محمود عبد الرؤوف المبحوح اسم جديد يدرج في قائمة الشهداء الذين تزفهم حركة المقاومة الإسلامية «حماس» وكل فصائل الكفاح المسلح... لم تتأخر «حماس» في تحميل الكيان الصهيوني مسؤولية اغتياله خاصة وأن العملية حملت بصمات «الموساد» في الاصطياد والمحاصرة كما لم تتأخر تل أبيب في رفض الرد على الاتهام الحمساوي... وهو ما يعتبر في حد ذاته دليل إدانة...ولم تخف في المقابل ارتياحها من تصفية عنصر من الجيل المؤسس للذراع العسكرية لحركة «حماس»... وهو ما يعتبر أيضا قرينة ضلوع في الجرم... كما أن تركيز إعلامها على مكانة المبحوح السياسية والعسكرية في «حماس» يتنزل في سياق إشادتها بمهنية «الموساد» في تتبع مسؤولي الحركة الميدانيين وقدرته على رصدهم في أي مكان وزمان... وهو ما يعني وجود قرار إسرائيلي داخلي بضرب الأسس الفكرية والسياسية والعسكرية للحركة... البصمة الصهيونية مثبتة..إذن..والعقل «الوقائي» الإسرائيلي الساعي إلى كسر إرادة الفلسطينيين وتركيعهم موجود أيضا..غير أن إطاري المكان والزمان اللذين تمت فيهما التصفية والواقع السياسي الإقليمي والدولي تحمل في طياتها العديد من الدلالات العسكرية والسياسية والاستخباراتية التي وإن حافظت على طابعها الإسرائيلي فإنها وبلا شك تشير إلى تغيير في واقع الصراع الدائر بين فصائل المقاومة الفلسطينية والكيان الصهيوني.. هكذا هي الحروب الطويلة... يوم لك ويوم عليك...صحيح أن «حماس» استطاعت أن تخترق المنظومة الأمنية الإسرائيلية في الكثير من المرات وأن تقوم بعمليات استشهادية داخل تل أبيب ذاتها..غير أن الكيان الصهيوني وباستغلال سيطرته الفعلية على الأراضي الفلسطينيةالمحتلة وبوشاية العملاء تمكن من الوصول إلى الشخصيات الكبرى في الحركة من أمثال (صلاح شحادة في 2002 ويحي عياش في 1996 أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي 2004 سعيد صيام ونزار ريان في 2009 )... وفي كل مرة كانت الرصاصة الصهيونية تسعى إلى تنفيذ أجندة جديدة في الاستراتيجية الإسرائيلية الكاملة لقيادة الصراع مع الحركة خاصة ومع التنظيمات المقاومة عامة .. أولى الدلالات المستلة من اغتيال «أبو العبد» هي عودة الكيان الصهيوني الفعلية إلى استراتيجية «الحرب المفتوحة» التي تتجاوز حدود فلسطينالمحتلة بعد تجميدها عقب الإخفاق في اغتيال خالد مشعل في الأردن في عام 1997 وما تبعه من إحراج لعمّان وللدول العربية المطبعة مع إسرائيل... الرجوع إلى «الحرب المفتوحة» يؤكد ثلاثة أمور غاية في الأهمية, الأول أن إسرائيل أصبحت عاجزة بمقتضى التغيير السياسي الحاصل في غزة وانعدام التنسيق الأمني معها عن اصطياد الأسماء الكبرى المؤثرة في فصائل المقاومة الإسلامية بسهولة, والثاني أن تل أبيب تريد أن تبعث رسالة إلى قادة «حماس» في دمشقوبيروت وأن يدها قادرة على الوصول إلى أهدافها في شتى أماكن العالم, والثالث أن إسرائيل تعتبر أن القوة العسكرية والسياسية التي تستمدها «حماس» في غزة مستمدة أساسا من قادتها العسكريين والسياسيين الموجودين في الخارج والعاملين على تزويد الحركة بكل ما تستحق, وهو الأمر الذي دعاها للسعي إلى