يندفع الإنسان إلى الكتابة كهواية كممارسة شبقة تمنحه لذّة ما، يكون مفتونا بقراءات ما شعرية أو نثرية، قراءات لكتب ذات صبغة رومانسية حزينة وعاطفية، ولعلّ كتّاب جيلي افتتنوا في بداياتهم أيّما افتتان بروايات المنفلوطي المترجمة وبكتابات جبران الآسرة ثم بأشعار نزار قباني الغزلية الرائعة... وأعتقد أن الكتابة في بداياتها لا تكون إلاّ «محاكاة» mimesis محاكاة لروائع الأدب المحلي والعالمي وهي في هذه المرحلة عادة ما تكون مرآة عاكسة لواقع الكاتب العائلي والاجتماعي... إنّها كتابة تسجيلية، ألم يشبّه فرانسوا مورياك Mauriac الكاتب الشاب بالفرخ الذي إذ يكسر البيضة ويُطلّ منها يبدُو له العالمُ ذلك الفضاء الصغير المحيط بالبيضة. إنّها الفترة التي ينكر فيها الكاتب صفته: لستُ شاعرا أو لستُ قصّاصا، أنا هاو للشعر أو للقصّة... لكن الكتابة كالبرد Rhumatisme أو مرض المفاصل إذا ارتبطت بإنسان لا تتركه... يدْ منها الإنسان.. ،معها يدمن طقوسا أخرى كالقراءة، والاستماع إلى موسيقى معيّنة والاتصاف بنوع من التمرد، تمرُّد على الركود والمياه الآسنة... يفعلُ ذلك لا من منطلق الإساءة للعادات والتقاليد وإنما من باب النزق الطفولي ومن باب البراءة الإبداعية... داخل كل كاتب طفل يلهو مع الناس ومع الأشياء... وحين تُصبح الكتابة مشروعا حياتيا يراهن عليه الكاتب يعدّل إيقاع حياته عليها... في نومه ويقظته وحلّه وترحاله... يُدمن شراءَ الكتب ويصير انتقائيا جدّا في اختيارها، يُقبل على الفنون يستهلكها محاولا استغلالها نصيّا، يضيقُ باللغة الواحدة أو الاثنتين التي يتقنها، يسعى لامتلاك ثالثة ورابعة حتى يقرأ ما لا نهاية له من إبداع مختلف شعوب الكون.. وحين تُصبح الكتابة مشروعا حياتيا يبدأ الكاتب في الانتباه إلى التفاصيل، تفاصيل الحياة اليومية فيرى الواقعَ من منظار آخر... منظار من يستغلّ الواقع ليخيّل عليه،، وليستعمل رموزا خاصة به، حينها ينتقلُ إلى مرحلة «الشعرية أو Poésis» وهي مرحلة التخييل، مرحلة الخلق الحقيقية، مرحلة تكريسه ككاتب له بصمته الخاصة... وإذْ ينجحُ في فعل ذلك يكرّس نفسه (نقديا وتجاريا) ككاتب بإمكان ما يكتبه أن يفتن الآخرين. إنّها المرحلة الأصعب في منعطفات الكتابة، لأنّها تتطلب انضباطا «عسكريا»: القراءة لساعات معلومة والكتابة لساعات... يكتب الكاتب «المحترف» ساعات طويلة حتى يبقى على علاقة بالقلم والأوراق وتتكرّس عزلته أكثر فأكثر... لأن الكتابة فعل انعزاليّ بامتياز... لكأنّ الكتابة طريق الإنسان لاكتشاف نفسه وطاقاتها.. لكأنها طريق تؤدي مباشرة للعزلة حتّى لو حصد الكاتب في تلك الأثناء بعض التقديرات والجوائز.. ومهما حاولوا تسليط الضوء عليه جنح إلى الأركان المعتمة... جنحَ إلى العزلة ففيها سيدة الجميلات: السيدةُ الكتابة.