انتقل في المدة الأخيرة الى جوار ربه أحد أقطاب الدولة الحديثة ودعامة من دعائم الحركة الوطنية عامة والعائلة الدستورية خاصة، هو المناضل الكبير فقيد تونس المغفور له الرشيد ادريس الذي نذر حياته كلها لخدمة بلاده قبل ان يوافيه الأجل المحتوم، وكل نفس ذائقة الموت. والحديث عن مسيرة الفقيد وحياته النضالية التي بدأت منذ نعومة أظفاره أمر تناولته الأقلام في مناسبات سابقة وبطرق شتى، الا أن هذه الشخصية المتميزة جديرة بأن تكون محل دراسة على منابر الشباب كي يستشف منها الشباب التونسي معاني رفعة الأخلاق والعزة والتواضع وتستفيد منها الأجيال الصاعدة أن البذل والعطاء والتضحية لا ترتبط بسن معينة وأن لكل جيل رسالة ورسالة الجيل الحاضر الحفاظ على مناعة الوطن والاسهام بحماس واخلاص في معركة التنمية التي تخوضها البلاد لتحقيق نهضتها وازدهارها. لقد تعرفت على الفقيد مباشرة وعملت الى جانبه سنوات طويلة عندما التحقت به أولا بجريدة العمل لسان الحزب ثم بديوان الوزير بكتابة الدولة للبريد لما أسندت إليه شؤونها... وفي الموطنين لمست ما كان يتمتع به الرجل من مناقب وخصال يضاف إليها ما كان يتحلى به أيضا من حماس المناضل الصادق الذي لا تعنيه سوى المصلحة العليا للوطن، ذلك هو الرشيد الذي أخذت عنه الشيء الكثير وأعجبت بوطنيته الجارفة وبما اختص به من رؤيةواضحة ونظر بعيد. لقاء ونضال التقيت به للمرة الاولى لدى انضمامي الى أسرة تحرير جريدة العمل التي كان يديرها... وكان عليه أن يواجه الحملة المسعورة ببعض الصحف ضد اتفاقيات الحكم الذاتي بدعوى أنها تمثل خطوة للوراء... وفيما كانت بوادر الفتنة تظهر في الأفق كان غلاة الاستعمار يواصلون من جانبهم الاعتداءات على الوطنيين وعلى مقرات الشعب الدستورية هنا وهناك حتى امتدت أيديهم في احدى الأمسيات الى صحيفة الحزب بنية إخماد صوتها الذي بات يضايقهم، فهاجموا مقرها المنتصب مؤقتا في مكاتب جريدة «تونس سوار»« بنهج البروفانس وهناك حاولوا إضرام النار في العمارة بأكملها فتدخلت قوات الشرطة وكانت حتى ذلك الوقت بيد الفرنسيين، وألقت القبض على أسرة العمل وفي مقدمتها الفقيد الذي بقي محافظا على تجلده واتزانه رغم سيل الشتائم والاهانات التي صاحبت العملية واقتادت الجميع الى غرف الايقاف بادارة الأمن (وزارة الداخلية حاليا) وكان يطل علينا من حين لآخر بعض زبانيتهم، هذا يتميز غيظا ويرشقنا بمفردات تنبئ عن مستواه، والثاني يتوعدنا بالشر المستطير وسوء المصير، وعند الفجر جاءت التعليمات باخلاء سبيلنا وكنا في حالة من الانهاك والانفعال الا أن الفقيد أصر على العودة الى العمل لاستئناف اعداد الصحيفة مؤكدا على ضرورة عدم توقف صوت الحزب لحظة واحدة في ذلك ا لظرف العصيب! وقد تحولت تلك الحادثة بعد سنوات عديدة الى حفل جمع بين الطرافة والسخافة ولكن الحديث عنه في هذا المقام غير مناسب. وعند تشكيل أول حكومة في عهد الجمهورية أسندت للفقيد كتابة الدولة للبريد فدعيت أنذاك للعمل معه من جديد عضوا في ديوانه ثم رئيسا للديوان. استلم الوزارة وكان ثالث الوزراء الذين تداولوا على البريد منذ الاستقلال، لكنه أخذ الامر بحب المناضل الذي عهدت اليه مهمة حزبية للتقدم بهذا القطاع نحو الأفضل لخير البلاد فحقق في