تخضع كتب «السيرة الذاتية» العربية لجملة من القوانين الثابتة توجّه طُرُق سرْدها، وأساليب كتابتها ولعل أهم هذه القوانين وأولاها بالنظر قانون «الاستبقاء والاستبعاد» هذا القانون هو الذي كان يدفع الكاتب الى العكوف على حياته بالمراجعة والتأمل فيمحو ويثبت ويستبقي ويستبعد ويكشف ويكتم حتى يستجيب لأفق انتظار القارئ العربي ويخضع لمنظومته الأخلاقية والفكرية. بسبب من هذا تتآلف كتب السيرة العربية على اختلافها وتتشابه على تباينها حتى لكأن بعضها يتناسل من بعض. إن السيرة الذاتية متجذّرة في الآداب الغربية من تقاليد البوح والاعتراف المسيحية، فهي طريقة كشف وتعرية يصبو من خلالها الكاتب الى خلاص ممكن لهذا عُدّت زُلْفى، وشكلا من أشكال الصلاة. وحين انتقلت السيرة الى أدبنا العربي خضعت لقواعد هذا الأدب ولقيمه ولجملة من المبادئ الفنية والفكرية المتحكّمة فيه فتغيّرت بنية وأسلوبا وإيقاعا وطريقة سرْد. وربما جاز لنا ان نتساءل عن مشروعية خلع هذا المصطلح، مصطلح السيرة الذاتية على النصوص التي كتبها الأدباء العرب وعكفوا فيها على سرد وقائع حياتهم، فالمصطلح بات ملتبسا لا يقول هذه النصوص ولا يفصح عن حقيقتها لهذا دعوتُ الى استخدام مصطلح جديد يكشف في اعتقادي عن حقيقة هذه النصوص ويشير الى بعض خصائصها وهو مصطلح السيرة الروائية فهذا المصطلح يومئ الى تداخل جنسين في هذه النصوص هما جنس «السيرة الذاتية» وجنس الرواية. لقد وجدتُ هذا المصطلح ينطبق بيسْر على كل كتب السيرة الذاتية العربية، هذه الكتب التي حوّلتْ حياة كتابها الى روايات اي الى أعمال فنية. تداعت الى ذهني هذه الأفكار وأنا أعيد قراءة كتاب «الجمر والرماد» للكاتب الفلسطيني الراحل «هشام شرّابي». ولعل اخصّ خصائص هذا الكتاب انه تسجيل لتاريخ جيل عربي أراد ذات يوم، ان يُكره العالم على احتضان أحلامه فتأبى عليه، فارتدّ هذا الجيل مهزوما يمنّى نفسه بيوم آخر أجمل هذه السيرة هي سيرة فكرية في المقام الاول، تروي ذكريات مثقف عربي، وترسم بحسّ درامي عميق ألوان الصراع القائم بين الفكرة والواقع، بين الحلم والحياة. كل كائنات الكتاب تتحرّك في ارض محروقة هي أشبه ما تكون بجحيم دانتي، ارض هي مقبرة للأحلام والبشر معا كل ما فيها يثير الرعب، لكن هذه الكائنات ظلّت على هشاشتها تقاوم الموت، غير عابئة بهزائمها تتوالى. الكتابة وحدها كانت حيلة الكاتب لمواجهة هذا الموت، وإرجاء تحلّل الأشياء وتفسّخها، فهي درعه الباقية يحتمي بها من بشاعة الكون والكائن معا. لقد فقد الراوي كل اسلحته، ولم تبق إلا الكتابة يلجأ اليها وهو يرى الى الموت يسرق اصدقاءه، والى الأحلام تذروها الرياح. وفي الكتاب صفحات من الأدب الرفيع تنعطف على مفهوم الكتابة وطقوسها بالنظر والتأمل الكتابة من حيث هي «نتاج القراءة» و«استقرار» في الوحدة و«حذق لفن المضغ» على حدّ عبارة الفيلسوف الألماني نيتشه. يقول هشام شرابي «إني من النوع الذي لا يستطيع التفكير إلا إذا كان في يده كتاب يطالعه كل أفكاري هي بشكل أو بآخر نتاج ما اقرأ». فلا وجود إذن لقدْرة فطرية على الخلق والإبداع، فالنبوغ، اذا استعرْنا عبارات الفلاسفة العرب يقتضي تدجين النفس الناطقة بالصناعة الحادثة، والكتابة في هذا العمل، ليست كتابة «الخارج» فحسب أعني سرْد الأحداث والوقائع وإنما هي كتابة الداخل ايضا أعني رصد حركة النفس وهي تكتوي بنار التجربة، لهذا كان الكتاب حركة ذهاب وإياب بين عالمين عالم الخارج وعالم الداخل.