:التهدئة بتوقيتها ومواصفاتها تمثل مكافأة على العدوان والحصار شاكر الجوهري الفجرنيوز: النقيض تماما لما هو مفترض حدوثه هو الذي تشهده القاهرة اليوم وغدا (الثلاثاء والإربعاء). الأصل أن يتم التوافق بين المتحاربين على تهدئة أو هدنة حين تكون ارادة الأطراف المتحاربة تتجه نحو التسويات السياسية، أو حين تكون هناك بارقة أمل بإمكانية تحقق ذلك..أو حين يمارس حجم كبير من الفعل والضغط العسكري من جانب أحد المتحاربين على الجانب الآخر، على نحو يضعه أمام أحد خيارين هما القبول بوقف اطلاق النار، مع ما يعنيه ذلك من إخضاع ارادته السياسية، ولو مؤقتا، لصالح الأهداف السياسية للجانب الأقوى. أما الحالة الفلسطينية الإسرائيلية التي تشهد حرب وجود بأكثر مما هي حرب حدود، فيفترض أن تكون شديدة الإختلاف. هذه الحالة لا تشهد الآن أيا من الظروف التي تفرض تهدئة أو هدنة، بما في ذلك اشتداد الحصار المفروض اسرائيليا وعربيا على قطاع غزة..ما دامت تفاعلات هذا الحصار تتهدد الأمن الداخلي لفارضي الحصار العرب..وما دام الحصار الإسرائيلي وحده لا يكفي لتحقيق غاياته. الموقف على صعيد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي يمكن تلخيص مفرداته الراهنة على النحو التالي: أولا: هزيمة عسكرية، وإن كانت محدودة الحقتها المقاومة الفلسطينية، وفي مقدمتها حركة "حماس" بآخر عدوان واسع قررت اسرائيل شنه على قطاع غزة في آذار/مارس الماضي. يلخص الدكتور موسى أبو مرزوق نائب رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" نتائج العدوان الإسرائيلي في آذار/مارس بالقول "حدد الجيش الإسرائيلي خمسة أهداف لمهمته في قطاع غزة هي عزل الشعب الفلسطيني في القطاع عن حركة "حماس"، واضعافها، واحتلال مساحات من القطاع ونقل السلطة عليها لسلطة رام الله، وخلق مناطق عازلة، وعزل سلاح المقاومين في القطاع، لكنه لم ينجح في تحقيق أي من هذه الأهداف، وذلك بفضل صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته التي تصدت للإحتلال..بلا شك أن هذا نصر ووسام شرف على صدر كل من ساهم ويساهم ويضحي في مواجهة الحصار". أما آفي ديختر وزير الشؤون الأمنية الإسرائيلي فيقول إن نتيجة عدوان آذار/مارس على قطاع غزة هي أن 250 ألف اسرائيلي اصبحوا ضمن مديات الصواريخ الفلسطينية بدلا من 150 ألفا. ثانيا: تخوف اسرائيلي حقيقي من شن عدوان واسع آخر على قطاع غزة يروم احتلال القطاع. ويتمثل هذا التخوف في إقرار ايهود بارك وزير دفاع اسرائيل بالثمن الفادح الذي يترتب على الجيش الإسرائيلي دفعه في حالة ارتكب مثل هذا العدوان، وحديث المحللين الإستراتيجين الإسرائيلييين علانية عن أن الجنود والضباط الإسرائيليين لم تعد لديهم معنويات كافية لخوض القتال. ويعترف باراك باستحالة القضاء "حماس"، وإنهاء سيطرتها على قطاع غزة، مشيراً إلى فشل تجارب سابقة في إحلال قيادات موالية للاحتلال. ويقول في تصريحات للإذاعة العبرية إن الكيان الصهيوني عاجز عن تحقيق أحلامه وأحلام اميركا والدول الأوروبية في القضاء على "حماس"، موضحاً أن هذا النموذج من إسقاط الأنظمة وتعيين أنظمة متعاونة مكانها أثبت فشله في افغانستان، عندما أسقطت اميركا نظام طالبان، وعينت حميد كرزاي، رئيساً للدولة. في هذا السياق يكشف أبو مرزوق عن أن مواطنين وصلت