زراعات كبرى: استعدادات حثيثة لتأمين موسم حصاد 2025 وإنجاحه في ظلّ بوادر صابة وفيرة    تونس تحتفل بمرور 30 سنة على اعتماد سياسة النهوض بالاستثمار الخارجي: من الأقطاب التكنولوجية إلى ريادة صناعية قارية    انطلاق سفرة "قطار الوعي" في مجال التنمية المستدامة من محطة برشلونة في إتجاه الجم    ملتقيات الدوري الماسي بالرباط : مشاركة منتظرة اليوم الاحد للثنائي التونسي محمد امين الجهيناوي واحمد الجزيري في سباق 3000م موانع    مع اقتراب الصيف.. 6أطعمة صيفية تضمن لك هضمًا صحيًا    نسبة امتلاء السدود تتجاوز اربعين بالمائة وقريبا استكمال انجاز جملة من السدود الكبرى    تونس: ارتفاع كبير في السيولة النقدية ...وقانون الشيكات من بين الأسباب    عاجل/ آخر مستجدات مفاوضات الزيادة في أجور القطاع الخاص..    ريال مدريد يعلن رسميًا تعيين تشابي ألونسو مدربًا جديدًا بعد رحيل أنشيلوتي    وزير الداخلية يشرف على إحياء الذكرى 67 لمعركة رمادة    قد تبدو بسيطة.. أخطاء عند غسل الأواني قد تسبب أضرارًا صحية كبيرة    تونس : أبرز الأحداث السياسية بين 19 و24 ماي 2025    تراجع غراسات كروم التحويل.. لقطاع كان يدرّ عائدات جبائية ب 50 مليون دينار لخزينة الدولة    بطولة هامبورغ للتنس: الإيطالي فلافيو كوبولي يتوج باللقب على حساب الروسي روبليف    كاس العالم لسلاح السابر.. المنتخب التونسي يخرج من الدور ثمن النهائي بخسارته امام نظيره الفرنسي 38-45    جندوبة: حجز كمية كبيرة من سماعات الغشّ في عملية أمنية    السعفة الذهبية ل"حادث بسيط".. حين تتكلم السياسة بلغة السينما    لماذا يحتفل اليوم بعيد الأمهات في تونس؟    مايا تواصل دعم قضايا المرأة بأغنية اجتماعية تنال تفاعلًا واسعًا    الستاغ تُشغّل خطًا كهربائيًا جديدًا بهذه المنطقة لتعزيز الربط مع المحطة الفولطاضوئية    لحظات من الرعب.. راكب مجنون يحاول قتل ركاب طائرة يابانية متجهة إلى أمريكا!    يوم مفتوح لفحص مرض الكحلي يوم السبت المقبل بمعهد الهادي الرايس لامراض العيون بباب سعدون    "كتائب القسام" تعلن عن تنفيذ عملية مركبة استهدفت قوات إسرائيلية في غزة    جوائز مهرجان كان السينمائي 2025.. تألق عالمي وبصمة عربية    وكالة حماية وتهيئة الشريط الساحلي تنفذ عمليات تتنظيف لشاطئ سيدي محرز بجربة وشاطئ أوماريت بجرجيس    قبلي: المدرسة الابتدائية بجمنة تتحصل على جائزتين من منظمة الصحة العالمية ومنظمة الامم المتحدة للطفولة    المزونة: أكثر من 1000 مواطن استفادوا من عيادات صحّية مجانية وشاملة    قافلة طبية للهوارية: 600 مستفيد من فحوصات قلب دقيقة و8 عمليات ناجحة لفائدة مرضى الكلى    إضراب في ''دحدح''....وهذه التفاصيل    البرلمان ينظر في مشروع قرض كويتي ب 70 مليون دينار لهذه الأسباب    بعد تأهّل البقلاوة: الترجي واتحاد بن قردان في صراع ناري على تذكرة النهائي!    جماهير ميلان تحتج ضد الملاك والإدارة بعد موسم مخيب للآمال    باريس سان جيرمان يتوج بكأس فرنسا استعدادا لنهائي رابطة الأبطال    جامعة قفصة تتحرّك: مؤسسات جديدة في الأفق ونهاية عهد الكراء تقترب    أمطار متفرقة بالمناطق الساحلية الشمالية صباح الاحد وارتفاع طفيف للحرارة    طقس الأحد: سُحب وأمطار خفيفة بهذه المناطق... والحرارة تواصل الارتفاع!    