يصعب على من يجمع بين عشق الكرة وعشق الأدب والفن وأزعم اني واحد منهم الاعتراف بأن ثقافتنا العربية كلها «تكوّرتْ» بشكل من الأشكال. أغلب اهل الغناء مثلا لهم اليوم الى «الكوارجية» اقرب منهم الى اي شيء آخر. اذا لم تكن مفتول العضلات (العضلات المساعدة على الرقص تحديدا)،واذا لم تكن ماهرا في لعب Une / deux مع حزام المتفرّج وغرائزه، وبارعا في تبادل الكرة مع الكامرا، وقادرا على مراوغة الجمهور، فأنت فنان فاشل. أما اذا كنت مفكّرا او اديبا فمن سابع المستحيلات ان تنافس «نجوم» الملاعب والكليبات على واجهات الجرائد او سهرات الفضائيات، فهم يصنعون «الحدث» وانت «لا حدث» الا اذا انتقلت الى جوار ربك او اسعفك الحظ ببطولة احدى الفضائح الرنّانة، وهم جزء من ثقافة «الجو» (اقرأها على الطريقة المصرية) وانت جزء من ثقافة «الكبّي» (اي ثقافة الكآبة) التي يخشى منها على الجمهور العزيز. في اوروبا وامريكا يحدث لثقافة الترفية والاستهلاك ان تتصدّر المشهد، ولكن توجد دائما نظرة نقدية ووسائل تعديل تمكّن من تحقيق التوازن وتصحيح المسارات. توجد دائما قنوات ومؤسسات وجماهير موازية تدعم الثقافة غير المحتكمة بالضرورة الى شباك التذاكر. اما في البطاح العربية فالامر «إما طورة وإما كورة». اذا التزمنا تأزّمنا واذا تكوّرنا فإننا نتكوّر من الرأس حتى اخمص القدمين... الغريب ان الكرة لم تتربع بهذا الشكل على مشهدنا الثقافي العربي الا حين انخفض مستوى الأداء في الملاعب مقارنة بكرة القدم العالمية. ولو اقتصر الامر على هذا «الحضور الجسدي» لهان. لكنه انتقل الى مخيالنا ولغتنا واستعاراتنا اليومية. لكأن الكرة تثأر لنفسها في اللغة كلما تزايد الغدر بها في الملاعب. اقتحمت مفردات الكرة واستعاراتها الخطاب السياسي، تجلى الامر بوضوح اثناء الحرب الأخيرة مع انتشار عبارات مثل «الكابتن» العالمي الجديد، والأهداف المسجلة في مرمى «الارهاب»، و»الورقة الحمراء» المرفوعة في وجه صدام، الى آخر القائمة. الامر الذي جعل فرانسوا سرجان يدعو في «ليبيراسيون الى ضرورة التمييز بين التعليق على الحروب والتعليق على مباريات كرة القدم. لم ينج الفكر والأدب ايضا من الهجمات الكروية. العالم كرة في نظر افلاطون، وربما كان سقراط قبله وأرسطو بعده قد مارسا هذه اللعبة. كما فعلت الكرة فعلها في شكسبير وأوكتافيو باث وعزيز ناسين وإدواردو غاليانو. حضرت الكرة في كتابات هؤلاء وغيرهم بشكل رائع. ولم تتخلف لغتنا عن الركب، فقد استطاع رشاد ابو شاور وإلياس خوري مثلا، تحقيق المعادلة الصعبة. كذلك أدونيس في كتابه «الصوفية والسوريالية» وإدوارد سعيد في كتابه «خارج المكان».. لا استبعد ان نكون محظوظين بكل هذا، فقد جدد «الدخيل الكروي» بعضا مما تكلّس من لغة الكثير من ادبائنا ومفكرينا، ومنحهم شيئا من اللياقة البدنية بل لعله مكّن بعضهم مما يشبه عودة الشيخ الى صباه.. اما عن لغة التخاطب اليومي فحدّث ولا حرج. فلان «يكوّر مليح». علاّن لا يحب الجلوس «على بنك الاحتياط»... طبعا ثمّة سؤال يفرض نفسه: هل ان بين لغة الكرة ولغة الضاد حوارا وديا، أم ان الأمر يتعلق بحرب ضروس؟ الأرجح ان الخطاب الكروي (العربي) لم يتأثر كثيرا بغيره. طال بعض التغيير خطاب الصحافة الرياضية، لكن الخطاب المتهاطل من الاذاعات والفضائىات العربية بقي مستبسلا في الذود عن بكارته الكروية التي «لا تقرأ ولا تكتُب» اعترف أني نادرا ما سمعتُ معلّقا رياضيا يتنازل ويلوّث تعليقاته ببيت شعري او باحدى «الخرجات» الأنيقة، مما جعلني أُغرَمُ بمحمد بوغنيم والمنجي النصري، ففي تعليقاتهما الكثير من «الانزياح» الذي يلد المفاجأة حيث لم يعد يفاجئنا شيء. عكس ما يحدث في اوروبا وأمريكا. هناك تحوّل التعليق الرياضي الى طقس سمعي بصري حيّ، لا يقلّ جمالا وادهاشا عن غيره من الابداعات. لذلك كله نحتاج الى معرفة خفايا «حرب التكوير» هذه التي تشنّ على المشهد الثقافي العام. هل هو تكوير مبارك أم لا؟ واذا تم تكوير الخطاب الثقافي فمتى يتم تثقيف الخطاب الكروي؟ ولماذا تظل هذه الاستعارات الكروية (التي نحيا بها) من «اللامفكّر فيه» الذي لا يجد من يحلل ويتأول ويسائل؟ يقيني ان الجاحظ والتوحيدي وبديع الزمان لو أدركوا ايامنا هذه لما خلت لغتهم من هذه الظاهرة، ولأفردوا للكرة ليلة من ليالي الامتاع او رسالة من الرسائل او مقامة من المقامات... بل يقيني ان خطبة طارق بن زياد الشهيرة لو القيت اليوم لأصابها (هي ايضا) من الامر الكروي بعض الشيء، فإذا هي: «أين المفرّ البحر من ورائكم والعدوّ من أمامكم، وليس لكم والله الا الصبر.. والتكوير..».