نقرأ عن أدباء أوصوا بحرق مخطوطاتهم بعد موتهم، ولكن هذا لم يتم، لأن من أوصوهم لم يتحملوا مسؤولية «إعدام» مؤلفات وجدوا أنها جديرة بأن تنشر وتقرأ من قبل محبّي الأدب ودارسيه. ويحضرني هنا مثال كافكا الذي أوصى صديقه ماكس برود بإتلاف مخطوطاته ولو أنه فعل ذلك لحرم الأدب والأدباء من نصوصه الفذة التي يزداد عدد المهتمين بها دراسة وقراءة. لكنني أرى المسألة من جانب آخر هو أن المؤلف لو أراد حقا أن لا ينشر عمل له فإن الأنسب لهذا هو أن يقوم باتلافه بنفسه، هذا اذا كان قراره قرارا نهائيا بشأن عمله هذا. ولكن ان يتركه لدى صديق أو ناقد أو حتى مؤسسة ثم يوصي بعدم نشره، أو حرقه فهو يعني أن قراره ليس نهائيا بشأن كتابه هذا. لكن قد يرى كاتب أو كاتبة أن مؤلفا معينا له لا يمكن نشره في الوقت الحاضر لأسباب معينة تخصه هو أو تخص آخرين فيوصي بإرجاء نشره، أو أن أسرته هي التي تقرر هذا لأسباب تراها وجيهة (الجزء الثاني من مذكرات د. سهيل ادريس التي اقتنعت أسرته وهي أسرة أدب وثقافة ونشر عن نشره في الوقت الحاضر، ولها أسبابها في هذا الارجاء). وقد دفعني للعودة لهذا الموضوع ما أخبرني به الصديق الروائي السوري المعروف ياسين رفاعية عن عثوره على مخطوطة رواية قرينته الشاعرة الراحلة أمل جراح المعنونة «خذني بين ذراعيك». وكانت هذه الرواية قد فازت بالجائزة الأولى في مسابقة روائية نظمتها مجلة «الحسناء» اللبنانية عندما كانت تصدر عن كبرى المؤسسات الصحفية اللبنانية وأعني بها «دار النهار» وقد كان يرأس تحرير مجلة «الحسناء» وقتها الشاعر المعروف أنسي الحاج. وقد تشكلت انذاك لجنة تحكيم برئاسة الروائي والناقد المرحوم جبرا ابراهيم جبرا وضمت كلا من الروائية غادة السمان والشاعر أنسي الحاج نفسه وقد نظمت هذه المسابقة وهي الاولى والأخيرة عام 1968 أي قبل أكثر من أربعة عقود. هذه الرواية لم تأخذ طريقها للنشر أسوة بالأعمال الفائزة وكان من الممكن أن تحظى بالانتشار والاهتمام النقدي اذ كانت بيروت وقتذاك في سنوات زهوها الثقافي، ولكن المؤلفة اكتفت بالجائزة ولم تنشر روايتها، وقد صرحت في أكثر من حديث صحفي أجري معها أن الاستاذ جبرا هو من نصحها بعدم نشرها. وقد أخبرت رفيق حياتها الروائي ياسين رفاعية أنها أتلفتها وهو الذي جمع بعد رحيلها قصائدها التي لم تنشر في ديوان أخذ طريقه للنشر. كما قام رفاعية بكتابة حكايته معها في رواية سمّاها «الحياة عندما تكون وهما»، اذ أن أمل جراح عاشت بقلب معطوب استبدلت شرايينه بأنابيب منذ ستينات القرن الماضي حيث لم يتقدم طب القلب كما هو الحال الآن. وقد تزوجها ياسين رفاعية وهي دون العشرين من عمرها، وجاءت معه الى بيروت التي لم يغادراها مع ولديهما بسام ولينا الى لندن الا عندما احتدمت الحرب الأهلية، غادروا الى لندن ثم عادوا منها بعد أن هدأت الحرب وقد توفيت أمل ودفنت في بيروت. وكادت رواية «خذني بين ذراعيك» بعنوانها الصارخ هذا ان تضيع، لو أن رفاعية اقتنع بما قالته له أمل وقتها بأنها أتلفتها ثم عثر على مخطوطتها أخيرا. فوجد أن هذا العمل جدير بأن ينشر حتى لو كان بعد أربعة عقود من كتابة مؤلفته له، ومهما كانت الذرائع التي تحول دون نشره. وحمل المخطوط الى دار الساقي التي تحمست لنشره وجرى استبدال العنوان الى «الرواية الملعونة» لا ندري لماذا؟ والذين زاروا معرض بيروت للكتاب ستطالعهم لافتة كبيرة معلقة في جناح دار الساقي (ثلاثة أمتار بمترين) تعلن فيها أن هذه الرواية ستصدر في شهر مارس القادم. من المؤكد جدا أن المعنيين بفن الرواية قراءة ونقدا يعنيهم جدا أمر هذه الرواية، ويدفعهم في الآن نفسه الفضول لمعرفة أسرارها، ولماذا اقترح جبرا عدم نشرها، وكيف تجاوز ياسين رفاعية كل هذه العوائق وقدمها للنشر؟ نحن في انتظار «الرواية الملعونة» لنعرف الجواب.