارع المؤدية إلى هذه المحطات، كشارع محمد الخامس وشارع الحرية وشارع قرطاج وشارع الجمهورية، مسرحا لزحف ثعبان من البشر. المشهد يحيلك على ركيض البهائم تجاه الغدير ساعة الضمأ. إنه الحج إلى قاع الأرض. في ظرف ثلاثة أيام وأربع ليال وقع إخلاء العاصمة والمدن والقرى والأرياف، من برج الخضراء في أقصى الجنوب إلى بنزرت في أقصى الشمال، وترك الناس ورائهم، في ديارهم، مذياعا يرن وآلة غسيل جنت من الدوران وإبريق شاي على النّار. شوارع المدينة فسيحة، سعيدة. لا ازدحام ولا اكتظاظ. لم تبق سوى فرق الشرطة والكلاب تجوب الأزقة الخالية وتمشطها بحثا عن المتخلفين. يوم أو يومان على أقصى تقدير وبعد أن اطمأن الرئيس على استتباب الأمن، غمرته نشوة الغالب والقاسم لظهر المعتدي. اعتلى منصة، ولأول مرّة ارتجل كلمة. ولم نصدق لمّا استحضر بيتا من شعر عنترة: سيفي كان في الهيجاء طبيبا يداوي رأس من يشكو الصداعا وحلّ عقدة لسانه: دون إراقة الدماء، سيطرنا. عهد جديد وسلام مدى الحياة. وانتظر الرئيس برهة من الزمن تجاوب الحاضرين بالهتاف والتصفيق. إلا أنه فوجئ بعواء ابن آوى تقشعر له الأبدان: ه... ه... و... و... و... وعلى عكس ما كنّا نتصور، فلقد أحبّ الرئيس هذا الصوت الجنائزي. قال: إنها الموسيقى المحبذة لدي. بعد شهر ويوم بداية من يوم الخميس الأسود لمّا استنفدت موارد خزينة الدولة، فكّر المؤبدون فوق سطح الأرض بجدية في استيراد اليد العاملة والفلاحين من صعيد مصر وأدغال الكنغو وجزر القمور للاعتناء بغابات الزيتون بالساحل وجنائن البرتقال بالوطن القبلي وواحات النخيل بتوزر وحقوق القمع والشعير بإفريقية. لمدة قرن وعام اعتاد التوانسة العيش تحت الأرض ينتظرون في كل أسبوع القفة ولقمة العيش... إلى حدّ أنّ الجيل الأول والجيل الثاني والجيل الثالث لم يخطر بباله أن هنالك عالما غير العالم المدفون. منذ قرن وعام والتوانسة في صلواتهم ودعائهم إلى اللّه عز وجلّ يذكّرون بفضائل سيادة الرئيس، ذاك الرجل الصالح الذي بقي فوق السطح، وسط الأنواء، في قلب المعمعة، خدمة للصالح العام. بعد قرن وعام، كان من بين أهل الكهف من ضاقت بهم دنيا المقابر، مثلهم مثل المهاجر الذي سئم الغربة وحنّ إلى العودة ليموت بين الذكريات. كيف ما يرجع الفرططو للنّار إلّي تحرقو كيف ما يرجع الفلاّح للحقل إلّي عرقو كيف ما يرجع الملاّح للبحر إلّي غرقو نرجع ليك حائر ومهنّي إنت وقلبي أقوى منّي بام.. بام..! في يوم من أسعد الأيام، عام 2105، خرج من الحفر نفر مِن مَن استطالت لحاهم يستكشفون ما يدور على السطح. وكم كانت دهشتهم عظيمة لمّا أعماهم نور الشمس وزرقة السماء وحمرة الأقحوان وخضرة العشب. وسط قوس القزح هذا، كان سيادة الرئيس الذي قارب القرنين من عمره، يقرأ جريدة التايمز بالمقلوب، مسترخيا يحاذي مسبحا فسيحا تملأ حوضه كعاب وغلمان وبجع. والحشم من حوله يحملون أطباقا من الطماطم والبصل والبطاطا واللّفت والخرشف وكؤوسا من الماء العذب. ورجع فدائيو أهل الكهف إلى الكهف يصرّخون كسندباد المسعدي: واعترضتنا الأرض بوجه عبوس. مخدوعون، قرنا وعاما. قرنا وعاما، مخدوعون. ولكن في الكهف لا مجيب. لقد اعتادوا كخفافيش الظلام على الخبزة الباردة والبركة فشعارهم المرسوم على مدخل مدن الباطن: استنّي يا دجاجة حتى يجيك القمح من باجة. وحكايتنا دخلت للغابهْ