خمس سنوات من القطيعة والعداء بين سعد الحريري ودمشق احتاجت فقط الى 25 دقيقة، هي مدة الرحلة الجوية من بيروت الى دمشق، لكي تطوي صفحتها بكل مراراتها وجروحها عندما توفر القرار السياسي والارادة الجادة.. هكذا علقت صحيفة «السفير» اللبنانية على الزيارة التاريخية التي أداها رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري الى سوريا، لكن مرحلة ما بعد هذه الزيارة لن تتطلب الارادة السياسية فحسب ولن تحتاج الى 25 دقيقة فقط بل ستكون رحلة طويلة مضنية على طريق مزروعة بالألغام والأشواك تزيدها أطماع الأعداء ومصالح القوى الاقليمية والدولية عسرا وتعقيدا، فهل أسست زيارة الحريري قاعدة صلبة لخوض هذه الطريق أم أنها كانت مجرد إجراء بروتوكولي للاستهلاك السريع لا يقوى على مجابهة وتصريف الكم الهائل من القضايا الشائكة والعالقة بين البلدين؟ معظم المراقبين أكدوا أن الزيارة أقفلت بالفعل ملفا من ملفات الصراعات العربية التي تفجّرت في السنوات الأخيرة وكان أحدها وأكثرها إيلاما الأزمة بين سوريا ولبنان غداة جريمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، وقد أشار الحريري الى أن زيارته الى دمشق تأتي ضمن المصالحات العربية التي بدأها العاهل السعودي في الكويت (على هامش القمة الاقتصادية العربية مطلع هذا العام) وأشار كذلك الى «مصالحات أخرى ستتم لتوحيد الصف العربي من أجل مواجهة الصعوبات الاقليمية التي تسببها اسرائيل». ويبدو أن الجانبين السوري واللبناني كانا على قناعة بأن التعاون والتشاور بين البلدين أمر حتمي لا مفرّ منه اعتبارا للروابط الأخوية التي تجمع بين شعبي سوريا ولبنان وتاريخهما المشترك. ويبدو أيضا أن الحريري والأسد قد وضعا هذه الخاصية التي تجمع بلديهما في المقام الأول، فرئيس الوزراء اللبناني تناسى ما كان يقول في حق الرئيس السوري بشار الأسد وفي حق دمشق التي اتهمها مرارا بتدبير اغتيال والده وبالوقوف وراء التفجيرات التي شهدها لبنان بعد ذلك واستهدفت شخصيات سياسية مناهضة لسوريا، الحريري قدم مصلحة لبنان العليا على أي اعتبار آخر حين ذهب الى دمشق بنية فتح صفحة جديدة أساسها الثقة والصراحة والصدق. أما الرئيس السوري فأظهر كثيرا من الحلم إذ تجاوز ما كان يقوله الحريري بحق سوريا، مقدما سلامة العلاقة بين البلدين على أي حساب آخر. ولذلك وصف اللقاء بين الحريري والأسد بأنه كان ذا شقين، شخصي وسياسي، وقد أجمع جل السياسيين والمحلّلين في بيروتودمشق على أن اللقاء نجح بشقيه. والحقيقة أن كل هذا التفاؤل وكل هذه الأجواء الايجابية التي أشاعتها الزيارة لا تمثل سوى خطوة صغيرة على درب مسار طويل، لكنها خطوة تأسيسية مهمة، تؤسس الثقة وتضع الملامح العامة لمستقبل العلاقات بين سوريا ولبنان. وإذا كانت زيارة الرئيس اللبناني ميشال سليمان الى دمشق العام الماضي غداة انتخابه قد فتحت الباب أمام تطبيع حقيقي للعلاقات بين البلدين وتبادل التمثيل الديبلوماسي للمرة الأولى في تاريخهما المعاصر فإن زيارة الحريري كانت بداية الخطوات العملية لتصحيح مسار هذه العلاقات، خاصة أن البلدين أبديا قناعة واضحة بأن ما كان في السابق لم يكن عداء (لا بين الشعبين ولا بين القيادتين) بل خلافا فرضته ظروف معينة وغذته أطراف دولية لذلك كان لا بد من إنهاء هذه الحالة الشاذة لأن الوضع لا يستقيم في المنطقة دون أن تكون العلاقات السورية اللبنانية في أعلى مستوى من التعاون والتشاور والحوار. ثم إن أكثر ما كان يُفسد هذه العلاقات على امتداد السنوات الماضية هو ملف اغتيال الحريري، والآن وقد صارت القضية في عهدة المجتمع الدولي مع قيام المحكمة الدولية الخاصة بالنظر في هذه القضية لم يعد مسموحا للبلدين بالمضيّ في نهج الجفاء وبرود العلاقات. الآن ستكون الأنظار متجهة الى ما بعد هذه الزيارة التي خرج منها الحريري بقناعات جديدة عن سوريا وعن الأسد، حسب تأكيداته، وستكون الحكومة اللبنانية الجديدة أمام حتمية متابعة ملف العلاقات مع سوريا في اجتماعاتها المقبلة وقد تشكل لجان وزارية مشتركة لبحث ثلاث قضايا شائكة على الأقل هي ترسيم الحدود بين البلدين وقضية المفقودين اللبنانيين في سوريا وسلاح الفصائل الفلسطينية خارج المخيمات.. ملفات متداخلة ومتشابكة قد يتطلب حلها سنوات طويلة، ويبقى الأمر مرتبطا بالأساس بمدى جدية الطرفين ورغبتهما في ترجمة كل ما قيل عن هذه الصفحة الجديدة المفتوحة بين بلدين قدرهما أن يبقيا أبدا على قيد التعاون والتعايش السلمي وحسن الجوار والوحدة.. وحدة الأهداف ووحدة المصير.