وقت قياسي من الانجازات الهامة ما لم تعرفه الوزارة من قبل، وكان أول همه أن يعمل ما في وسعه كي يشعر المواطنون بوقع المتغيرات الحاصلة في تونس على حياتهم الخاصة وأن يلمسوا ذلك في معالجة الادارة لمشاكلهم والاستماع الى طلباتهم، لأنه كان يؤمن بأن من حقهم جني ثمار التغيير الذي ساهموا في تحقيقه بمشاركتهم في النضال بطرق شتى حتى بلغت البلاد الى ما هي عليه من حرية ومن انتقال السيادة الى الشعب. لذا نراه يعمد منذ البداية الى اقحام لغة البلاد في قطاع كان يعتبر منذ القدم فرعا من شبكة عالمية تساهم بالخصوص في تسهيل المعاملات التجارية والنشاط الاقتصادي عامة الى جانب ما توفره من اتصالات في تسهيل المعاملات التجارية والنشاط الاقتصادي عامة الى جانب ما توفره من اتصالات انسانية مع القارات الاخرى... وبهذا الاجراء الذي شكّل في حد ذاته شبه ثورة بالنسبة لهذا القطاع أصبح بامكان المواطن ان يتعامل مع بريد بلاده بلغتها العربية في كل ما يحتاج اليه من خدمات بريدية وبرقية دون حاجة الى وسيط. كما حث الاطارات المسؤولة بالوزارة على الاستماع الى تشكيات المواطنين وفض مشاكلهم بأسرع وقت وبمعالجة لائقة... وفي محاولة لتمكين الطبقات الشعبية من الاستفادة بمزايا الهاتف في الحالات المستعجلة أنشأ غرفا للهاتف العمومي بمختلف الأحياء وأصر على بقائها رغم ما أصاب بعضها من التلف، وهي العملية ذاتها التي نراها اليوم منتشرة في شكل مراكز حديثة ومتطورة للهاتف العمومي في كافة الأحياء، فكان له في ذلك فضل السبق. وكان في الأثناء يعالج الوضع المتردي والمتمثل في العدد الضخم للمتعاقدين الاجانب مع الوزارة وفي العجز المزمن الذي تشكو منه الميزانية الملحقة وكذلك في ضرورة تجديد شبكة الهاتف الاوتوماتيكي والزيادة في طاقة استيعابها. كل ذلك واجهه بحكمة وروية فسرح دفعة أولى من الخبراء مؤكدا للمهندسين التونسيين ان التعاقد ينبغي ان يكون وضعا استثنائيا تلجأ اليه الادارة لفترة زمنية معينة وبعدد محدود لأن السيادة لا تكتمل الا متى كانت المسؤولية بيد أهل البلد وحدهم. نهاية حقبة وبفضل الاستغناء عن ذلك العدد الكبير من الخبراء امكن له في مرحلة أولى تقليص عجز الميزانية الذي كان يمثل بالخصوص عائقا يحول دون التفكير في ادخال أي تطوير على الاجهزة الهاتفية فعمد بموافقة الحكومة الى التعاقد بتمويل ذاتي من ميزانية الوزارة مع شركة سويدية تولت تجديد المجمعات الهاتفية المركزية الثلاثة بالعاصمة، وجهزتها بأحدث الآلات، وهو انجاز كان بعيد المنال فأصبح حقيقة تطورت الشبكة بفضله وأمنت خدمات جيدة تليق بمستوى تطور البلاد. وفيما كانت الاشغال متواصلة كان همه مركزا على تكوين الاطارات في الداخل والخارج استعدادا للتخلص من بقية الخبراء الاجانب الذين أثقلوا الميزان طيلة سنوات بدون حاجة ماسة إليهم. ولما ظهرت شبكة الجوسسة الفرنسية كان الوزير يتابع الأبحاث بنفسه لحظة بلحظة الى أن تم القضاء عليها وانتهى الحضور الاجنبي بمصالح الوزارة وانتهت معه عقدة الاجنبي بغير رجعة، واستلمت الاطارات الشابة مسؤولياتها فعوضت آخر المتعاقدين بكفاءة تامة. لقد جاءت الأحداث لتؤكد ان الوزير كان محقا في عدم الاطمئنان لوجود متعاقدين أجانب بهذا العدد الكبير، وقد كان طلب