إن اقتصادات البلدان كائن حي يتطور وينتكس، وهو يتطور بآليات داخلية في علاقة بمحيط خارجي.وقد أثبتت تجارب التاريخ الاقتصادي العالمي ان تماسك اي اقتصاد وحيويته لا يرتبطان فقط بنجاعة آليات وكفاءة العاملين فيه، بل تتوقف ايضا وبالأساس على القرارات الاستراتيحية التي تجعل الترابط بين آلياته الداخلية والتطورات الدولية ناجعا ومفيدا، وقد تستوجب من هذا الاقتصاد أحيانا اعادة هيكلة بغرض التكيف مع المتطلبات الجديدة للأوضاع العالمية. ولم تشهد الاوضاع الاقتصادية العالمية منذ قرنين تحولات واضطرابات أكثر حدة وعمقا مما عرفته خلال العقدين الماضيين. ولم يكن اقتصادنا الوطني في اي وقت أكثر ارتباطا بالاقتصاد الدولي وتموقعا فيه. فهل توفق الى التكيف مع هذه المستجدات واستثمار عوائدها؟ وماهي العوامل التي ساعدته على ذلك؟ سؤالان جوهريان نطرحهما في ظل الاوضاع الاقتصادية المتأزمة دوليا، وبمناسبة البرنامج الانتخابي للرئيس زين العابدين بن علي «معا لرفع التحديات» 2009 2014. إن أهم نقاط قوة اقتصادنا الوطني ونسيجه الصناعي، تقوم على ادراك ابعاد تطورات الاوضاع الاقتصادية الدولية والتكيف معها والسعي الى الغنم منها بأقصى قدر. ولقد كانت محطات صياغة الاستراتيجيات الاقتصادية والصناعية بالذات تتم في السابق (بُعيد الاستقلال سنوات 1970 1972 سنتي 1980/1981) على أساس منظومة فكرية تقوم على تعظيم عوائد التصدير من العملة الصعبة وتكثيف انعكاساتها على توسيع قاعدة حركية التشغيل (كميا) واستغلال امكانيات التمويل من الهيئات الدولية ومن البلدان الشقيقة. وغم ان شروط التمويل كانت نسبيا مرنة (على عكس ما هو جار الآن عالميا) فإن شروط التبادل كانت مجحفة وتجري في اطار اتفاقيات ثنائية وجماعية تراجع بصورة دورية في اتجاه وضع مزيد من القيود. وقلما تكون معايير الجودة والكلفة العنصر الأساسي في اتفاقيات التبادل هذه. وإذا كان هذا الواقع بدأ يؤول الى تفكك حتى قبل سقوط جدار برلين فقد تشكلت على انقاضه منظومة متكاملة تربط بين التمويل والاستثمار في الهيئات والبلدان الممولة، ومناخ الاستثمار في البلدان المستقبلة للاستثمارات، وبين جودة المنتوج وكلفته وشروط ترويجه، تحتل التنافسية دور المحرك في تطوير المؤسسة الاقتصادية. وقد اكتشف الرئيس زين العابدين بن علي بفكره الثاقب مبكرا هذه الحقائق الجوهرية، واقر التوجهات الاستراتيجية المناسبة لها من خلال برنامج اعادة هيكلة الاقتصاد (PAS) وبرنامجي التأهيل الصناعي والتحديث الصناعي وتتمثل هذه العناصر في ما يلي: 1 العمل على ادماج الاقتصاد الوطني في الاقتصاد العالمي بشكل متدرج وناجح وضمان تموقعه كقطب اقتصادي ومالي فاعل ونشط. 2 وضع المؤسسة الاقتصادية في صلب العملية التنموية واعتبارها كيانا حيا يتغذى ويشتد عوده من خلال قدرته التنافسية وقابليته للتكيف مع المحيط باعتماد معايير الجودة والانتاج وفق المعايير العالمية وبكلفة أقل. 3 إزالة الحدود والفوارق بين الانتاج الموجه للسوق الداخلية والانتاج المعد للتصدير. وهو الحاجز الذي كان قوام التجارب التنموية السابقة وذلك بحكم انفتاح السوق الداخلية على الأسواق العالمية وزوال الحدود الاقتصادية بين البلدان بعد أن تم تركيز منظمة التجارة العالمية وانخراط تونس فيها منذ احداثها. 4 التمييز داخل المؤسسة بين العناصر الاقتصادية (عناصر الكفاءة) والعناصر الاجتماعية (عناصر الاحاطة)، والعمل على الفصل بينهما داخل عملية الانتاج برمتها، بحيث يتم تحييد العناصر الاجتماعية في سيرورة عملية الانتاج والاعتماد على المعطيات الاقتصادية وعناصر الانتاج لوحدها. 5 حرص الرئيس زين العابدين بن علي شخصيا على أن تلتزم في مقابل ذلك المؤسسة والدولة وعلى نطاق واسع بالبرامج والسياسات والتدخلات الاجتماعية وفق نسب لا ترهق توازناتهما، وتوجه هذه البرامج بصفة دقيقة وشفافة وحصرية لذوي الحاجة الحقيقيين ولبرامج الاحاطة بذوي الاحتياجات الخصوصية. 