سرقة حمولة 23 شاحنة مساعدات إماراتية في غزة.. واتهامات لإسرائيل باختفائها    الفيلم الإيراني "مجرد حادث" يحصد السعفة الذهبية بمهرجان كان السينمائي    جندوبة: الاحتفاظ بشخص وإحالة 3 آخرين بحالة تقديم من أجل تحوّز أجهزة الكترونية معدة للغش في الامتحانات    بعد أن أمهله المتظاهرون 24 ساعة... المنفي يعد بالتفاعل الايجابي مع الليبيّين    حريق بميناء الصيد البحري بجرزونة    أولا وأخيرا: «يطول ليلها وتعلف»    النادي الإفريقي يتوّج ببطولة كرة السلّة    أسرار النجمة الزهراء: مؤلف جديد لمركز الموسيقى العربية والمتوسطية    القيروان: اختيار 15 طالب دكتوراه للتنافس على تصفيات نهائي مسابقة "أطروحتي في 180 ثانية"    طقس الليلة    عاجل : النيابة العمومية تفتح تحقيقاً بعد وفاة شابة بطلق ناري في الكاف    عاجل/ حادثة مقتل فتاة بطلق ناري في الكاف: المساعد الأول لوكيل الجمهورية يكشف تفاصيل جديدة..    عملية ألمانيا: ارتفاع حصيلة المصابين ومنفذة الهجوم امرأة..#خبر_عاجل    زلزال بقوة 6ر4 درجات يضرب هذه المنطقة..#خبر_عاجل    جندوبة: تفكيك شبكة مختصة في ترويج سماعات الغش في الامتحانات    إيطاليا تُغيّر قانونا بشأن الحق في الحصول على الجنسية بموجب 'حق الدم'    رحيل أسطورة السينما الجزائرية محمد لخضر حمينة    الفكر المستقيل    أمراض تهدد حياتك عند ضعف حاستي السمع والشم.. ما هي؟!    موعد بدء إجازة عيد الأضحى في السعودية    29 يوم فقط تفصلنا على بداية فصل الصيف    دعاء يوم الجمعة 23 ماي 2025    









من نافذتي: الروسيّة البيضاء الأخيرة
نشر في الشروق يوم 09 - 01 - 2010

وأخيرا ماتت «أناستازيا بنزرت» كما سمّاها السينمائي محمود بن محمود في شريط يحكي قصتها العجيبة المنطلقة من غابات روسيا الثالجة في سنّ الثماني سنوات، والمنتهية على ضفاف بنزرت الناعمة في عمر بلغ 97 عاما. شاءت الأقدار أن تنطفىء شمعات أنستازيا في هذه الشواطىء البعيدة عن بحار بلدها وهي تنصت لآخر موجات العام الرّاحل تمسح رمال الكرنيش وتقبّل صخوره مودّعة.
مضت أناستازيا منستاين شيرنسكي آخر الرّوس البيض الذين لجؤوا إلى بلادنا ، غادرت بنزرت بعد عشرة طويلة مع المدينة وأهلها، ومع طلبة درّستهم الرياضيات والموسيقى، فتعلّموا على يديها وأخذوا عنها إلى جانب ذلك العزم الحديدي والحيويّة المبدعة. صارت «بابو» كما كان الجميع يدلّلونها معلما إنسانيا. لقد ترددت على بيتها مرّات أثناء عملي ببنزرت وأشركتها في بعض الأنشطة الثقافية ، ففهمت سرّ حبّ الجميع لها، إنه ازدهاء الألوان في ثقافتها المتنوّعة وثرائها الروحي، وما تشيعه حولها من دفء عاطفي، وحبّ للحركة والحياة.
مضت دون انتظار العام الجديد الذي كان يطرق الأبواب، مضت ولم تسمع طرقه أذنا العجوز التسعينية، لأنها قرّرت الالتحاق برفاق الرحلة المستحيلة، من جاؤوا معها من البحر الأسود إلى البحر الأبيض، ومن شواطىء القرم إلى شواطىء بنزرت، أهلها والآخرون الذين كانوا على ظهر الباخرة الحربية «قسطنطين»، وكان فيهم أطفال ونساء هم عائلات الضباط والبحارة المنهزمين.
حسنا فعلت «بابو» عندما نشرت سيرتها في كتاب صدر بالفرنسية عام 2000 وعام 2004 بالروسية اختارت له عنوانا ذا دلالة واضحة: «بنزرت آخر محطّة»، فهو الذي نبّه المسؤولين في تونس وفي روسيا إلى زخم ما حملته هذه المرأة الشجاعة إلى العلاقة بين البلدين، وإلى ثراء تجاربها الإنسانية المجدولة من عالمين متباعدين و مختلفين، استطاعت مع ذلك وبجهد فرديّ المؤالفة بينهما واستخراج ما في كليهما من طيّب ومفيد. لذا أنعم عليها الروس والتونسيون بالجوائز والأوسمة، وأنالوها ما تمنت وآخره جواز سفر بلدها روسيا الذي حرمت منه واكتفت بحمل بطاقة لاجىء إلى غاية عام 1997 .
