تستحضرنا في هذا الوقت الصّعب الذي تمرّ به البلاد التونسية وكل مرحلة انتقالية هي بالضرورة صعبة والمخاض فيها عسير، تستحضرنا في هذه اللحظة المهمة من تاريخنا المعاصر قصّة النملة والصرّار. قصة أبدع فيها الكاتب المعروف «جون دي لافونتان», قصّة لا يمكن أن تطالعها بدون أن تتأثر بها تأثرا بليغا وهي تأبى أن تفارق المخيّلة لأنها على غرار جل حكايات لافونتان (لا ينبغي أن ننسى أبدا أن «لافونتان» استفاد بدوره من عبد الله بن المقفع وكتابه الشهير كليلة ودمنة) الذي عاش ومات في القرن السابع عشر فيها حكم عابرة للأزمان والأمكنة وقوتها وخطورتها إذا ما تمعّنا فيها لا تقل قيمة عن خطورة الأسلحة الفتّاكة والحديثة العابرة للقارات. النّملة كما تعلمون هي كائن صغير وضعيف جدّا لكنّه مثال في الجهد وفي الالتزام بالعمل يبعث على الدهشة ويلهم الشعراء والأدباء ويثير فضول كل من تستوقفه الطبيعة بجزيئاتها الصغيرة. وإن حاولت بعض الرّوايات التي تناولت القصة بتصرّف أن تجعل نهايتها سعيدة فإن «لافونتان» لم يكن معنيا بإرضاء القارئ صاحب الإحساس المرهف الذي يحبّذ النهايات السعيدة وإنما كان همّ هذا الكاتب العبقري أن يعري الأمور ويقدمها في شكلها الأقرب إلى طبيعة الإنسان عندما تكون هذه الطبيعة بلا متممات ولا مساحيق. الصرّار الذي التجأ إلى جارته النملة وفق حكاية «لافونتان» وجد نفسه أمام جدار صدّ سميك ولا حول له ولاقوة. فالجارة النملة لم تقتنع بمرافعته عن نفسه لما سألته ماذا كان يصنع خلال فصل الصيف وأجابها بأنه كان يشنف الآذان بالغناء في الوقت الذي كانت فيه تجمع كل ما تسنى لها خلال فصل الحرّ لتجد ما تقاوم به البرد عند فصل القرّ. الجارة النملة ليست من هؤلاء الذين يقرضون وفق كلمات «لافونتان» ولم تجد حرجا في أن تغلق بابها على نفسها تاركة الصرّار يتضوّر جوعا. وبما أنه لنا في القصص حكم فإن قصّة النملة والصرّار تبدو ملائمة جدا لوصف ما يجري في الساحة السياسية اليوم. كانت مختلف الأحزاب السياسيّة خاصة منها من تضع نفسها ضمن فئة الأحزاب التقدمية في تونس تشنف الآذان منذ انتصار الثورة الشعبية بأغنية تحذر كلماتها من حزب اسمه حركة النهضة. ركزت هذه الأحزاب التي تقدمت لانتخابات حاسمة ومصيرية في البلاد متشرذمة ومنقسمة على ترديد كلمات الأغنية التي تحذر من غول اسمه النهضة حتى أن النتيجة جاءت عكسية. ففي الوقت الذي كانت فيه الأحزاب التي وضعت نفسها تحت راية الحداثة متفرغة للحديث عن الخصم كان هذا الأخير يعمل وعلى طريقة النملة (من حيث لا كلل ولا ملل) على قرع البيوت بيتا بيتا وعلى اقتحام كل المعاقل التي يمكن أن يتجمع فيها التونسيون التواقون للتغيير بالجوامع وبالأسواق وبالساحات العمومية وبالطرقات والأنهج والأزقة، مستعملا كل أدوات الإقناع والترغيب متوجها إلى كافة شرائح المجتمع بلا استثناء بمن فيهم من كانوا يحملون موقفا حاسما، أضف إلى ذلك الخطاب الإعلامي المعسول الذي طيّبوا فيه خاطر الكل وطمأنوا فيه الكل ووعدوا فيه الكل بجنة النعيم على الأرض. اليوم وبعد أن جاء موعد الحسم وبعد أن حقق حزب حركة النهضة انتصارا ساحقا جاءت البقية تطرق بابه طمعا في بعض المناصب والحقائب. اليوم وبعد أن تبين للناس الرشد وقال صندوق الاقتراع كلمته اعتقد كل من حزب المؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل من أجل العمل والحريات أن حزب حركة النهضة يمكن أن يتنازل عن ثمرة جهد وعمل منظّم وممنهج بشكل عملي دقيق في اتجاه جلب الناخب أينما كان موقعه وأن يشركهما في الحكم وفق ما يطمحون إليه أو بالأحرى وفق ما يطمعون فيه. وها هم يستغربون كيف أن حزب حركة النهضة يحاول أن يجرّد رئيس الجمهورية من كل الصلاحيات (والنهضة غير معنية بالمنصب) وأن يجعل كل السّلط في يد رئيس الحكومة القادم وهو مرشح الحزب الفائز وهو الذي يقود حكومة قادمة، كل الحقائب الوزارية الهامة فيها والسيادية منها مرشحة لان تكون في يد الحزب المنتصر. طبيعي جدا أن يجد من لم يعمل أو من لم يبذل الجهد الكافي أو من لم يكن يملك بعد نظر أو يشتم الأمور جيدا، نفسه في الصفوف الأخيرة وطبيعي جدا أن يجد نفسه في موقع من يمد يده وهو يعلم جيدا أن مطالبه ليست بالضرورة ستجد آذانا صاغية. طبيعي جدا أن يحكم من منحته صناديق الاقتراع اليد العليا وطبيعي جدا أن يكشف قبل فوات الآوان للآخرين بأنه ليس على استعداد ليقرض من كان خاملا في وقت العمل نصيبا مما جناه بالعمل. إنها الحقيقة التي رفضت الأحزاب التي زيّن لها في وقت من الأوقات أنها يمكن أن تكون شريكا فعليا في الحكم وهي التي جاءت من بعيد بمقاعد عددها قليل في المجلس الوطني التاسيسي وبأصوات ناخبين أقل عددا. إنها حقيقة صندوق الاقتراع التي تهيّئ للبعض أنه يمكن التغاضي عنها بائتلاف ثلاثي بقلب وبلا أطراف.