6 أدّت هذه الاستراتيجية واضحة المعالم في اطار ظروف دولية وعربية متقلبة وفي ظل تخبط كبير في الفكر التنموي العالمي صاحب انهيار القطبية الثنائية، الى أن تجري الاصلاحات الاقتصادية التونسية بأقل كلفة اجتماعية على الاطلاق مقارنة بالتجارب الأخرى شرقا وغربا، والى أن تبلغ هذه الاصلاحات الأهداف الكبرى المقصودة منها. ويتجلّى ذلك من خلال تطور المؤشرات النوعية للاقتصاد الوطني حيث تجاوزت الاستثمارات الخارجية في المخطط العاشر ما هو مقدر (5483.9 مليون دينار محققة، مقابل 5050 مليون دينار مقدرة) وتساهم الانتاجية في خلق الثروة الوطنية بنسبة 41٪ في المخطط العاشر و48٪ في المخطط الحادي عشر وتضمن البرنامج الانتخابي «معا لرفع التحديات» ان الانتاجية سترتفع سنة 2014 الى نسبة 50٪ من نمو الناتج المحلي الاجمالي. وتطورت نسبة مساهمة القطاعات ذات المحتوى المرتفع من المعرفة في النمو من 20.4٪ سنة 2006 الى 21٪ سنة 2007 ومن المتوقع أن تبلغ هذه النسبة 35٪ سنة 2016. ورغم الأزمة العالمية الحالية تسعى تونس الى مضاعفة استثماراتها الصناعية السنوية 3 مرات حيث تتطور من 0.5 مليار أورو سنة 2007 الى 1.5 مليار أورو سنة 2016 وتسعى بالمقابل الى مضاعفة قيمة صادراتها الصناعية مرتين في حدود 2016 (بقيمة 16 مليار أورو) و ذلك بفضل احداث أقطاب صناعية في كل مناطق البلاد (توسيع قطب الغزالة بأريانة، إقامة أقطاب صناعية في بنزرت وصفاقس وسوسة والنفيضة والمنستير وصفاقس وقابس) وتكيّف برامج تكوين المهندسين بما يؤهل بلادنا الى أن تستمر 10 مليارات أورو خلال الفترة 2010 2016 مما يمكنها من تصدير خيرات وخدمات بقيمة 100 مليار أور و وإحداث 200.000 موطن شغل جديد. إننا لا نستغرب هذه البرامج الطموحة والاحداثات الكيفية، لأن الرئيس زين العابدين بن علي قد استشفّ أهم ملامح التطورات الدولية وبالذات الاقتصادية منها وصاغ على أساسها استراتيجية الاصلاح التي أعطت الثمار التي أشرنا إليها. لقد قام الرئيس زين العابدين بن علي بتشخيص المستجدات الدولية وانتهى الى أن الحركية الاقتصادية العالمية الجديدة تحكمها التيارات المتفاعلة التالية: أولا: تيار تنقل رأس المال الى حيث الربحية العالية والقطاعات الواعدة والاستقرار. ثانيا: تيار تنقل البضائع والخدمات الى حيث الطلب العالي ومستوى العيش المرتفع. ثالثا: تيار هجرة الكفاءات والأدمغة الى حيث مناخات الاستخدام الأمثل. رابعا: تيار السياحة والترفيه إلى حيث المنتوج السياحي الجذاب والتنشيط الثقافي الترفيهي المبتكر. كما لاحظ الرئيس زين العابدين بن علي أن البلدان والمجموعات الدولية تتسابق لاستقطاب رأس المال والكفاءات ووفود السياح والدفع بأقصى قدر من السلع والخدمات وتسويقها للبلدان الأخرى. وعلى هذا الأساس اختار الرئيس زين العابدين بن علي أن تكون بلادنا قطبا ماليا وصناعيا تثمن من خلاله إصلاحاتها الاقتصادية الناجحة، وبنيتها الأساسية المتقدمة والكفاءات العالية التي توفرها منظومتها التربوية والتكوينية والتعليمية، وإقبالها على التكنولوجيات الحديثة التي أصبحت شأنا مشتركا بين كفاءات المجتمع وطاقاته العاملة. وهذه هي الترجمة العملية لكسب المنافع للاقتصاد التونسي من هذه التيارات المتفاعلة ومن عوائدها الضخمة. لقد كشفت التطورات أن هذه المعالجة الثاقبة والعملية قد أكسبت عناصر بنائنا الاقتصادي والصناعي بالذات مناعة في وجه المنافسة الخارجية وزادت من قدرتها على مواجهة الأزمة الاقتصادية الدولية الراهنة، وجعلتنا نرى في التخوف والتردد اللذين صاحبا إقدام بلادنا على المحطات الاستراتيجية الكبرى (إعادة الهيكلة الاقتصادية /اتفاقية الشراكة ودخولها حيز التطبيق الفعلي/ الاتفاقية الدولية متعددة الألياف وتأثيراتها على قطاع النسيج/ مواجهة الأزمة الاقتصادية العالمية الراهنة) من قبل عديد الفاعلين الاقتصاديين والملاحظين انما هي مشاعر ومواقف ربما نتفهم بعضها ولكنها في كل الأحوال لا تنم عن قدرة على إدراك رؤية الرئيس زين العابدين بن علي الاستشرافية وملكة اتخاذ القرار الصائب التي يتميز بها، أو ان هذه المواقف تصدر عمن ينتظر تعثر مشروعنا التنموي لا قدر اللّه. وقد أكد الرئيس زين العابدين بن علي على أسس رؤيته الاستراتيجية في مقدمة النقطة العاشرة من البرنامج الانتخابي 2009 2014 «معا لرفع التحديات» حين قال: «لقد ركّزنا اختياراتنا الاقتصادية في كل المراحل على استباق التحولات الكبرى على الساحة الدولية، ورصد مستجدات الظرف الاقتصادي العالمي وتطوراته، والمبادرة بالاصلاحات الضرورية في الإبان لدفع حركة التنمية وتطوير مناخ الأعمال والارتقاء بالقدرة التنافسية».