وأخيرا ماتت «أناستازيا بنزرت» كما سمّاها السينمائي محمود بن محمود في شريط يحكي قصتها العجيبة المنطلقة من غابات روسيا الثالجة في سنّ الثماني سنوات، والمنتهية على ضفاف بنزرت الناعمة في عمر بلغ 97 عاما. شاءت الأقدار أن تنطفىء شمعات أنستازيا في هذه الشواطىء البعيدة عن بحار بلدها وهي تنصت لآخر موجات العام الرّاحل تمسح رمال الكرنيش وتقبّل صخوره مودّعة. مضت أناستازيا منستاين شيرنسكي آخر الرّوس البيض الذين لجؤوا إلى بلادنا ، غادرت بنزرت بعد عشرة طويلة مع المدينة وأهلها، ومع طلبة درّستهم الرياضيات والموسيقى، فتعلّموا على يديها وأخذوا عنها إلى جانب ذلك العزم الحديدي والحيويّة المبدعة. صارت «بابو» كما كان الجميع يدلّلونها معلما إنسانيا. لقد ترددت على بيتها مرّات أثناء عملي ببنزرت وأشركتها في بعض الأنشطة الثقافية ، ففهمت سرّ حبّ الجميع لها، إنه ازدهاء الألوان في ثقافتها المتنوّعة وثرائها الروحي، وما تشيعه حولها من دفء عاطفي، وحبّ للحركة والحياة. مضت دون انتظار العام الجديد الذي كان يطرق الأبواب، مضت ولم تسمع طرقه أذنا العجوز التسعينية، لأنها قرّرت الالتحاق برفاق الرحلة المستحيلة، من جاؤوا معها من البحر الأسود إلى البحر الأبيض، ومن شواطىء القرم إلى شواطىء بنزرت، أهلها والآخرون الذين كانوا على ظهر الباخرة الحربية «قسطنطين»، وكان فيهم أطفال ونساء هم عائلات الضباط والبحارة المنهزمين. حسنا فعلت «بابو» عندما نشرت سيرتها في كتاب صدر بالفرنسية عام 2000 وعام 2004 بالروسية اختارت له عنوانا ذا دلالة واضحة: «بنزرت آخر محطّة»، فهو الذي نبّه المسؤولين في تونس وفي روسيا إلى زخم ما حملته هذه المرأة الشجاعة إلى العلاقة بين البلدين، وإلى ثراء تجاربها الإنسانية المجدولة من عالمين متباعدين و مختلفين، استطاعت مع ذلك وبجهد فرديّ المؤالفة بينهما واستخراج ما في كليهما من طيّب ومفيد. لذا أنعم عليها الروس والتونسيون بالجوائز والأوسمة، وأنالوها ما تمنت وآخره جواز سفر بلدها روسيا الذي حرمت منه واكتفت بحمل بطاقة لاجىء إلى غاية عام 1997 . بدأت مأساة الرّوس البيض مع قيام الثورة البلشفية واكتساح الجيش الأحمر لأغلب مناطق روسيا بعد صدامات عنيفة مع جيش روسياالبيضاء الموالي لحكومة القيصر، آلت في النهاية إلى قيام حرب أهلية لم تصمد فيها القوّات الحكومية طويلا ، بل تراجعت لناحية البحر الأسود، ثم انسحبت نهائيّا من المعركة خوفا من حدوث مجزرة انتقامية على أيدي الجيش الأحمر. لم تكن الحرب العالمية الأولى 1914 1918 قد هدأت آنذاك، وكان أحد أطرافها فرنسا المستولية في ذلك العهد على مستعمرات إفريقية كثيرة من بينها تونسوالجزائر قد نصبت جزءا من قوّاتها البحرية بالبحر الأسود ، وكانت شاهدة على هزيمة جيش روسياالبيضاء وفراره هو ومن احتمى به من الأهالي، فهبّت لنجدتهم ، وقرّرت إجلاءهم بواسطة ما بقي تحت أيديهم من قطع الأسطول الرّوسي ، إما إلى إستنبول أو إلى تونس. لم تتحمّس الحكومة الفرنسية في بادىء الأمر لقبول اللاّجئين الرّوس على أرضها أو أراضي مستعمراتها ، وكانت في ذات الوقت خائفة من وقوع أيّ سلاح بحوزة البلاشفة، سادة روسيا الجدد، وطامعة كذلك في الاستيلاء على بعض سفن الأسطول الرّوسي ضمانا لديونها المتخلّدة بذمّة روسيا، وهذا ما جعلها تقبل في النهاية تحويل القطع البحرية إلى ميناء بنزرت، وعلى ظهرها ما استطاعت حمله من الجنود وعائلاتهم. كان وصول الرّوس البيض إلى ميناء بنزرت أوائل سنة 1921 وعددهم حسبما قالت أنستازيا 6388 نفرا، بقوا في بواخرهم مدّة العزلة القانونية، خوفا من تفشّي الأمراض بينهم، وروقبوا رقابة شديدة تحسّبا من أن يكون بينهم جواسيس أو فوضويّون أو عناصر شيوعية مندسّة. . بعد عام خفّفت الرقابة قليلا ، واختيرت من بينهم جماعات أرسلت لتستقرّ في عين دراهم وطبرقة والمنستير، في حين واصل الباقون الإقامة في السفن إلى صائفة 1924 مع السماح لهم بالعمل في المؤسسات الصناعية والتجارية الموجودة بالمنطقة. ولما اعترفت فرنسا في 29 أكتوبر 1924 بالحكومة البلشفية سمح للاّجئين بمغادرة السفن للإقامة في البرّ، وبذلت عدّة مساع لتوزيعهم داخل البلاد التونسية وفي الجزائر والمغرب، وفيهم من أراد التحوّل إلى فرنسا، في الأثناء طلب كثير منهم الحصول على جنسية الدولة الحامية، تماشيا مع مساعي فرنسا لاحتواء أفراد الجاليات الأجنبية المستوطنة بشمال إفريقيا وإشراكها في ترسيخ مشروعها الاستعماري، وكانوا خليطا من موالط وطليان واسبان وإغريق، وأضيف إليهم الرّوس البيض. وفي النهاية بلغ عدد الذين اختاروا البقاء بتونس ألف شخص تقريبا كوّنوا عائلات وتركوا ذرّيّة متعلّمة برزت من بينها شخصيّات تركت أثرا في الحياة الاجتماعية والثقافية في تونس المعاصرة، ومن أهمّ رموزها الرسّام الكبير ألكسندر روبتسوف. أغلب هؤلاء اللاجئين استوطنوا بنزرت أو العاصمة وساهموا في مهن مختلفة مثل المناجم والصحّة والموسيقى والتعليم، ربما لم تكن هي مهنهم الأصلية، ولكنهم عاشوا هانئين بعد أن أفلتوا من خناجر البلشفيك وقهر الفرنسيس وذاقوا دفء الحياة في أحضان تونس ... وكانت أنستازيا شيرنسكي نهاية عقد المغادرين للمحطة الأخيرة.