تجفيف منابع «حماس»الحقيقية... وهو ذات الأمر الذي يفسر عملية الاغتيال الفاشلة التي تعرض لها مؤخرا القيادي أسامة حمدان في بيروت . وبالتوازي مع «الحرب المفتوحة» يبرز المرمى الإسرائيلي إلى إدخال «الحركة» في دوامة داخلية من التهم بين قياداتها بعدم تقدير المسؤولين الأمنيين للقيمة المعنوية والعسكرية التي يمثلها «قادة الصف الأول الحمساوي» وعجزهم عن ضمان أمنهم لا سيما أن الحركة باتت في أمس الحاجة الى «جيلها المؤسس» بعد أن فقدت في 2004 باستشهاد زعيميها «احمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي» لبنتين أساسيتين من لبناتها الكبرى... ذلك أن تصفية المبحوح من طرف شخصين فقط قد يفهم في بعض جوانبه على أنه نقص في التقدير الأمني داخل «حماس»..أضف إلى ذلك أن نجاح «الموساد» في الوصول إلى سيارة أسامة حمدان في المربع الأمني ل«حزب الله» اللبناني ذاته وتفخيخها بقنابل موقوتة... قد يمثل بالنسبة الى البعض من داخل حماس أو من المقربين منها أو خارجها حججا على عجز الحركة عن حماية أبنائها...وبغض النظر عن واقعية هذه الفرضية من عدمها فإن المسعى الصهيوني منصب هنا في تأجيج نار الفتنة وإثارة الاتهامات بالتخوين بين قادة الحركة وتحويلهم إلى أجنحة مختلفة في أحسن الحالات ومتناحرة في أسوئها... ليس ببعيد عن كل ما سبق ..تتجلى الرغبة الصهيونية في العدوان على القطاع واضحة للعيان من خلال تصفية المبحوح... ذلك أن «حماس» قطعت على إسرائيل كل الذرائع التي قد تستخدمها للعدوان على غزة (وقف لإطلاق الصواريخ السعي إلى إقرار تهدئة شاملة القبول بدولة فلسطينية في حدود 1967 ...) مما جعل الكيان الصهيوني يستفز الحركة بعمليات موجعة للرد عليه حتى يبدأ الجولة الثانية من الحرب على القطاع التي عجزت أولاها عن تحقيق أي من أهدافها المعلنة أو السرية... وهي ذات السياسة التي انتهجها مع «حزب الله» باغتيال قائده العسكري عماد مغنية... وكما أن «حزب الله» رفض الانجرار للمخطط الصهيوني فإن «حماس» في تقديرنا لن تمنح تل أبيب تأشيرة لإبادة القطاع عن بكرة أبيه...وستواصل في المقابل في تطوير منظومتها الدفاعية والصاروخية استعدادا لمنازلة تختار هي توقيتها ومكانها وأسلوبها القتالي... وبطلب من الشعب الفلسطيني عامة... لا يحق للكيان الصهيوني أن يفرح اليوم باغتيال واحد من مؤسسي كتائب الشهيد عز الدين القسام...فقضاء «الموساد» لأكثر من عشرين سنة في تعقب أثر المبحوح على الرغم من إمكانياته المادية واللوجستية والاستخباراتية الهائلة دليل على فشل الجهاز وعلى نجاح «حماس» في تأمين حياة قائدها كل هذه المدة... ولا يحق له أيضا الشعور بالفخر بإتمام عملية التصفية... فالقتل والتخفّي والهروب أسلوب عمل عصابات إجرامية إرهابية «تخريبية» لا يرتقي البتة إلى أسلوب عمل «الدول المحترمة أو حتى نصف المحترمة»... وعلاوة على كل ما سبق يحظر عليه الإحساس بالطمأنينة أو طمأنة ساكنيه باستتباب الأمن... فقافلة الشهداء طويلة جدا... وثقافة الاستشهاد من أجل الحياة الكريمة متجذرة.. والأرض لا تزال أرضنا... والاحتلال لا يزال احتلالهم... والأيام دول...