حنّبعل كان يرى نفسه ثاني أعظم قائد عسكري بعد الاسكندر المقدوني. قالها هو نفسه لعدوّه الحميم شبيون الافريقي الذي هزمه وطارده حتى ملجئه الاخير. سأله شبيون وهو لا يكاد يخفي اعجابه بالقائد القرطاجني: وماذا لو لم أهزمك؟ فأجاب حنّبعل دون ترددّ: لكنت الأعظم إطلاقا. هكذا تقول أسطورة حنّبعل وفي وجودها ما يكفي للتدليل على عظمة هذا البطل العسكري الذي دوّخ أعداءه بعبقريته وشجاعته وإقدامه ودخل التاريخ من بابه. دخل حنّبعل التاريخ لكنه بقي في هامش الذاكرة الانسانية مثله مثل الاسكندر المقدوني، وبونابارت الفرنسي، ورومل الالماني وغيرهم كثُر من الأبطال والقوّاد العسكريين الذين ملؤوا الدنيا وشغلوا الشعوب لكنهم لم ينالوا غير إعجاب حذر وتقدير بارد لأن الذاكرة الانسانية لا تحتفظ الا بمن يصنعون التاريخ بأعمالهم التي تفيد البشرية وتتقدّم بفكرها وبوجدانها فتغيّر ما بها وتفتح لها في الزمن عهدا. (2) الأنبياء كانوا الصنّاع الأوائل للتاريخ بفضل علمهم الإلاهي، ثم تلاهم الفلاسفة أمثال أرسطو وسبينوزا وهيقل وهايديقار... وصاحب هؤلاء الفلاسفة أو عقبهم علماء الفيزياء مثل قاليلاي ونيوتن وأنشتاين. الفيلسوف والفيزيائي كانا الى حد النصف الاول من القرن الماضي يصنعان التاريخ ويغيران مجراه ويفتحان مراحل جديدة في تطوّر الانسانية ورفعتها. ولكن من يصنع التاريخ اليوم في عالمنا المعولم؟ الجواب: الإعلامي المبدع! (3) جيمس كامرون من هؤلاء الاعلاميين المبدعين صُنّاع التاريخ، إنه ذلك السينمائي الامريكي صاحب الرائعة التي أطربت وأبكت العالم بقوّة صورها التي تجسّد رومنسية رقيقة على خلفية تحطّم وغرق الباخرة العملاقة «تيتانيك». السيد كامرون خرج هذه الأيام على الناس بشريط سينمائي جديد يحمل عنوان «أفاتار» (التناسخ) يبدع صاحبه من خلاله في صنع الصورة السينمائية وتطويعها لتجسيد واقع هو بين الرويّة والرؤيا قريب بعيد، غريب مألوف ولّده المخرج من مخياله وأسكنه كائنات خارقة في كوكب يكتنفه الهدوء والسكينة ويميّزه التناغم والتآلف بين كل مخلوقاته ومكوناته. لكن الانسان لا يلبث أن يظهر ليهدد وجود هذا الكوكب وحياة كائناته بما جُبل عليه من جشع ونهم وطمع عاقدا العزم على نهب ثرواته كما نهب ثروات الأرض من قبل وعبث بخيراتها. يزجّ بك المخرج من غير أن تدري أو تريد في الصراع الدائر بين سكان الكوكب الغريب وبين غزاتهم من بني الانسان ويستعمل في ذلك كل الحيل والتقنيات ومن بينها نظّارات البعد الثالث التي تجعلك تلج أبواب حقيقة جديدة بعد أن سقطت الحدود بين الخيال والواقع، بين السينما والحياة... (4) «مرحبا بكم في العالم الحقيقي welcome to the real world على هذه الجملة الشهيرة من فيلم «ماتريكس» الذي بشر منذ عشر سنوات بالتداخل بين الافتراضي والواقعي في عالم أصبحت تتحكمه وسائل الاتصال الاليكترونية، ينطلق فيلم «أفاتار» ليعيد قراءة الأحداث العالمية من زاوية مستقبلية ولكن بقدرة عالية على التحكم في اللغة السينمائية ما يجعل من هذا الشريط تحوّلا جوهريا في الفنّ السابع وانجازا فارقا سوف لن تكون السينما بعده كما كانت من قبل. إنها قدرة وسائل الاتصال اليوم على تغيير الرؤى الفنيّة وإفراز ذائقات جمالية جديدة ليست بريئة من تحاملات مذهبية ومحاولات الهيمنة. وإنني على يقين بأن هذا الشريط سيحدث في المجتمعات والثقافات تغييرا لم يقدر عليه الرئيسان «الأبواش» (بوش الأب وبوش الابن) ولا جيوشهما الجرّارة. ولكن ما يحزنني حقّا أننا في عالمنا العربي لم نهتد بعد الى معرفة ما كانت أزمة الأغنية هي أزمة لحن أم كلمة. (5) الرسالة التي يحاول شريط «أفاتار» إيصالها الى المتفرج ولا شك أنه ناجح في مسعاه هذا، تتلخص في الدعوة الى الايمان بقدرة الانسان الجديد على تخليص كوكبنا الارض مما ألحق به إنسان الأمس من مخاطر. وإذا كنا لا نعرف من هو إنسان الأمس فإن إنسان اليوم هو لا محالة أمريكي.