لم تهدأ علاقة الرئيس السابق الحبيب بورقيبة بالمحامين إطلاقا، حتى بعد مماته، إذ لم تكن علاقة عادية بل كانت دائمة التوتر واستثنائيا مستقرّة مع بعض الأشخاص من المحامين دون سواهم، ثم تواصلت مواضيع نقاشات ومطارحات وندوات منها الشهادات التي تمّ تقديمها السبت الماضي بمؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات وعنوانها مهنة المحاماة في عهد الرئيس بورقيبة». الشاهدان هما الأستاذان سمير العنابي والشاذلي بن يونس، وقد أثرى الشهادتين شخصيات مثل البشير بن سلامة الوزير السابق في عهد الراحل بورقيبة والبشير الخنتوش المحامي والمسؤول السياسي السابق ومحمد بالحاج عمر الأمين العام السابق لحزب الوحدة الشعبية ونزيهة لكحل عياط المحامية وغيرهم.. المحامون والحركة الوطنية وكانت شهادة الأستاذ سمير العنابي المحامي وابن القاضي محمود العنابي مستقطبة للاهتمام والانشغال إذ بدأ بسرد أحداث عاشها أشخاص حدّثوه عنها أو حصل على وثائق حولها، وقال إن الحركة الوطنية كانت تضمّ أسماءها البارزة من المحامين مثل صالح بن يوسف والطيب المهيري والهادي نويرة وأحمد المستيري، وان الحكومة الأولى ما بعد الاستقلال كانت تضم عددا هاما من المحامين مثل العميد شقرون الذي كان وزيرا للشؤون الاجتماعية والطيب المهيري وكان وزيرا للداخلية وتواصلت تلك العلاقة إلى حدود الثمانينات مع حكومة محمد مزالي وكان للمحامين خلال مسيرة الكفاح الوطني ودولة الاستقلال نشاط مهني وصحفي وسياسي. وأضاف الأستاذ العنابي بالقول إن المحاماة دخلت في أزمة فعلية مع الرئيس بورقيبة سنة 1961 اثر سجن عميد المحامين الشاذلي الخلادي. محاكمة عميد المحامين جاءت رواية سجن العميد الخلادي متفقا عليها من كل من قدّم شهادته، ومفادها بأن خلافا نشب بين بلدية تونس واليهودي سمادجة صاحب «الكازينو» الموجود في بلفيدير عندما أرادت البلدية انتزاعه مقابل سعر رمزي جدا، ونشرت القضية أمام القضاء، وكان العميد الخلادي ينوب عن سمادجة في حين ينوب البلدية المحامي لمين بلاغة، وأثناء المرافعات قال الخلادي ردّا على المبلغ الزهيد الذي اقترحته البلدية «هل تريد الدولة أكل أملاك الناس» وقد بلغ ذلك بورقيبة فطلب من القاضي تحرير تقرير في الغرض وانتصبت المحكمة لمحاكمة العميد الشاذلي الخلادي وقضي بسجنه لمدة ستة أشهر نافذة وتمّ تأييدها استئنافيا. بورقيبة بعد أن حلّ هيئة المحامين وسجن عميدها نصّب عبد الرحمان عبد النبي على رأس لجنة لإدارة مصالح هيئة المحامين وكان معه في الهيئة محمد مقني ومختار معرّف وعزوز الرباعي ومحمد النفطي والعربي الغمراسني والهادي خفشة ولمين بلاغة وتوفيق بالشيخ، وتواصلت تلك اللجنة من سنة 1961 إلى سنة 1965، وتمّ تنصيب الأعضاء على أساس الولاء لبورقيبة والسلطة وحسب شهادة الأستاذ الشاذلي بن يونس فإن التنصيب والتعيين تواصل إلى سنة 1983 وتمّ انتخاب أول عميد بالصندوق ودون تدخل من السلطة وكان العميد منصور الشفي. مقال: «Le Bateau Ivre» وحسب الأستاذ العنابي وبقية الشهادات فإن أصل الخلاف بين بورقيبة والخلادي يعود إلى مقال كتبه الخلادي وعنوانه: «Le Bateau Ivre» انتقد فيه بورقيبة ونُشر بصحيفة «La charte tunisienne» فاغتاظ من الأمر ولم ينس المقال. وقد روى الأستاذ بن يونس، بأن