من الخطإ الظنّ أنّ شعوبنا العربيّة تيبّست جلدتُها وبرد دمُها وذبلت رُوحها ولم تعد تتحرّك فيها لا شعرة معاوية ولا شعرة سيّدنا عليّ. ويكفينا برهانًا على هذا الخطأ أن ننظر إلى شعرة سيّدتنا الكرة كيف وقفت هذه الوقفة الدمويّة المخزية بمناسبة تنافُس مصر والجزائر على التأهّل لمونديال 2010، وكيف تقف باستمرار حتى على رؤوس المُصابِينَ بالصلَع، دفاعًا عن الفريق وعنفًا لغويًّا وماديًّا ورمزيًّا باسم حبّ الفريق. حتى كدنا نتمنّى أن يتجمّع مناصرو القدس وغزّة والحريّة والعدالة والعِلْم في فريقٍ لكرة القدم، كي نطمئنّ إلى أنّ قضايانا المصيريّة سيكون لها جماهير باسلة تخوض «أُمَّ معارك» أسبوعيًّا وعلى مدار السنة دون أن تصدّها الهراوات ودون أن ترهبها البنادق. من الخطأ الظنّ أنّ جماهيرنا العربيّة لم تعد تصنع الأبطال. ويكفينا برهانًا على هذا الخطأ أن ننظر إلى ثلاثمائة مليون حمزة (ابن عبد الكرة وليس ابن عبد المطّلب طبعًا) يستأسدون أسبوعيًّا هابطين على الكلّ بحجرٍ أصمّ أو بلكمةٍ لا تقرأ ولا تكتب، صارخين بصوتِ رجلٍ واحد: «رُدَّها عليَّ إن استطعت»، بينما الجماهير تهتف: الله أكبر. فريقنا يا دولة. يحيا الفريق. الموت لأعداء الفريق. لا صوت يعلو فوق صوت الفريق... انظروا ما أحلى هذه الشعارات وما أسمى معانيها وما أبعدها عن تلك العنتريّات القديمة التي ذهبت جفاء كالزبد: وللحريّة الحمراء باب بكلّ يد مضرّجة يُدقّ. لا صوت يعلو فوق صوت الانتفاضة. النصر للشعب المجد للمقاومة...شعارات «فوشيك» لا حول لها ولا قوّة. والدليل على ذلك أنّها لا تحرّك الجموع من أجل كسر قيودهم أو من أجل استرجاع كرامتهم، بينما تجعل منهم شعارات الكرة أبطالاً أشاوس يقفون «وما في الموت شكّ لواقفٍ» كأنّهم «في جفن الردى وهو نائم». والحقّ أنّنا مدينون بجانبٍ من هذا «الإنجاز العظيم» إلى عدد من وسائل الإعلام العربيّة المتفنّنة في «عسكرة» الخطاب الرياضيّ وتدجيجه بمفردات داحس والغبراء والبسوس. إضافة إلى إقناعها الجميعَ بأنّ «الكوّارجيّة» و«مدوّري الحزام» و«البانديّة» فرسانُ العصر ونجومه. ولو بذلت هذه القنوات جزءًا من المليون من جهدها هذا في سبيل نصرة الحريّة أو التشجيع على العِلْم أو الحثّ على التكافل مثلاً، لما بقيَ في هذه الجغرافيا العربيّة مقهورٌ أو أميٌّ أو جائعٌ واحد. ولكنّها فضّلت الكرة. وكيف لا تفعل والكرة سيّدة الزمن الكرويّ العربيّ السعيد، ومزوّدتُهُ الرئيسيّة بأوهام الانتصارات المحليّة والقاريّة والأسبوعيّة والسنويّة ونصف السنويّة وذات الدفع السنويّ المزدوج وذات الدفع الرباعيّ؟ حتى كاد يجوز القول إنّ الكرة هي المؤسّسة العربيّة الوحيدة التي تعمل على امتداد أيّام السنة الثلاثمائة والخمسة والستّين، والوحيدة التي لا تستريح حتى في اليوم السابع الذي استراح فيه الربّ؟ وكيف يُسمَحُ لها بالراحة وهي «الرقعة» الوحيدة القادرة على رتق ما انفتق من النسيج، والأداة الوحيدة لإيهام الجموع بإمكانية الانتصار على الهزائم، وفرصة الصلح الوحيدة بين «المواطنين مع تأجيل التنفيذ» وأوطانهم التي ما انفكّوا يحاولون الفرار منها «حارقين» جغرافيًّا وفكريًّا ولغويًّا؟ لقد تمّ تسييس الكرة عالميًّا وها هي الكرة تثأر لنفسها عن طريق تكوير كلّ شيء. مع خصوصيّة عربيّة: أنّ الكرة تتربّع اليوم على مشهدٍ عربيٍّ بائس لا يشاركها فيه إلاّ العضلات المفتولة وتدوير الحزام، حيث يتناغمُ مُثَلَّثُ «الفُتُوّات» والراقصين و«الكوّارجيّة» مع مثلّثِ المال والسياسة والإعلام، في سياقِ صراع عنيف ضدّ أغلبيّة المجتمع، يزداد تفشّيًا كلّ يوم في مختلف فضاءات الثقافة والرياضة وحتى في اللغة، دون وقفة حازمة، وكأنّ الجميع راغبون في تعميم العنف و«تطبيعه»، غافلون أو متغافلون عن أنّ هذا العنف ليس سوى تمارين «تسخينيّة» تنذر بعنف أخطر لن يُبقِيَ ولن يَذَر. فلتعش الكرة في موت غيرها. ولتُكملْ وسائلُ الإعلام معروفها فتدعوَ إلى تطعيمنا بدم الكرة من أجل تكوير كلّ دمٍ بارد. ولْتَحْرِص على إكمال تكوير الدماغ العربيّ المُكَوَّر أصلاً، ولكن على طريقة «دماغ» زين الدين زيدان هذه المرّة. أقصد تلك «الرأسيّة» التي دخلت التاريخ من باب كأس العالم. ولْنُدَرِّسْ ثقافةَ الرأس الزيدانيّة ولنناقش فيها الأطروحات، مصحّحين شعار «العِلْم في الرأس» على أساس أنّ الرأس المقصود هو رأس زيدان تحديدًا ومن لفّ رأسه. وماذا نفعل برؤوس منكّسة تفرقع مثل علب الطماطم الفارغة؟ على الأقلّ رأس زيدان عرف كيف ينتصر لكرامته، مردّدًا أغنية فنّاننا الراحل صالح الخميسي بشيء من التصرّف: «تكوير الدم...ولا الهمّ».