زارنا مؤخرا الكاتب والجامعي الجزائري واسيني الأعرج للمشاركة في ندوة "الربيع العربي بعيون الروائيين" وقد كان حضوره حدثا حرّك المثقفين والروائيين والقصاصين خاصة وجعلهم يقبلون على الندوة بكثافة رغم أن بقية الضيوف لا تقل أسماؤهم قيمة ولا صيتهم ذيوعا. وواسيني الأعرج هو أحد أهم الأصوات الروائية في الوطن العربي يكتب باللغتين العربية والفرنسية برمجت أعماله في العديد من الجامعات في العالم وترجمت إلى العديد من اللغات. كتب الكثير عن الثورات العربية، استبشر بها وتابع أيامها إبداعا أدبيا وصحفيا لحظة بلحظة وتوّجها برواية "جملكية آرابيا" وقارن بينها وبين ما حدث في الجزائر في نهاية الثمانينات والتسعينات وحذر العرب. "الصباح" التقته وسألته:
حوار: علياء بن نحيلة
عام مرّ على الثورات العربية وأحداث كثيرة شهدتها تونس ومصر وليبيا كيف ترى الحاضر والمستقبل؟ * أعتقد ان الثورات العربية حاليا في حالة مخاض بقدر ما هو حامل لكثير من الآمال المستقبلية، به مخاطر كبيرة وأشياء غير محسومة. جميل أن الديمقراطية استعادت بعضا من حظها في الوجود بعد أن صودرت عشرات السنين، جميل أيضا أن يجد المواطن العربي مكانته التي تليق به ولكن كل هذا لا يكفي إذ تحتاج هذه الثورات التي هي اليوم في حركية دائمة إلى أن تصل إلى برّ الأمان وان لا تتحول إلى صفقة في أيدي الآخرين يفعلون بها ما يشاؤون. إذا كانت تونس مثلا قد وجدت بعضا من مسالك الخروج من الدائرة الضيقة والخروج أيضا من دائرة الأنانيات السياسية بالخصوص لدى الإسلاميين التي أتمنى أن تكون إستراتيجية وحقيقية وليست مجرد مناورة مؤقتة، إضافة إلى الميراث التونسي المتعلق بحقوق المرأة الذي كان لبورقيبة الدور الأساسي فيه نجد ان مصر تعاني من معضلات كبيرة أهمها مسألة في غاية التعقيد، فالجيش الذي كان من المفترض ان يحقق المرحلة الانتقالية بدأ يستلذ الحكم، ولكن في الوقت نفسه وضعنا أمام سؤال معقد هو ماذا لو ترك الجيش مواقعه وسلم الكل لحكومة لا خبرة لها؟ ألا يقود ذلك إلى عاصفة الفوضى التي بدأت بعض ملامحها تلوح في الأفق؟ وطبعا لا أتحدث عن ليبيا التي يبدو مستقبلها غير واضح تماما، لان غياب الدولة فيها أدى إلى حالة شغور، عوضها من كان قويا أي المجموعات الإسلامية المسلحة التي لا تملك مشروعا واضحا في هذا السياق ولهذا المستقبل يظل معلقا بإرادة القوى الحية في بلدانها، ولكن للأسف يظل معلقا كذلك ببعض الإرادات الدولية الخارجية بمختلف إملاءاتها. أية رواية يمكن أن تكتب لتكون شاهدا على هذا العصر؟ * هي الرواية التي تكون شاهدة على العصر من حيث المبدأ، يجب أن تتوفر كل عناصر متعددة أهمها الرؤية الشمولية للحدث والقدرة على التحليل والصياغة الفنية الروائية التي لا تندرج ضمن محلية ضيقة، ولكنها تنفتح على عالمية تزكيها من حيث كونها نصا أدبيا يتناول ظاهرة عربية وإنسانية كذلك لأن ما حدث في الوطن العربي متشابك ومعقد ويحتاج إلى هذه العبقرية الاستثنائية. هل اطلعت على بعض ما جادت به قرائح الأدباء أيام الثورة وأطلق عليه اسم الأدب الاستعجالي للمهرولين نحو المطابع وهل من رأي في الموضوع؟ * هناك الكثير من النصوص -وأسميها كذلك بدون هوية محددة- التي كتبت حول موضوعات الثورة في تونس ومصر وليبيا وفي سوريا واليمن من خلال النشر الورقي أو النشر الألكتروني عن طريق الفايسبوك مثلا، وخارج حكم القيمة التي يمكن ان نصدرها على ما يسمى شعرا أو رواية أو مذكرات أو شهادات أو غيرها، تظل هذه الكتابات في نهاية المطاف تعبيرات طبيعية قريبة جدا مما حدث في الجزائر في التسعينيات، وما سمي وقتها بالأدب ألاستعجالي أي التعبير عن لحظة تغيرت فيها العلاقة مع الزمن جذريا، فالإنسان عندما يواجه الموت والصراع المرير تتشابه الرغبة في التعبير وربما للمرة الأخيرة عن كل ما يجيش بخاطره ولهذا يجب أن نكون رحماء مع هذه النصوص، لأنها في النهاية هي لحظات إثبات وجود أمام موت يختبئ في كل الأمكنة، ويبقى الزمن والنقد الحقيقي هو الكفيل بوضع النصوص في خانتها الطبيعية، وسيتفرد النص الكبير المتميز عن بقية النصوص الأخرى. الأديب كان دائما رأس حربة يقال أن ثورة تونس يتيمة أي لم تسبقها كتابات ويستنكر الأدباء مثل هذا القول ويستشهدون بكتب وروايات، ولكنهم لا يقنعون لما عرفت به الرواية التونسية من رمزية وتقيّة فما رأيك؟ * أنا أقول أن من يطلع على الأدب التونسي للجيلين الأخيرين مما كتبه الكتاب المتميزون في تونس من نصوص لها طابع نقدي مما كان يدور في المجتمع التونسي، يعرف ان هذا الكلام غير صحيح، فالنصوص التي صودرت ولم يسمح لها بالشيوع إلا تحت الطاولات وسريا من روايات ودواوين شعرية ودراسات تبين بما لا يجعل مجالا للشك بان الأديب كان دائما رأس حربة، ولا أتحدث عن الأدب المؤسساتي الذي كان يمثله اتحاد الكتاب او بعض المؤسسات الثقافية الأخرى، وإنما أتحدث عن الكتاب الذين اختاروا فعل الكتابة والمنفى أحيانا، ولكنهم ظلوا مرتبطين بقوة فعل الحرية فهؤلاء أنجزوا لنا نصوصا مهمة تستحق ان نتأملها اليوم عن قرب قبل أن نصدر الأحكام الجاهزة عن هذا الأدب. إبان أيام الثورة أنا اعرف الكثير من الأصدقاء الكتاب الذين انضموا إلى المواطنين بالمشاركة الفعلية أو بحماية مواطنيهم وأحيائهم وتحركوا كمواطنين متعطشين للحقوق المدنية والحقوق الديمقراطية قبل ان يتحركوا ككتاب.ربما ينقص الكتاب اليوم هيكل قوي يجمعهم ويسمع صوتهم، لأنه حتى في النظم الجديدة المبنية على التكتلات الحزبية والنقابية أي المجموعات المهيكلة لا يسمع لك صوت إلا إذا كنت تملك قوة التنظيم. وربما احتاج الكتاب التونسيون إلى كتابة تاريخهم بنظرة نقدية تتناول كل المعطيات التي مستهم وتضع نضالهم في مكانه الطبيعي. عرف الكتاب الجزائريون فترات عصيبة في بداية التسعينات في وقت انتظرنا فيه العكس فبماذا تنصح أدباء تونس حتى لا يلقوا مصير الأدباء عندكم؟ * ما حدث في الجزائر يختلف نسبيا عما حدث في تونس، ففي الجزائر هناك حمل للسلاح من طرف القوة الإسلامية التي حاولت فرض سلطانها بالقوة فوجدت أمامها ما بقي من مؤسسات الدولة، ووجدت أمامها أيضا مثقفا شرسا يدافع عن حقه في الوجود وفي الديمقراطية وفي الإنجاز الإبداعي الحر. ولم يكن الإسلاميون مهيئين لقبول ردة الفعل هذه، ولأنهم لا يملكون ثقافة المحاورة، ولا ثقافة لهم باستثناء ثقافة الطغيان والهيمنة المبنية على التأويل الضيق للدين، بدؤوا عملية التقتيل لإسكات الأصوات الحية ولكنهم لم يفلحوا إذ منحوا الإبداع والفن والمسرح فرصا كبيرة للقفز وللتجديد حتى ولو كان ذلك قد بني على خسارات كبيرة. ولهذا على المثقفين التونسيين أن لا يسمحوا بسرقة ثورتهم ويرتبطوا بها عضويا مهما كان الثمن الذي تفرضه مثل هذه الخيارات، فجيّد أن يكون الإنسان متسامحا، وأجود من ذلك أن يجعل من فنه وكتاباته رهانا حياتيا.. كتاباتك لا تستقر على شكل واحد وثابت، ومازلت إلى يومنا هذا تبحث لك عن سبل تعبيرية جديدة، فهل ستستقر يوما وترضى؟ * أن تكون كاتبا هو أولا حظ كبير لأنك تملك وسيلة عظيمة ربما لا يملكها أكثر البشر حظوظا من حكام وغيرهم. وبالتالي فأنت أمام مسؤولية كبيرة أمام نفسك وأمام الناس الذين يقرؤونك، لذا عليك ان تستعمل كل الوسائط التي تسمح للقارئ بأن يشعر بان هناك جديدا ما موجودا داخل نص من نصوصك لم يقرأه سابقا فعندما تستسلم للشكل الواحد فأنت تقبل بالضرورة بالموت داخل هذا الشكل. وهو ما ارفضه لسبب بسيط فاي موضوع وأية قيمة أدبية تفرض بالضرورة شروطها الفنية وعندما اكتب الرواية العاطفية والإنسانية فانا داخل نسق نفسي ولغوي خاص يسمح لي بإبراز السمات الداخلية والجوهرية الشخصية الأدبية، وعندما اكتب الرواية التاريخية فانا أمام لغة أخرى، لغة قد لا تقبل كثيرا بالاستعارة وتذهب مباشرة نحو لغة بإمكانها ان تقول التاريخ بدون ان تكون لغة للتاريخ ولكن للمحكي الأدبي. أشتغل الآن على نص جديد اسمه "أصابع لوليتا" من المفروض ان يظهر في شهر مارس في مجلة دبي الثقافية، وافريل في دار الآداب اللبنانية، وهو نص استعار الشكل البوليسي لان بنية الموضوع والمكوّن الأساسي للشخصيات وتجاربها فرض عليّ هذا النمط. ومثلما أقدس الحرية فانا أتعامل بها نحو كل الاقاص بما في ذلك الاقاص التي يفرضها النص الروائي عليّ، هذه هي خياراتي وقناعتي في ضرورة تجدد الشكل وتحسينه باستمرار وجعله متناغما متجاوبا مع الموضوع الأدبي. نص يقول السياسة والتاريخ أنت لا تردد التاريخ ولا تحاول استعادة النص، ولكنك تفرط في فرض عملية استرداد التقاليد السردية الضائعة؟ * الكتابة عن التاريخ بمنطلق لغة التاريخ تعني بساطة انك أنت ككاتب من حقك ان تأخذ المادة التاريخية وتشتغل عليها وتحركها من الدائرة الضيقة والمحشورة التي يفرضها عليها التاريخ ولقربها أكثر من الجانب الإبداعي، عندما كتبت رواية "الأمير" واجهني هذا السؤال: ماذا يمكن أن أضيف لشخصية كتبت عنها مئات النصوص، وفي الكثير من اللغات؟ فكان رهاني الأوحد هو ان أكتب عن الأمير عبد القادر رواية، أي فتح مساحة جديدة لمحاورة هذه الشخصية التاريخية بحرية كبيرة يمنحها الجنس الروائي. كانت المراهنة صعبة ومتعبة ولكنها تستحق أن نخوض المغامرة. الشيء نفسه شعرت به وأنا أكتب "جملكية آرابيا" من موقع ألف ليلة وليلة فكيف أكتب نصا يقول السياسة والتاريخ ولكن في نفس الوقت يعتمد على الميراث السردي العربي القديم من دون ان يغرق فيه، وحتى الكتابات التي لها طابع سياسي والتي كتبتها في أواسط التسعينات عن الحركة الأصولية كان الرهان السياسي حاضرا فيها، ولكن الرهان الأدبي كان هو ما يشغلني بالأساس لأن جهدي الكتابي والإبداعي يتمركز تحديدا في هذه النقطة.. السياسة مشتركنا جميعا والتاريخ أيضا والتراث ولو بخصوصية متميزة لدى كل منا، ولكن الأدب شيء آخر هو كيفية إعادة صياغة كل هذه المعطيات الموضوعية وإدراجها ضمن نسق حكائي يراهن على النص الأدبي الذي يمكن ان يحتوي كل هذه القيم إذ لا يكفي ان تكون القيم نبيلة ليكون النص كذلك. الكثير من هذه القيم فقدت معناها بسبب ضعف النصوص التي كتبت في سياقها، والتي اما ان تسقط في عملية التمجيد الفجّ او في سهولة التناول التي لا تخدم لا النص الأدبي ولا القراء، لأن القراء عندما يقدم لهم نص أدبي ضعيف يراهن على السياسي فقط ينفرون منه ويحتاجون إلى نص يمرّ عبر لغة لها درجة عليا من الحساسية تجعل القارئ يندرج في عمق النص الأدبي، وهذا هو جهد الكاتب. ألف ليلة وليلة نص ذكوري وأحادي بامتياز الدرجة الأولى؟ عدت في رواية "جملكية آرابيا" إلى الدكتاتور في ألف ليلة وليلة وكتبت شهريار بعقلية معاصرة وصرحت بأن بطلتها دنيازاد هي التعبير الأنثوي لشخصية شهريار؟ * في "جملكية آرابيا" كان هناك عمل أول على ألف ليلة وليلة كنص يمتلك تعبيرات لغوية هائلة، وبنيوية تحتاج إلى من يبحث فيها في مناخ قامت فيه ثورات شعبية، كنت أحتاج الى هذا الشغل لكتابة نص شعبي وليس شعبويا، يكون ملحميا ما أكتبه وأشتهي قوله.. وقد قرأت على هامش كتابة هذا النص الملاحم اليونانية أيضا وحاولت أن أستنبط جوهرها الذي تتحدد من خلاله مصائر البشر بشكل تراجيدي ولهذا استطيع أن أقول انني كتبت تراجيديا العصر العربي من خلال كل هذه المتكآت التي ذكرتها قبل قليل ولكن بنظرة نقدية حتى بألف ليلة وليلة التي ميزتها الذكورة أي أحادية النظرة هيمن عليها صوت شهريار الذي ليس أكثر من طاغية ومجرم وقاتل وهيمن عليه صوت شهرزاد الذي لم يكن إلا ترديدا لصوت الذكورة مستعيرا نبرات شهرزاد التي لم تنجز في الحكي فعلا مناقضا لصوت مهيمن ولهذا فألف ليلة وليلة نص ذكوري وأحادي بامتياز لكني وجدت في النص نفسه شخصية دنيازاد أختها التي منحتها فسحة حكي القصة أمام شهريار من نوع آخر هو الحاكم بأمره وهو رجل مجنون يشبه إلى حد بعيد القذافي والكثير من الحكام العرب من حيث العزلة في الحكم واليقين في القوة المطلقة، وهذه المرة دنيازاد ستحكي للحاكم بأمره أي لشهريار عصرنا ما لم يكن يريد سماعه وينتهي كما ينتهي كل الطغاة حتى الابن الذي أنجبته له كان ابنا لقيطا إمعانا في هزمه داخليا لأنها كانت تعرف مسبقا ان زمانه توقف وانه لا يستطيع أن ينجب أبدا فالعجز من هذه الناحية هو وصول هذه الأنظمة إلى سقفها النهائي ولهذا أسميتها: "جملكية" اي لا هي جمهورية ولا ملكية ولكنها نظام بليد وعاجز لا يستطيع ان يحقق أيّ شيء في النهاية وداخل الرواية هناك مصائر تراجيدية لكل الشخصيات بما فيها الشخصيات الإيجابية كشخصية "القوال" أو الحكواتي في الرواية. المرأة أذكى من الرجل بسنوات ضوئية إلى متى تبقى المرأة العربية المطية التي توصلكم الى مبتغاكم المادي والمعنوي وفرض آرائكم طبعا؟ * المرأة بالنسبة لي ليست مطية ولكنها كياني الكلي، ولا أراني خارج المرأة فيها وبها ومنها أنا كبرت وسط النساء، لأن الرجال في قريتي وقتها كانوا إما قد استشهدوا وإما قد هاجروا للعمل في فرنسا، وهذه المجاورة جعلتني أدرك الحساسيات السرية للمرأة وقوتها في الدفاع عن وجودها ولكن بوسائطها الخاصة وبذكائها الخارق. إن المرأة أذكى من الرجل بسنوات ضوئية لسبب بسيط هو أنها عبر سنوات القمع المتتالية ربت قدرا من الذكاء يسمح لها بالتأقلم مع كل الأوضاع وإيجاد الحلول التي تسمح لها بالحياة والاستمرار. إذن فالمرأة عندما أكتب عنها ليست مطية ولكنها كياني، أي أنها أنا في جانبي الأنثوي العميق، الذي يؤمن بأن الدنيا لا تقاس فقط بقوتها وجبروتها ولكن أيضا بقدرتها المذهلة على أن تكون هشة وعظيمة في الوقت نفسه.