بدأت مأساة الرّوس البيض مع قيام الثورة البلشفية واكتساح الجيش الأحمر لأغلب مناطق روسيا بعد صدامات عنيفة مع جيش روسيا البيضاء الموالي لحكومة القيصر، آلت في النهاية إلى قيام حرب أهلية لم تصمد فيها القوّات الحكومية طويلا ، بل تراجعت لناحية البحر الأسود، ثم انسحبت نهائيّا من المعركة خوفا من حدوث مجزرة انتقامية على أيدي الجيش الأحمر.
لم تكن الحرب العالمية الأولى 1914 1918 قد هدأت آنذاك، وكان أحد أطرافها فرنسا المستولية في ذلك العهد على مستعمرات إفريقية كثيرة من بينها تونس والجزائر قد نصبت جزءا من قوّاتها البحرية بالبحر الأسود ، وكانت شاهدة على هزيمة جيش روسيا البيضاء وفراره هو ومن احتمى به من الأهالي، فهبّت لنجدتهم ، وقرّرت إجلاءهم بواسطة ما بقي تحت أيديهم من قطع الأسطول الرّوسي ، إما إلى إستنبول أو إلى تونس.
لم تتحمّس الحكومة الفرنسية في بادىء الأمر لقبول اللاّجئين الرّوس على أرضها أو أراضي مستعمراتها ، وكانت في ذات الوقت خائفة من وقوع أيّ سلاح بحوزة البلاشفة، سادة روسيا الجدد، وطامعة كذلك في الاستيلاء على بعض سفن الأسطول الرّوسي ضمانا لديونها المتخلّدة بذمّة روسيا، وهذا ما جعلها تقبل في النهاية تحويل القطع البحرية إلى ميناء بنزرت، وعلى ظهرها ما استطاعت حمله من الجنود وعائلاتهم.
كان وصول الرّوس البيض إلى ميناء بنزرت أوائل سنة 1921 وعددهم حسبما قالت أنستازيا 6388 نفرا، بقوا في بواخرهم مدّة العزلة القانونية، خوفا من تفشّي الأمراض بينهم، وروقبوا رقابة شديدة تحسّبا من أن يكون بينهم جواسيس أو فوضويّون أو عناصر شيوعية مندسّة. . بعد عام خفّفت الرقابة قليلا ، واختيرت من بينهم جماعات أرسلت لتستقرّ في عين دراهم وطبرقة والمنستير، في حين واصل الباقون الإقامة في السفن إلى صائفة 1924 مع السماح لهم بالعمل في المؤسسات الصناعية والتجارية الموجودة بالمنطقة.
ولما اعترفت فرنسا في 29 أكتوبر 1924 بالحكومة البلشفية سمح للاّجئين بمغادرة السفن للإقامة في البرّ، وبذلت عدّة مساع لتوزيعهم داخل البلاد التونسية وفي الجزائر والمغرب، وفيهم من أراد التحوّل إلى فرنسا، في الأثناء طلب كثير منهم الحصول على جنسية الدولة الحامية، تماشيا مع مساعي فرنسا لاحتواء أفراد الجاليات الأجنبية المستوطنة بشمال إفريقيا وإشراكها في ترسيخ مشروعها الاستعماري، وكانوا خليطا من موالط وطليان واسبان وإغريق، وأضيف إليهم الرّوس البيض. وفي النهاية بلغ عدد الذين اختاروا البقاء بتونس ألف شخص تقريبا كوّنوا عائلات وتركوا ذرّيّة متعلّمة برزت من بينها شخصيّات تركت أثرا في الحياة الاجتماعية والثقافية في تونس المعاصرة، ومن أهمّ رموزها الرسّام الكبير ألكسندر روبتسوف. أغلب هؤلاء اللاجئين استوطنوا بنزرت أو العاصمة وساهموا في مهن مختلفة مثل المناجم والصحّة والموسيقى والتعليم، ربما لم تكن هي مهنهم الأصلية، ولكنهم عاشوا هانئين بعد أن أفلتوا من خناجر البلشفيك وقهر الفرنسيس وذاقوا دفء الحياة في أحضان تونس ... وكانت أنستازيا شيرنسكي نهاية عقد المغادرين للمحطة الأخيرة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.