حكى ابن المقفع أو المؤلف الهندي الذي ترجم عنه «كليلة ودمنة» حكايات طريفة عن الحيوانات التي رمز بها إلى البشر بمختلف طبقاتهم، وبما أن معظم تلك الحكايات وأهمها تتحدث عن ذوي السلطة والنفوذ، فإنه لم يستطع أن يحكي عنهم بصفة مباشرة فنجده يرمز إليهم بالأسد، وجعل لهم وزراء من الثعالب وبنات آوى من باب الرمز والتلميح، وصاغ حكايته نثرا وقد حاول صياغتها شعرا ابن بن عبد الحميد اللاحقي، وابن الهبارية شعرا. ولعل الشاعر الفرنسي «لافونتين» قد تأثر بتلك القصص، إن كان قد اطلع عليها، أو احتذى حذوها في كتابتها من باب توارد الخواطر فحكى حكايات عن الحيوانات نظمها نظما خاضعا لقواعد الشعر الفرنسي، وقام فيها بإسقاط واضح على البشر على النحو الذي رأيناه في كليلة ودمنة، ومن بين تلك الحكايات هذه القصة التي جرت للغراب مع الثعلب عندما احتال عليه حتى أسقط من منقاره قطعة الجبن وأكلها وتركه مهموما مقهورا، وقد عربها الأب نقولا أبو الهنا المخلّصي نظما بعنوان «الثعلب والغراب»: هكذا: سُمُوُّ الغراب أوَى مَرَّةً إلى دوحة فوقها قد جَثَمْ وكانت بمنقاره جبْنةٌ يَهَشُّ إلى أكلها ذو الَنَّهَمْ فوافاه مستروِحًا ثعلبٌ يَهيجُ حشاه بمثل الضَّرمْ فراغ وحاول من فوره تَصَيُّدَها قبل أن تُلتهَمْ فحيّا الغرابَ وقال له: «سلامٌ أيا صاحبي المحتَرمْ لعمريَ إنك بارعُ شكلٍ بديعِ الملامح من غير ذم وريشك زاهي الجمالِ فأنتَ جميلٌ من الرأس حتى القدمْ فلو أن صوتك ناسب ريشَك حُسْنًا، لكان لك الحسنُ تمْ وكنتَ لعمريَ أجمل طيرٍ وعنقاءَ مُغربَِ هذي الأجَمْ» فسُرَّ الغرابُ بهذا المديح وقد خال أنْ صار ربَّ العِظَمْ ولكنما ساءه ذمُّ صوتٍ له ظنَّ فيه شِفاءَ الأصمْ ورام يُفنِّدُ ذاكَ المقال ويُطربُ صاحبَه بالنّغمْ فأفْرجََ منقارَهُ فإذا بجُبنته في فمٍ أيِّ فمْ تلقفها ذو الدهاء سريعًا فكانت له مِن ألذِّ اللُّقََمْ وخاطب ذاك الغراب خطابا تناقله عنه أهلُ القلمْ: «تعلّمْ أيا صاحبي حِكمةً تُفِيدُك حنكة أهل الفَهَمْ: معاشُ المُمَلَّقِ من جيبِ مََن يُغَرُّ بِتَمْلِيقِه لا جرمْ وإنك لم تخسِرِ الآنَ قَطُّ فخيرٌ من الجبن درسُ الحِكَمْ» فكاد الغرابُ يَذوب حياءً وأنشأ يََقرعُ سِنَّ النَّدَمْ وأقسَم أنْ لن يُمَلَّق بعدُ ولكنْ تأخَّرَ ذاكَ الندمْ والملاحظ أن البيت الثالث قبل الأخير من كلام الثعلب للغراب، يذكرنا بالحكمة العربية التي تقول: «ما ضاع من مالك ما وعظك»، وقد أخذ الغرابُ درسا لا يُنسى، إذ ليس من المعقول أن يبقى الغراب مُصِرًّا على غفلته، وأن نظل نروي تلك القصة على شكلها الذي رواه «لافونتين» منذ أقدم العهود إلى الآن، لذلك يحسن أن نرويها بهذا الشكل النثري الجديد الذي يشبه الطرفة أو النكتة: « رأى ثعلب غرابا على غصن شجرة وفي فمه قطعة جبن، فأراد أن يخدعه فقال له: (ما أجمل غناءك يا صاحب الصوت الناعم الرخيم، أسمعنا لحنا من ألحانك المطربة ذات الترنيم). فسحب الغراب قطعة الجبن من منقاره ووضعها تحت جناحه، وأطلق لعقيرته العنان بالزعيق، ولصوته بالنعيق: غاق غوق غيق...فقال له الثعلب: لماذا وضعت قطعة الجبن تحت الجناح، وصدّعت آذاننا بمزعج الصياح؟ فقال له: أتظنني مثل ذلك الغراب المغفل الغبي، الذي تعرفه في كتاب المطالعة الأدبي؟ إنني قد استفدت من حكمة هذا الشاعر الفرنسي، وخاصة قوله الذي رسخ في رأسي: «تعلّمْ أيا صاحبي حِكمةً تُفِيدُك حنكة أهل الفَهَمْ معاشُ المُمَلَّقِ من جيبِ مََنْ يُغَرُّ بِتَمْلِيقِه لا جرمْ وإنك لم تخسِرِ الآنَ قَطُّ فخيرٌ من «الجبن» درسُ الحِكَمْ» وقد أخذت منك درسا لن أنساه، ولن يغرني بعد اليوم تملقك، وقد دفع أجدادي ثمن هذا الدرس الثمين، الذي أجراه على لسانك الشاعر لافونتين. لقد أخذ الغراب درسا، أو مضادا حيويا ضد الغفلة، ولم يعد يقع في الشرك الذي وقع فيه أجداده، ولم تعد تنطلي عليه حيلة الثعالب، ولكننا نحن العرب ما زلنا نقع في شراك الغرب، وما زالت تنطلي علينا حيل ثعالبهم المراوغة فيسقطون من أفواهنا قطع الجبن (اللزيز) ويستلون من جيوبنا الذهب الإبريز، (بفضل أدلائنا) الذين يصدق فيهم قول الشاعر القديم: إذا كان الغراب دليل قوم يمرُّ بهم على جِيَفِ الكلابِ مع الاعتذار للغراب الذي لم يعد مثل ذلك الغراب القديم الذي احتال عليه الثعلب، لأن «قابيل» بن جدنا آدم عليه السلام، كان قد أخذ درسا في بدء الخليقة عندما قتل أخاه «هابيل»حين عن جد الغربان إذ تعلم منه كيف يواري سوأة أخيه، كما جاء عنه في قوله تعالى:(فطوّعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين. فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه قال يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأُواري سوأة أخي فأصبح من النادمين.) فلنواصل أخذ الدروس عن الغراب.