بورقيبة زار قصر العدالة أثناء عمادة منصور الشفي سنة 1983 وسأل عن العميد الخلادي (الذي انتفت أخباره بعد سجنه سنة 1961) وطلب بورقيبة من الشفي أن يستدعي في السنة المقبلة العميد الخلادي، الذي لم يحضر إلا في السنة الثالثة بعد إلحاح من الشفي، وتم تنظيم الصفوف وتقدّم العمداء السابقون شقرون والخلادي والكعاك لمصافحة بورقيبة وعندما وصل بورقيبة لمصافحة الخلادي قال له: «يا عميد هل تذكر مقال «Le Bateau Ivre» فأجاب الخلادي: «لم تنس بعد» عندها قال له بورقيبة غاضبا «ما تحشمش» فردّ الخلادي «ناديتلي باش تسمّعني الكلام، أنت اللّي ما تحشمش» فأمسك مزالي بورقيبة من الخلف وتقدّم به فيما تدخل الشفي لتهدئة العميد الخلادي، وتقدّم بورقيبة خطوات ثم التفت الخلادي وتوجه نحوه بكلام جارح باللغة الفرنسية. وقد أكد الواقعة المحامي البشير الخنتوش بكل تفاصيلها لكنه نفى أن يكون الخلادي أجاب بورقيبة بالقول: «إنت اللّي ما تحشمش» لكن الأستاذ بن يونس تمسّك بالرواية وقال أنه حضرها شخصيا وله ما يفيد. اسأل عن المرأة كان بورقيبة والخلادي صديقين قبل الاستقلال وفي بدايته وكان يجالسهما بوصفارة وتواصلت لقاءاتهم إلى حدود سنة 1959. وقال الأستاذ بن يونس لقد روى لي العميد الخلادي بأن بورقيبة تعرّف على زوجته الأولى ماتيلدا عن طريقه هو في باريس بعد أن وجهه معلمه برسالة وكان بورقيبة في علاقة مع وسيلة بن عمار التي طلّقت زوجها علي بن الشاذلي، والتي اتصلت بالباهي لدغم ليضغط على بورقيبة من أجل الزواج بها فأشار عليها بالخلادي لأنه صديقه وفعلا توجهت للخلادي وفاتحته في الموضوع. وحسب الشهادة، فإن الخلادي لم يعط أهمية للموضوع، بل ونقل عليه كلام لم يقله جعل وسيلة تكرهه وهي التي ستكون زوجة الرئيس لاحقا، وقال الأستاذ بن يونس في الخلاف اسأل عن المرأة، ورغم التوتر الذي حصل بين الرجلين إلا أن بورقيبة لم ينقطع عن البحث عن أخبار الخلادي وأحوال صحته وكان في آخر عهده يزوره بمنزله في ضاحية سيدي بوسعيد خلال جولته اليومية على قدميه وهو ما أكده الأستاذ البشير الخنتوش وكذلك الأستاذ سمير العنابي. بورقيبة وزوجة الباي الأستاذ العنابي قال في شهادته بأنه كان لبورقيبة صنفان من المحامين من خصومه، المجموعة الأولى وسماهم «الغرانطة» وهم من جماعة الحزب القديم من بينهم أحمد الكبلوطي والصنف الثاني خلال الفترة الانتقالية، وهم اليوسفيون وأبرزهم صالح بن يوسف والصادق بوهلال وعمار الدخلاوي... وقال صاحب الشهادة ان أغلب المحامين والقضاة كانوا متعاطفين مع صالح بن يوسف، لذلك حاكم بورڤيبة العديد منهم مثل عمار الدخلاوي الذي لفقوا له قضية متعلقة بالنفقة لأنه طلق ابنة أخ بورقيبة وكذلك عزوز الرباعي والطاهر لخضر الذي رضي في آخر أيامه بوزارة العدل. وقال الاستاذ العنابي «إن الوحيد الذي لم يذكر اسمه بورقيبة اطلاقا، لا خيرا ولا شرّا هو مصطفى الكعاك» الذي لم يكن رجل سياسة ولكنه كان ناشطا اجتماعيا ورئيسا لفريق الترجي الرياضي التونسي وتم انتخابه سنة 1947 عميدا لهيئة المحامين الفرنسيين بتونس ولم تتجاوز عمادته أكثر من أسبوع اذ عرض عليه منصب الوزارة الاولى فوافق رغم معارضة الحزب لذلك، وبقي منبوذا ومعزولا من قصر الباي ومن الديوان السياسي للحزب قبل ان يقال من منصبه، وروي بأن