حلقات يكتبها: عبد الرؤوف المقدمي تردّدت كثيرا حول نهاية هذه الحلقات التي كان يمكن أن تطول أكثر ترددت حول الموضوع الذي أنهيها به وأختمها، وجالت في الخاطر عدة مواضيع انتهت حول اختيار الحديث حول الانسان السوري، حول أهل الشام. لا أريد بالطبع أن أذكر بالعلاقات التاريخية التي ربما سبقت عهود الفينيقيين بين تونس وسوريا، ولا بتداخل أصول الشعبين فكأنهما واحد في عدة أشياء. هذه الأشياء معروفة ومحسومة إنما أنت تشعر في سوريا بصدق أنك بين أهلك أن طريقة التفكير قريبة من بعضها البعض وأنك هناك تطمئن لأي كان مهما كان. فالسوري مرن التفكير، يتنازل أمام العناد الذي لا طائل من ورائه، لا يلحّ كثيرا إذا طلب منك شراء شيء خصوصا إذا ما لاحظ ضيقك. وأهل الشام ذوّاقون، تلمح ذلك في أكلهم، وفي مرطباتهم، وفي مطاعمهم خاصة الراقية. يتأصّل فيهم الاحساس بالانتماء إلى الأمة العربية تأصلا متجذرا إلى أقصى حدوده حتى أنك تجبر مرات على أن تقول لمخاطبك: يا أخي حدثني عن بلدك أما العالم العربي وأموره فمعروفة ومكشوفة. وما يعجبك في أهل الشام حياءهم وصبرهم في نفس الوقت وهما صفتان قلاّ أن تجتمعا مع بعضهما البعض خصوصا إذا كان الصّبر على ظروف الحياة. وما يعجبك أيضا هناك، هو قدرات لهم تراها خارقة، وكمثال بسيط، كل ذلك الكمّ من السيارات القديمة التي تجوب الشام، وهي في حالة أكثر من جيدة، إن أمرا كهذا على بساطته يدعوك إلى السؤال فيقال لك إنها عبقرية أصحاب ورشات تصليح السيارات لا أكثر ولا أقل. وتسمع في هذا الصدد الطريف والمذهل في نفس الوقت. وترى كيف ان الحاجة تخلق الوسيلة وكيف أن الاصرار يخلق ما لا يخطر على الأذهان. ويهتم الناس بالثقافة اهتماما كبيرا في جميع ميادينها، الصحافة والكتاب والمسرح وغيرها، كما تعجّ المكتبات هناك بكل أنواع الكتب والدراسات وبأسعار هي للسائح في المتناول جدا. أما متعة الجلسة هناك في مقهى وتناول ما تريد من السوائل، مع تأمل كل ذلك الذوق وكل تلك العراقة حتى في المقاهي البسيطة، فمتعة من نوع خاص لا يعلمها إلا من كثر سفره وترحاله، وقارن بين الحضارات والثقافات والشعوب والناس، وتحسّس روح كل ذلك وضميره حتى وإن لم تطل إقامته، أوضاع أكثرها في الركض وراء الشغل. وبالتأكيد ليس ذلك بالغريب عن شعب حضارته ضاربة في التاريخ، وعن أول بلد عربي اكتملت فيه الدولة العربية الاسلامية الأولى ثم أخذت تنهل مما هو حولها، وتصهر ثقافات أخرى فيها، على الرغم من قيام تلك الدولة داخل انقسامات خطيرة، ودماء دفّاقة. وتسأل هل كان لتلك الدولة أن تتواصل وتتجذّر إن لم هي تبدأ بالشام ووسط أهل الشام، حتى وإن كنت متعصبا ومبهورا ومشتاقا للمرحلة العباسية التي شهدها العراق العظيم جدا، وباتت فيها صورة الحضارة العربية الاسلامية نهائيا بشكل يخطف الألباب والأبصار.. انها أسئلة تجول بالخاطر وتحاصر النفس في سوريا ومع أهلها الكرماء. وصحيح ان هذا الكلام صادر بلا شك عن حب، لكنه لم يصدر أصلا عن مجاملة أصدق نفسي لأنني لا أتذكر أنني كتبت عن شعوب بلدان كثيرة زرتها إلا عن شعبين ثانيهما أهل الشام. قد تجد شعوبا أكثر تقدما، وأكثر امكانيات، لكن أن تجد شعبا يأسرك فهذا من الأمور النادرة، وأن تجد شعبا يطمئنك فهذا حظ، وأن ترى شعبا يردد في أغلبيته ما يتردد فيك فهذا ليس من المتكررات. لذلك عدت من هناك ورغم كل الظروف في سوريا وحولها، مطمئنا، ثمة شيء ما يحصّن هذا الشعب، تحسّه ولا تراه، وتشعر به ولا تحدّده بالضبط، وتراه يحوم حولك ولكنك لا تلمسه. ومن دور الدولة أن تحفظ هذا كله وتحافظ عليه وتطوره، ومن دور النخب فيها فعل نفس الأمر، خصوصا النخب الثقافية الوطنية الواعية، والتي من حقها أن تطالب وأن تعطي أيضا وأن تتمتع وتمتّع وأن تعي للخطة التاريخية الفارقة التي تعيشها بلادها، وأهل بلادها، والحاجة الماسة إلى وحدة وطنية حقيقية لا تتزعزع. وإن لنا في أهل الشام، وفي هذا الصدد كل الثقة.