منذ البداية اجراء فحص كامل لكافة الخطوط الهاتفية بما فيها «الكابلات» الموجودة في بطن الأرض ثم قام بتسريح العدد الآخر من المتعاقدين وشرع في تكوين اطاراته لايمانه بأن الاستعانة بالأجنبي في القطاعات الحيوية من شأنها ان تتحول الى مجازفة غير مأمونة العواقب وبخاصة إذا كانت العملية تؤخذ ببساطة على أنها من الحلول السهلة التي تقوم مقام التكوين المطلوب. وقد وعدت الوزير باعداد كتيب حول هذه القضية الخطيرة كي تبقى حية في الذاكرة الوطنية وعبرة للأجيال في المستقبل غير أن بعض الصعوبات حالت للأسف دون الوفاء بالوعد. وعلى ذكر الانصات الى المكالمات الهاتفية يحضرني أن الفقيد سئل يوما أثناء ندوة تاريخية عما إذا كانت توجد مراقبة على خطوط بعض المعارضين فأجاب بالنفي التام. وشعوري أنه امتعض بلا شك في قرارة نفسه من سؤال يشكك في نزاهته واخلاقه... وللتاريخ أؤكد من موقعي الذي كنت أشغله في ذلك الوقت أنه لم تكن توجد ممارسات من هذا النوع في عهد الفقيد ولا حتى في عهد خلفه الأخ نجيب البوزيري الذي عملت معه هو الآخر. وعندما اندلعت معركة بنزرت ظهر تأثير الفقيد جليا في نفوس عموم البريديين فكانوا يتسابقون للقيام بما يطلب منهم غير عابئين بالأخطار ولسوف يذكر التاريخ باعتزاز مساهمته القيمة في ذلك المجهود وقد أثنى أحد المسؤولين على وزارة البريد لتخلصها من الاجانب كي تقوم في تلك المعركة بما يجب ان يقوم به كل وطني يغار على بلده. هذا، ولا أتحدث هنا عن طوابع البريد التي جعل منها لوحات فنية من تصميم أشهر رسامينا لتجوب العالم بأسره معرفة بالوجه الجديد المشرق لتونس الحديثة وبرجالاتها في مختلف المجالات وبأعيادها ومحطاتها الوطنية والأدبية، ولا اتحدث كذلك عن النشاط الذي أدخله بالوزارة على الحياة الثقافية والاجتماعية او عن رعايته للأعوان وتحسين أوضاعهم المهنية والمادية الى درجة أنه في آخر مؤتمر لجامعة البريد عبر العمال عن تقديرهم لمجهودات وزيرهم وهو الذي رأوا فيه حسب قولهم الأجدر برئاسة الجامعة لو لم يكن عضوا في الحكومة، رغم ان تعيينه قوبل في بداية الأمر من طرف البعض بشيء من الاحتراز. ورغم ما حققه من انجازات ونجاحات فقد كان يتعرض بين الفينة والأخرى الى مناورات من تدبير بعض محترفي الصيد في الماء العكر للاطاحة بمن يترفع عن الدوران في فلكهم قصد افساح المجال لأتباعهم كي يرتقوا الى مناصب لا تعنيهم منها مسؤولياتها وتبعاتها بقدر ما تستهويهم منافعها وفوائدها. إلا أن الوزير كان يواصل مهامه بثبات دون أن يكترث بهم أو يقيم لهم وزنا لأنه كان من طينة المناضلين الذين لا يهمهم من أمرهم الا ما يفيد الوطن والعباد تاركين حسابات المكسب والخسارة لأرباب الصناعةوالتجارة. ذلك هو الرشيد الذي نعته المروءة قبل أن تنعاه أسرته وبكته المناقب قبل أن يبكيه الأقارب وافتقدته ساحة النضال قبل أن تفقده العائلة الدستورية جمعاء. لقد كان في حياته كثير السفر وفي هذه المرة واجه سفره الاخير تاركا وراءه متاعب الدنيا ليأخذ نصيبه من الراحة شأنه شأن المحارب بعد المعركة، وقريبا يكون اللحاق به وليس لنا رجاء آخر سوى ان يتقبله العلي القدير ويتقبلنا معه بعطفه ولطفه واحسانه وأن يغمره ويغمرنا بعفوه ورحمته وغفرانه إنه السميع المجيب.