لم يكن قرار وقف إطلاق الصواريخ الذي توصلت إليه فصائل المقاومة الفلسطينية الليلة قبل الماضية في قطاع غزة الأول من نوعه خلال السنوات القليلة التي أعقبت فوز حركة «حماس» في الانتخابات التشريعية والتي تلت بسط سيطرتها على القطاع.. كما لم يكن التوصل إلى هدنة مع الكيان الصهيوني تضبط من خلالها حالة «اللاّسلم واللاّحرب» بدعة في التعامل الاستراتيجي والعسكري لتنظيمات النضال الفلسطيني.. بيد أن الإصرار الذي أبدته فصائل المقاومة الفلسطينية خلال الأسبوع المنقضي على الوصول إلى تهدئة تعمم على كل «حاملي السلاح» في القطاع في ذات الوقت الذي تجهر فيه إسرائيل بقرب عدوانها «الجديد» و«الحتمي» على غزة.. وتنشر فيه منظوماتها الدفاعية المضادة لصواريخ المقاومة..وتبث مزاعم حيازة «حماس» و«الجهاد» لصواريخ يصل مداها تل أبيب.. وتستنفر قواها على حدود القطاع الشمالية والجنوبية وتسعى جاهدة لإعادة احتلال محور صلاح الدين.. وتحث دوائرها الإستراتيجية والأمنية على ضرب البنية التحتية ل«حماس» وتصفية رؤوس الحركة.. يطرح تساؤلات عديدة عن سبب إقرار التهدئة وعن دلالات الخطوة في هذا الظرف بالذات وعن المستفيد منها وعن تلاؤمها مع التصعيد العسكري الصهيوني.. بالتأكيد.. لم تغادر أذهان المقاومين الفلسطينيين تلك الصيحة التي أطلقتها وزيرة الخارجية الصهيونية السابقة تسيبي ليفني بأنّ صبر تل أبيب نفد عن تحمل ما سمتها باختراق الفلسطينيين لاتفاق الهدنة وان عليهم تحمل تداعيات إضرارهم بأمن إسرائيل.. وأنى لهم أن ينسوا صرخة كانت بمثابة الإذن بصبّ جام الغضب والحقد والعنصرية الصهيونية على أرض القطاع...وأنى لهم أن يسقطوا من ذاكرتهم تحميل «جزء كبير من النظام الرسمي العربي وأطراف فلسطينية كثيرة» لهم مسؤولية العدوان الصهيوني على غزة.. قبل أن يقولوا لهم «اذهبوا فقاتلوا إنا ها هنا قاعدون».. من هذا المنطلق اختارت المقاومة أن تسحب من الكيان الصهيوني والأطراف المؤيدة له بساط «شرعنة» أي عدوان جديد أو التساهل معه أو إيجاد مبرر له.. وفي المقابل تحظى بدعم الجهات الإعلامية والسياسية والحقوقية والدولية التي عادة ما تقف في منزلة بين المنزلتين...ليصبح بالتالي كل من شجب الهجوم المفترض..ومساندة المقاومة واجبين أخلاقيين على هاته الجهات . غير أن ما يلفت الانتباه في هذا السياق , أكثر من غيره هو الإصرار على أن تكون التهدئة داخلية (بين فصائل المقاومة) وليست ثنائية مع الطرف الإسرائيلي، الأمر الذي يؤكد أنّ المقاومة تسعى إلى اللعب على وتر «القانون الإنساني» و«التقارير الأممية» باعتبار أن غياب المبررات الكافية لشن العدوان يعد جريمة حرب في حدّ ذاته.. وبالتالي فهي تسجل على الكيان الصهيوني جريمة حرب قبل شنه العدوان..وهكذا يستحيل «وقف إطلاق النار» خط الدفاع الأول ولعله أهمها على الإطلاق طالما أن «تقرير غولدستون» أدى دوره الإعلامي والديبلوماسي والسياسي على أكمل وجه.. كما أن الإصرار على الوصول إلى تهدئة في بحر هذا الأسبوع الملتهب بالخطوات الصهيونية التصعيدية يحمل أكثر من رسالة إلى أكثر من عنوان.. أولها أن «حماس» السلطة الحاكمة في غزة قادرة على بسط سيطرتها على القطاع وعلى تعميم حالة الهدوء أو النفير متى أرادت.. ثانيها أن «حماس» الحركة المقاومة لا تنجر وراء الاستفزازات الإسرائيلية كما لا تصدر أزمتها الحدودية مع مصر إلى خارج حدود القطاع...ثالثها أن فصائل النضال المسلح متوحدة في الاراء وفي التوجهات الكبرى وواقفة على خط واحد.. رابعها أنها لا تخضع للابتزاز في ما يخص إطلاق سراح جلعاد شاليط وأنها ستختار في حال أجبرت على الاختيار تحمل العدوان مع المحافظة عليه على الإفراج عنه مقابل «حفنة» أسرى انهوا مدة محكوميتهم.. خامسها أن الهدنة في عرف المقاومة مراجعة لأسلوب القتال وتطوير لآلياته واستدراك للنقائص والثغرات.. سادسها أنّ الهدنة في عرف المقاومة ليست تنسيقا أمنيا مع الكيان الصهيوني وليست ملاحقة قضائية وأمنية للمناضلين.. سابعها أن وقف إطلاق النار ليس استكانة لشروط العدو وأن البدء في عملياته العسكرية يحتم عليه تحمل تبعات حرب استنزاف طويلة المدى.. ثامنها أن الاتفاق على الهدنة تأكيد على أنّ المقاومة المسلحة هي القاعدة والتهدئة هي الاستثناء.. المقاومة اليوم مختلفة عن مقاومة الأمس, علمتها التجارب أساليب بدء القتال وكيفيات إنهائه واليات قيادة حلقاته ,,لقنتها حروبها مع الكيان الصهيوني أنه عدو يضرب من بعيد ولا يملك القدرة ولا الجرأة على التوغل والمواجهة المباشرة.. فهمتها أنّ الهدنة ما لم تتحول إلى تنسيق أمني فرصة لاسترجاع الانفاس.. وأن الحروب تبدأ من عقول المراقبين ومن تصوراتهم للمقاومة الفلسطينية وأنّها في حالة غيرتها فقد انتصرت في أصعب جبهات القتال...جبهات الوعي والإدراك..