أشعر بالإحباط على مساحتي الكتابية عندما أتحدث مع قناديل مضيئة مثل الأستاذ الحبيب بولعراس، كيف أنقل البحر إلى اليابسة. مفكر التحم تفكيره بالواقع، وانشغل بالمشاكل الحية فيه، وتفاعل معه على خطوط التماس في ميدان النضال والممارسة. حصيلة فكرية وثقافية تمثل مجال حياته الحيوي ولحمتها، تطرق إلى كل أنواع الكتابة،عرفته وزير ثقافة عندما كنت أرتكب العمل الثقافي، حازم وصارم، اتصلت هاتفياً متوقعة موعداً مؤجلاً إلى مستقبل أجهله، أخجلني لطفه منذ الجملة الأولى وكان الموعد في الغد الموالي، وعلى باب منزله الجميل كان استقباله، دخلنا حديقة تفتح قطيعة مع العالم الخارجي، ثم منزل يدل على أصحابه : الأصالة والتواضع، زوجته جميلة لطيفة، كاسين شاي أخضر وانطلق حديث بلا أسئلتي التي شعرتها تافهة، حديثه أغنى من أن يتقاطع بأسئلة. نلتقي اليوم مع عالمه الثقافي والذي كتب عنه : «الثقافة بالأمس واليوم وغداً كنه فكر ونظر وذوق وموقف وسلوك وخطاب مع الكون ومع الناس، هي أخلاق وآداب وعقيدة وعادات ونقوش في النفوس وفي الحجارة ومعالم مشهودة ومعارف دفينة». الحبيب بولعراس البدايات، ورحلة العمر؟ كانت دراستي الإبتدائية في المدرسة العرفانية للجمعية الخيرية، لأن والدي توفي وأنا في الثالثة من عمري وكفلت من طرف الجمعية، دراستي الثانوية كانت في الصادقية، وبالنسبة للتعليم العالي لم يكن لدي منهج واحد لعدة أسباب أهمها مشاركتي في النضال الوطني، فقد أصدر الأمن الإستعماري مذكرة إيقاف ضدي، فاضطررت للإختفاء، أرسلني الحزب الدستوري إلى الخارج وبقيت في القاهرة سنوات 53 – 54 . لم يكن لدي إمكانية إتمام دراستي لكنني سجلت في مركز القنصلية البريطانية لتعليم اللغة الإنقليزية، سنة 55 كان الحكم الذاتي فقررت عودتي إلى تونس، وعند رجوعي دخلت ميدان الصحافة في جريدة الصباح، سنة 57 وقع إنتدابي في وزارة الإعلام، وذهبت إلى المعهد في ستراسبورغ للتعليم العالي للصحافة، ثم عدت إلى تونس وانتقلت من مسؤولة في العمل الصحافي في الإذاعة إلى جريدة العمل، قدمت استقالتي سنة 1969 من كل ميادين العمل، وذهبت إلى فرنسا لدراسة الإقتصاد. تحصلت على شهادة في الإقتصاد، وسبب هذا الإختيار هو أنني عندما كنت في جريدة العمل في الستينات وقع إنتدابي في المجلس الإقتصادي والإجتماعي سبع سنوات، وأزعجتني بعض الملاحظات من أنني من أهل الأدب ولست رجل إقتصاد لفهم الأمور المختصة، وقد طبقت هذا المبدأ خلال دورتي في مجلس النواب، الشهادة تعطي مفتاحاً لفتح أبواب تريد فتحها، لكن الإختصاص هو تجربة. كيف دخلت العالم الثقافي؟ أكاد أقول انني ولدت في جريدة الصباح غرة فيفري 1951، كانت فتحاً عظيماً في ميدان الصحافة اليومية التونسية، خصصت صفحات لنشاطات متعددة منها صفحة أسبوعية للشباب، وكونت فريقاً هو: فريد السوداني، البشير بن سلامة، منصف بن محمود، والحبيب بولعراس . وفي صائفة 51 خرج فريد إلى فرنسا للدراسة العليا، وأحال إلي الإشراف على صفحة كانت منبرا للشباب، تنشر الشعر والقصة القصيرة والمقالات، نشرت فيها مساهمات بإسم مستعار في سن الثامنة عشرة، في أحداث 52 استلم الصفحة البشير بن سلامة، كنا نشكل عائلة واحدة ثقافية، خلال إقامتي في مصر، كنت الأمين الإداري لمكتب تونس في مكتب المغرب العربي. ومهمتي خاصة تحرير البلاغات في الصحافة المصرية، لفت انتباهي الصحافيون المصريون إلى هفوات في التحرير بلغة مقعرة، وكثير من العبارات المعقدة يمكن العدول عنها. دفعني ذلك للغوص في الأدب