كثر الحديث في الآونة الاخيرة عن أنفلونزا الخنازير وهي حسب عقلية المؤامرة التي تستبدّ بي وبأغلب المثقفين العرب تقدّمييهم ورجعييهم نتاج المخابر الامريكية والاسرائيلية. وإذا ما أردت تضخيم مفرداتي أكثر قلت هي صناعة صهيونية جديدة (ليعلم المثقفون العرب أننا لسنا أندادا للولايات المتحدةالامريكية وحتى لاسرائيل لنكون مركز الاهتمام الوحيد لرأس الامبريالية في العالم). هذه العقلية قد تصيب التخمين في بعض الاحيان ولا يعود ذلك الى طريقتها العلمية في التحليل بقدر ما يعود الى طبيعة رأس المال ومنطقه البراغماتي الذي لا يترك لمحلل المشهد مهما كان ساذجا من مجال سوى اتهامه، ولا غرابة في ذلك فتعلّقه بالربح الاقصى مكيانيكي وتحكمه في السياسة العالمية باد للعيان بحيث لا يمكن أن نفهم أي ظاهرة دون تدبّره. والحقيقة أن هذه الانفلونزا قدمت لنا الحجة الدامغة على أن نصيب الشعوب الفقيرة من العولمة لا يتعدى الاوبئة والمصائب والفواجع إذ لا حق لهذه الشعوب في أن تصاب بداء الديمقراطية وآفة العدالة الاجتماعية وفيروس الابداع لكنها في المقابل تنال حصتها كاملة من الموت والخراب. إذن فلنسمّها مبدئيا عولمة الموت والخراب. وكرد فعل على الانفلونزا سجلنا من خلال وسائل الاعلام موقفين على غاية كبيرة من التباين. الاول يبالغ في تقدير خطورتها باعتبارها فيروسا يهدد شريحة كبيرة من البشر هم الاطفال والشيوخ والمرضى (وهم على ما أعتقد الاغلبية) أما الموقف الثاني فلا يرى فيها إلا نزلة برد عادية لا تزيد خطورتها عن مثيلاتها في السنوات الماضية. وهو موقف على عكس الاول يدعونا الى التعامل مع الفيروس برصانة بعيدا عن الجعجعة الاعلامية. وفي هذا الاطار نشير الى أن المحللين من أهل الاختصاص أرهقوا الناس بتقويمهم المتناقض للتلقيح الجديد فبعضهم ألحّ على خطورته على خلفية المضاعفات التي سُجّلت في حالات عديدة، والبعض الآخر أكد مأمونيته على أساس أن هذه المضاعفات لم تبلغ النسبة التي تجعل من هذا التلقيح خطيرا. إضافة الى ذلك برهن أصحاب هذا الرأي على أن المضاعفات الجانبية التي تعرض لها قلة من الذين أقدموا على التلقيح مردها ليس التلقيح ذاته إنما عوامل صحية دفينة لدى المصابين. وبعيدا عن هذه التحليلات التي لا يمكن البت فيها إلا في حضرة المختصين ينبّه البعض الى أن هذه الانفلونزا ليست بالخطورة التي تصفها بها وسائل الاعلام وذلك انطلاقا من ثقتهم في تقدير الاوروبيين حكومات وشعوبا للانسان. فلو كانت هذه الانفلونزا خطيرة حقا لتحركت الشوارع الاوروبية بصورة فعلية وحاسمة، غير أن مثل هذا القول لا يعني البتة أن الاوروبيين لم يقلقوا جرّاء هذا الوباء بل العكس هو الصحيح، فالنقاشات والسجالات التي تدور في الصحافة وعلى صفحات الانترنيت حول الفيروس وتأثيراته حادة جدا. إلا أن هذا القلق لم يرتق الى اعتبار أن أنفلوزا الخنازير مشكلا حقيقيا ومرعبا. والواقع أن هدوءا نسبيا مماثلا سجلناه في تعامل الشعوب العربية مع المرض ولا أظن مصدره الوعي بملابسات الفيروس كما هو الامر في الغرب وإنما هو نتيجة عقلية استسلامية انهزامية ترسخت عبر أحقاب طويلة. فهذه الشعوب المسكينة قد تتالت عليها الانفلونزات الواحدة تلو الأخرى. ونذكر منها على سبيل الذكر