الحبيب بورقيبة دخل على الباي ولكن زوجة الباي لم تقف له فقال لها بورقيبة «قُوم.. قُوم.. يا للاّ.. تحسابها حكومة الكعّاك». إزالة مكتب صالح بن يوسف الشاهدان أكدا بأن بورقيبة أمر بإزالة مكتب المحامي صالح بن يوسف الذي كان قبالة مكتبه بباب سويقة وذلك تحت عنوان تهيئة النفق، وقال الاستاذ الشاذلي بن يونس ان صالح بن يوسف مارس المحاماة أكثر من بورقيبة ففي الارشيف لم يعثر لبورقيبة المحامي الا على قضية وحيدة نودي فيها على اسمه لكنه لم يحضر، وقد نقل عن بعض المحامين القدامي بأن من أبرز القضايا المتعلقة بنزاع عقاري تم فيها تكليف الأستاذ الحبيب بورقيبة المحامي لينوب أحد الطرفين فتوجه الى الخصوم واستدعى الطرفين بمكتبه وأصلح بينهما دون ان يتسلم ولو مليما واحدا. ولم يعرف لبورقيبة نشاط يذكر في المحاماة بل عرف كصحفي ورجل سياسة، وأجمع الحاضرون على أنه كان دائم الاهتمام بقضايا المحامين وكان يجلس الى أعضاء مجلس الهيئة والعميد ويتبادل معهم وجهات النظر، ومن فرط اهتمامه بالمحاماة وخلافاته مع العميد الخلادي سجنه وتم الانقلاب على هيئته وتنصيب هيئة أخرى الى حدود سنة 1983 حيث عاد القرار للمحامين وتم انتخاب منصور الشفي بكل استقلالية، والتجديد له لأربع نيابات متتالية وهو ما لم يحصل طيلة تاريخ المحاماة. منصور الشفي والمنعرج التاريخي من أبرز العمداء الذين يعتبرون معينين هم علي بالشيخ الذي حوصر في باريس أثناء أحداث 1968 وباشر نيابة عنه عزالدين الشريف الذي نشط كثيرا في صائفة سنة 1968 خلال محاكمة جماعة آفاق اليسارية (برسبكتيف) اضافة الى محمد شقرون ومحمد بللونة الذي عينه بورقيبة سابقا مدّعيا عاما في المحكمة الشعبية لمحاكمة «المشاغبين» والمقصود بهم أنصار صالح بن يوسف وفتحي زهير ولزهر لقروي الشابي، وكان التعيين أحيانا باختيار مرشح وحيد يتم تزكيته من القصر وانتخابه، ولم تقع القطيعة الا مع العميد منصور الشفي حيث بدأت مرحلة جديدة من تاريخ المحاماة. وقد حاول بورقيبة ازاحته وتعيين الخنتوش عوضا عنه لتحدثه عن استقلالية القضاء في صحيفة الحياة الا ان الخنتوش قال انه رفض الموافقة على الانقلاب. وقد نقل عن الشفي بأن بورقيبة كانت تصله مطالب العفو عن المحكوم عليهم بالاعدام الذين أنهوا كل مراحل التقاضي، فيطلب حضور المحامي للترافع أمامه وعرف عنه اطلاعه الدقيق بتفاصيل الوقائع والقوانين المؤطرة. بورقيبة والاعدام وقال الاستاذ العنابي وأيده البشير بن سلامة وزير الثقافة في عهد بورقيبة وكذلك المحامي البشير الخنتوش بأن بورقيبة لم يعف في حياته عن محكوم عليه بالاعدام باستثناء ڤيزة والماطري في قضية انقلاب سنة 1962، كما أصدر لاحقا عفوا لفائدة عشرة أشخاص في أحداث انتفاضة الخبز، وما عدا ذلك كان دائما مؤيدا لحكم الاعدام. وقال البشير الخنتوش ولم يعترض عليه احد وسانده الشاهدان بأن المحامين ساهموا بشكل سلبي في قضيتين، قضية ما يعرف بالمؤامرة وقضية أحداث قفصة، حيث لعبوا دورا سيئا ولعبوا دور «المغرّق»ولم يدافعوا عن العدالة بل ورّطوا المتهمين. وكان بورقيبة حسب كل الشهادات متصلا متعلقا بالمحاماة التي يعتقد بأنه أحبها ولكنه لم يمارسها كما مارس الصحافة والسياسة وحتى التمثيل، ألم تكن العديد من المواقف والاحداث شبيهة بما يجري في المسرح؟!