العربي المعاصر وقراءة المجلات العربية. وعند عودتي إلى تونس سنة 55 كان الجو مفعماً بالآمال، أنشا الأستاذ أبو القاسم كرو آنذاك سلسلة كتاب البعث، وكان يطلب من كل من له قلم أن يكتب في دوريته، ثم أصدر الأستاذ محمد مزالي مجلة الفكر، كتب فيها العديد من الأساتذة المرموقين، وصدر كتاب السد للمسعدي، كتبت عنه مقالاً اعتبروه وكأنه تقديم للكتاب، والسبب أن كتاب السد مكتوب بلغة فصيحة سامية تبقى في متناول المتضلعين في اللغة العربية من خريجي الزيتونة المتعودين على لغة القرآن، لكن المعاني التي يتكلم عنها هي معاني إفرنجية خاصة، على طريقة إيبسين وفاليري. والمشكل أن من يتطرق لفك رموز اللغة لايفهم المعنى، ومن له إطلالة ثقافية على تلك المعاني ليست له معرفة العربية بمستوى الكتاب، ونظراً لوجودي في الثقافتين وكل ما قرأت من الكتب، عشقت كتاب السد، وكتبت عنه ما كتبت، أعددت كذلك كتابات للنشر في سلسلة البعث «لوحات من المدينة» نشر منها لوحتان أو ثلاثة في مجلة الفكر، وأسعدني أنني وجدتها فيما بعد مبرمجة في نصوص للتدريس . هل كتبت الشعر؟ كتبت الشعر لكنه غير منشور . وقدومك إلى المسرح ؟ للمسرح قصة، سنة 62 عهدت لزبير التركي رسم الجدارية الموجودة اليوم في مقر دار الإذاعة، تمثل الشخصيات الثقافية التي صنعت الإذاعة الوطنية، كل من ساهم بالقلم، الموسيقى الفصول، الأغاني .... اللوحة كانت إكباراً للثقافة التونسية، بقيت وزبير على اتصال مستمر، وفي تلك الفترة أصيب علي بن عياد بجلطة دماغية أثناء عرض بمسرح قرطاج ونقل إلى المستشفى، وأصبح مهدداً بالشلل ووقع إنقاذه، كان مهرجان قرطاج في تلك الفترة مشروعاً خاصاً، فطالبه بالتعويض، والأكيد أن علي انتدب للمسرحية ممثلين بعقد مكتوب منهم حمادي الجزيري، رفعوا قضية ضده لاستخلاص حقوقهم، اتصل بي علي وطلب مني التدخل علهم يكفوا عنه الضرر للتعويض، حاولت إيجاد حل وسط. وقد قدم علي بن عياد الكثير للمسرح التونسي في تلك الفترة، كل رؤساء الفرق تلاميذه، اللامركزية التي كونها لم تكن موجودة، حمل المسرح إلى أقصى الأماكن في الجمهورية، فتح المسرح التونسي على المسرح العالمي الحديث، كانوا يعيبون عليه أنه لا يمثل المسرح التونسي، فاتفقنا أن أكتب له مسرحية تونسية، وكان لي دور كتابة نص مراد الثالث، وزبير الديكور والملابس، وعلي التمثيل والإخراج . لماذا اخترت شخصية مراد الثالث ؟ حكاية مراد الثالث كموضوع نورنبرغ، حاكم جميع المسؤولين حول هتلر، على أساس أن وجودهم في سلسلة قيادة لا تبرر طاعتهم للأوامر عندما تتعلق بالجرائم النازية، ونفس التصرف كان عند مراد الثالث، عندما أراد أن يحاسب كل مسؤول مهما كانت رتبته في الجريمة التي وقعت في حقه، عندما وقع السمل لعينيه . وفي المسرحية سؤال يتردد دائماً : من المسؤول ؟ البعض رأى في المسرحية شبها بكاليغيلا، والبعض انتقاما من البايات، ما حملت المسرحية هو في الواقع كيف أثر عهد معين في انتقال البلاد من وضع إلى وضع، وهذا مايسميه «دوفينيو» الإنقطاع المسلسل . كان مراد الثالث شاباً في عهد يحمل كل الناس السيف، القتل المباشر سهل، والدليل أنه قتل كذلك، لكنه بقي سنوات ثلاث يقتل من حوله، فلا بد أن يكون هناك نوع من القبول لدى الطرف المحيط . والإعدام بهذه الطريقة كان وارداً من طرف البايات والدايات والآغوات حتى قبل مراد الثالث، باياً يدعى كاتار قتل في أسبوع واحد سبعمائة شخص في ساحة القصبة . ثار المجتمع ضد مراد الثالث لأنه حمل المسؤولية بطريقة دموية لكل المسؤولين في الجهاز الحاكم . لا يهم أن تقتل أعداءك لكن أن تقتل الجميع تصبح أنت عدو الناس . ومشروع البوراق ؟ كان المشروع بعد مراد الثالث إنتاج رواية عصرية، لكن علي بن عياد قرر حمل الفرقة إلى مهرجان الأمم عند جون لوي بارو في مسرح الأوديون، قامت أحداث 68 فاعتذر بارو لأنه يصعب عليه عرض مسرحية عربية في ذلك الجو الخانق، بدانا بتحضير البوراق لكن بارو أعاد الكرة، وطلب من علي الحضور، قامت أحداث 68 وبقينا محاصرين في باريس لمدة شهر، وعند العودة حاولنا ثانية تحضير البوراق، لكن جون لوي بارو اتصل ثانية ليقول إن الممثلين يتطيرون من إلغاء عمل مرات عديدة، وأنه لا يمكن أن يبقى الأمر على فشل . وبقي البوراق إلى سنة 69, المشكل أنه عندما قررنا كتابة البوراق كانت قضية التعاضد في عنفوانها، أردت أن أحسم في كتابة المسرحية هذا الإلتقاء بين القديم والجديد الثوري والمقلد، ولو قدمت البوراق في 67 للاقت إقبالاً أكبر لأنها تتحدث عن موضوع فيه جدل مثلث. جاء العرض بعد تغيير السياسة الإقتصادية وخروج بن صالح من الحكم، وظن سوءاً أنها كتبت ضد التعاضد فخيمت عليها تلك الخيبة. هل هناك لغة لكتابة المسرح ؟ المسرح لا يتحمل لغة صعبة المنال، لا يستقيم أمره إلا بلغة قريبة للغة التخاطب اليومي بين الناس، من حيث النطق والإلقاء، يجب أن تكون لغة تسهيل حتى للغة السهلة. كنت متحرجاً عند كتابة البوراق، كيف يمكن كتابة مسرحية بالعربية عن وسط شعبي وهم يتخاطبون بلغة الجاحظ، فمزجت بين المشاهد الواقعية التي تحكي بلغة أقرب ما يمكن من الدارجة، ولغة الأحلام عندما يفكر الإنسان بالفصحى، لكن الجهد ذهب سدى، عهد البوراق يقدم عهد المواجهة بين تصورات الأحلام والطموحات والواقع، بين السماء السابعة والأرض . أعاد محمد ادريس إخراج مراد الثالث؟ ما بعد. الكتابة تصبح ملك الجميع، ما قدمه محمد ادريس هو صورة من العديد من الصور، كان زبير التركي يقول: هناك 80 طريقة لتمثيل نفس الدور، أخرج محمد ادريس المسرحية حسب تأويل وفهم خاص . كتبت سيناريو يسرا للمخرج رشيد فرشيو؟ أعطاني رشيد فرشيو قصة يريد كتابة سيناريو لها لم تعجبني القصة، في نفس الفترة كان صديقي زبير التركي يمر بأزمة، كان يبحث عن الألوان، فتصورت للسيناريو قصة رسام يعيش أزمة، بحثاً عن صورة المرأة المثالية، ووجدت في تاريخ تونس في عهد قرطاج الأولى أن الفينيقيين أهل تسامح في الأديان، يفتحون بلادهم وقلوبهم لكل الآلهة، عبدوا آلهة صقلية في «جبل إيريكس» قريباً من باليرمو وتراباني، وهي آلهة شبيهة بآلهة الحب فينوس، كانوا يقيمون لها عيداً في تونس مرة في السنة، وكانت تأتي خفية لتزور قرطاج وأهلها . ومن يراها ويقابلها تقضي له حاجته وتوقعاته، ويلتقي بها رسامنا على شاطئ رواد، فيقع في حبها ويقرر رسمها، وهو لا يعلم أنها آلهة، وعندما يستفيق تكون قد غادرت إلى معبدها في صقلية، ويكتشف حينها أنه في الحقيقة رسم صورة المرأة التي كانت تعيش معه والتي هرب منها . جميلة جداً الحكاية كتبت في البدء السيناريو في انتظار الحوار، لكن في الأثناء عينت وزيراً للثقافة، وقام فرشيو بكتابة الحوار وكانت النتيجة المعروفة . كانت لك سجالات طريفة ومهمة عبر الصحافة مع حسنين هيكل ؟ كان السجال في الواقع إختلاف في الرأي والمواقف، كان هيكل يهاجم بمعطيات فأرد عليه بحجج , في تونس كان دائماً التفضيل لأمة إسلامية على الإنغلاق في قومية عربية محدودة، تزعمتها مصر في الخمسينات، لكنها في الحقيقة تكونت على يد شكري القوتلي وجماعته في سوريا، ورأت فيها سلاحاً قوياً لمقاومة الإستعمار الغربي، وأرادوا أن يسقطوا علينا هذه المفاهيم التي ليست مفاهيمنا، نحن عرب لغة وثقافة وإسلام، لكن لا نرى في العروبة سلاحاً لفصلنا عن العالم الإسلامي، كتركيا مثلاً الذي وقع اللوم عليها لأنها ربطت علاقات مع إسرائيل، لكن العرب تسلحوا مع إنكلترا ضد الأتراك، أي مع الكفار ضد المسلمين . والقضية الثانية التي قام فيها أخذ ورد بيني وبين حسنين هيكل عبر الصحافة،هي قضية فلسطين، تبنت تونس القضية الفلسطينية منذ بداياتها، فقضية فلسطين هي قضية إستعمارية وتعاطفنا معها لم يكن من خارج العروبة، لكن التفكير أن تقسيم فلسطين هو ظلم جارح، وليس من السهل مقاومته، لأن الدولتين العظمتين كانتا تتسابقان لإحتضان إسرائيل، والوقوف ضد إسرائيل هو الوقوف ضد العالم، والمنطق هو قبول تقسيم معقول، رد علينا حسنين هيكل رداً سيارا. أنت من المعجبين بالأديب محمود المسعدي؟ كان محمود المسعدي أستاذاً ومعلم أجيال، وكاتباً ومبدعاً ومفكراً، وناشراً للثقافة ومصلحاً لنظام التعليم، وداعياً للحداثة ومناضلاً، وقيادياً نقابياً ووزيراً ورئيس برلمان، أمام كل هذه الوجوه ماذا استبطنا من آثاره المطبوعة والمعروفة، شخصية المسعدي ما زالت في حاجة إلى أن تدرس، لتبلغ درجة الإستيعاب في مراجعنا الفكرية والإنصهار فيها .محمود المسعدي صاحب خيار جمالي وثيق الصلة باللغة العربية، التي صاغها بمهارة الصائغ، يعشق خيط الذهب في تحفة العاج، ألم يكتب لطه حسين متحدثاً عن حدث ابو هريرة قال: «وأخذت من نفسي فيه بما أخذت من حمل العبارة على دقة الإشارة» لكن علينا أن نحرص أن لا نختزل المسعدي في الظاهرة اللغوية،كتب في مقدمة مولد النسيان: «إن الوجود الحقيقي لا يكون إلا بالوعي وكرامة الوجود تعني أن يكون الإنسان في حيرة السؤال الدائم وألا يكون أعمى أو راضياً كما قال: «إن من يحاول أن يكتب مثلما أكتب، لا بد أن يحيا التجارب التي عشتها والأحاسيس التي انثالت علي أثناء الكتابة ولم لا أقول والنهج الفكري الذي إخترت «لقد أدى دوره كما أراد أن يكون، وملأ حياته بما غرس وتعهد وصقل حتى أشع، ولعله من أولئك المفكرين والكتاب الذين لا سبيل إلى ادعاء معرفتهم ما لم تكن الإحاطة كاملة بما أثمروا..». يتكرر على ما أظن سؤال لماذا كتبت حنبعل بالفرنسية ؟ ما يهم هو صدق المقال. بمن تأثرت من الكتاب؟ أثناء الدراسة كنت متأثراً بالكتاب الكلاسيكيين كتولستوي وفيكتور هيجو وطه حسين وعباس محمود العقاد والزيات والمنفلوطي، وفيما بعد أندريه مالرو الذي قرأت له كل ما كتب، وأنا معجب بطريقة ما تكتب مرغريت يورسنار، وقرأت كل ما كتب جون بول سارتر، كما تأثرت كغيري بالأديب محمود المسعدي وكتاباته الرفيعة القريبة جداً من بول فاليري أو إبسن الإسكندنافي، تأثرت أيضاً بهمنغواي وجيمس جويس الإيرلندي . والموسيقى؟ من الفنون العالمية موزار وفيفالدي وفيردي وبيتهوفن، أحب الموسيقى العربية والغربية التقليدية، أنا من عشاق محمد عبد الوهاب، أحب الموشحات الأندلسية. أعرف أنك محب للشعر الأندلسي؟ نعم فهو عميق وبليغ، وفي موشحاتنا التونسية لم يلحن الترنان إلا بعض الفقرات. أي مكان للحلم بعد هذه المسيرة في الحياة ؟ ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل. والحلم اليوم ؟ إنهاء كتابات شرعت فيها ولم أفرغ منها . زوجتك صديقة ورفيقة عمر ؟ زوجتي صديقتي ورفيقة عمري، وهي تدرس الآن العربية الفصحى ومعجبة بنزار قباني.