لا الحصر: الاستبداد، الفقر، التبعية... ولم تعرف من سلوك تجاه هذه الفيروسات سوى الارتماء في أحضان القضاء والقدر أو ما يعبّر عنه في عامّيتنا بالمكتوب متناسية أن التسليم في الدّين لا يعني إطلاقا أن نلقي بأيدينا في التهلكة (هذه الفكرة يؤكدها علماء الدين المعتدلون). وإذا ما أردنا تفصيلا للمسألة نشير الى أن السواد الاعظم من الناس يجب أن يكفّوا عن المزايدة بالقضاء والقدر في التعامل مع المرض وأن يحتاطوا منه بالوقاية. ولا أعتقد أن طريقتهم في التعاطي مع الفيروس تكشف عن شجاعة بقدر ما تميط اللثام عن يأس كامن فيهم فقوّتهم هي قوة يأس وليست قوّة إيمان، لأن المؤمن الحقيقي هو الذي يؤمن بالحياة ويصبر إذا كان الموتُ! هذا من منطلق ديني أما من منطلق علمي فلا مناص من اتّباع توصيات المختصين لتجنّب أو للحد من خطورة هذا الوباء. وإذا ما طلب منّي (لن يطلب منّي أحد) أن أتمنى فليس لي من أمنية إلا أن تصاب الشعوب العربية بفيروس الوعي: الوعي بتخلّفها وجهلها، الوعي بمعاناة الشعب الفلسطيني وما يعيشه من ميز عنصري بغيض، الوعي بالمخططات الهدامة التي تحاك ضدّ الشعب العراقي باسم الديمقراطية والتسامح والانفتاح، الوعي بأن مباراة في كرة القدم لا يجبُ أن تنسينا جراحنا ونذكر في هذا الإطار أن ما شهدناه على هامش مباراة كرة القدم بين مصر والجزائر لا يشرف الشعبين (مصر اخناتون، الظاهر بيبرس، محمد علي، جمال عبد الناصر، نجيب محفوظ، أحمد زويل، أم كلثوم، أمل دنقل، الشيخ إمام، أحمد فؤاد نجم، أحمد زكي.. والجزائر بلد الكفاح الطويل من أجل (الاستقلال) ولكن هذا الفيروس لا أعتقد أن مصدره ستكون المخابر الأمريكية أو الاسرائيلية وإنما عقول المثقفين العرب لكن هيهات هيهات فهؤلاء المثقفون قد قرروا عن طواعية إما العزلة والتهويم في الأبراج العاجية أو الانخراط في السائد المقيت والنوم العميق على عتبة المنطق والمصلحة والواقع وسائر المصطلحات التي تدور في فلك البراغماتية. أعرفُ أنّها أمنية صعبة المنال ككلّ الأمنيات وصعوبتها لا تتأتى من طبيعتها وإنما تتأتى من غطرسة قوى الظلام في الوطن العربي تلك التي لا تملك من قوّة سوى وأد الوعي وإبادته. وفي خاتمة تجوالنا في رحاب الأنلفونزا أريد أن أسأل أولئك المشعوذين الأفذاذ الذين أفسدوا علينا شبابنا وشيبنا والذين يمتلكون لكلّ داء دواء بحكم معرفتهم بأسرار الكتب المقدسة واطّلاعهم على ما تيسّر من الغيب. لماذا لا يجتهدون ليوفروا تلقيحا ينقذ البشرية من هذا الوباء ولهم ما شاؤوا من الدولارات أم أنهم ينتظرون انتشاره ومن ثمة انتشار اليأس (تربتهم الخصبة) حتى يخرجوا علينا بتمائمهم وتعويذاتهم ومستحضراتهم الغريبة (علماء الدين المعتدلون يثقون في العلم من وجهة نظر معينة). هكذا نتبيّن أن الأنفلونزا وما أحدثته من ضجة ليست مجرّد فيروس، إنها مرآة تكشف عن حقيقة المشهد السياسي والاقتصادي في العالم. وعن طبيعة تفكير المواطن العربي الذي مازال يتعامل مع الأشياء بمزاجية، فهو إما مغال في الخوف وإما مبالغ في اللامبالاة وهي إلى جانب ذلك تمثل الوجه الحقيقي للعولمة: عولمة الموت والخراب. (هذه النتائج تتطلّب تحليلا أعمق يضيق عنها هذا المجال). السيد التويّ (أستاذ في اللغة والآداب العربية)