الدبابات الإسرائيلية إلى قرب منازلهم في عدوان آذار/مارس، تحدثوا عن رؤيتهم لنماذج من الخوف والهلع لدى الجنود الإسرائيليين من أي تقدم باتجاه المخيمات الفلسطينية، خاصة مخيم جباليا، وخاصة من جهة الشرق. ويضيف أبو مرزوق "لقد رصدت احاديث بين القوات الإسرائيلية تحذر بعضها البعض من مخاطر التقدم، وتتركز هذه الأحاديث المرصودة عن التراجع والتقهقر بأكثر مما تتحدث عن التقدم". ثالثا: استبدال اسرائيل خططها لشن هجوم واسع على قطاع غزة، وربما إعادة احتلاله، بمخطط آخر يقضي بإقامة شريط داخل القطاع بعرض كيلومترين، مهمته إبعاد مديات الصواريخ ومدافع الهاون الفلسطينية عن الأهداف الإسرائيلية. رابعا: تحول مقاتلي "حماس" من الدفاع إلى الهجوم، بعد أن سبق لهم التحول من حالة الهرب التي كانت تمارسها الأجهزة الأمنية في قطاع غزة إلى الدفاع..وازدياد مديات الصواريخ التي تمتلكها فصائل المقاومة إلى عشرين كيلومترا. لقد تجلى هذا التحول الهام الذي رصدته وأشرت إليه الصحافة والمحللين العسكريين الإسرائيليين في استهداف مفارز الجيش الإسرائيلي خارج المعابر. خامسا: عودة الرئيس الفلسطيني من زيارته لواشنطن خالي الوفاض من أي وعد، كما تجلى ذلك في التصريحات التي ندب فيها حظه، وأدلى بها في واشنطن ثم في القاهرة. سادسا: استعداد اسرائيلي ناتج عن هزيمة تموز/يوليو 2007 على يدي مقاتلي حزب الله للإنسحاب من كامل الجولان، وعلى نحو يفوق ما ورد في حينه في وديعة رابين الشهيرة، وهو ما عبر عنه ايهود اولمرت رئيس وزراء الدولة العبرية لسوريا عن طريق رئيس الوزراء التركي الذي يتوسط بين سوريا واسرائيل. سابعا: تقدير الرئيس السوري بشار الأسد أن القوة الإسرائيلية أصبحت قوة شائخة. فالأسد أبلغ نخبة من المفكرين والمثقفين العرب في السادس عشر من الشهر الجاري شاركوا في مؤتمر "تجديد الفكر القومي والمصير العربي" أنه "بعد حرب لبنان، ظهر أننا نحن العرب نجدّد شبابنا وأن إسرائيل تدخل مرحلة الشيخوخة، وبعد هذه الحرب ارتفع في اسرائيل السؤال عن الوجود ومصير الكيان". وخلص من ذلك إلى القول "أنا متفائل أكثر من أي وقت". ثامنا: اشتداد فعل المقاومة المؤثر على قوات الإحتلال الأميركي في العراق وافغانستان. تاسعا: عدم قدرة اميركا على مهاجمة ايران عسكريا، وإعادة حساباتها لهذه الجهة. وقد تجلى ذلك في الضغط على قائد القيادة الوسطى للقوات الأميركية ليقدم استقالته جراء تصريحات كشف فيها عن عدم وجود قرار اميركي بمهاجمة ايران، اعتبرته الإدارة الأميركية يشجع طهران على تشديد مواقفها. عاشرا: نتائج استطلاعات الرأي العام الإسرائيلي التي تبين أن الإسرائيليين يواصلون اتخاذ مواقف متشددة حيال التسليم بالحقوق العربية، وآخرها الإستطلاع الذي أظهر رفض الرأي العام الإسرائيلي الإنسحاب من الجولان. أسباب عشر تحول دون المقاومة الفلسطينية واتخاذ قرار بقبول تهدئة دون تحصيل ثمن سياسي مهم لا يقل عن إقرار اسرائيل بالحقوق المغتصبة، وضرورة الإنسحاب من كامل الأراضي العربية المحتلة عام 1967، والتوقف عن التعامل معها باعتبارها اراض متنازع عليها. لكن التعامل مع كل الحقائق المشار إليها يأتي معاكسا لما هو مفروض ومطلوب. محمود عباس يعود من واشنطن، رافعا شعارا جديدا: "علينا أن نبحث عن أي دولة فلسطينية قبل نهاية العام 2008"..هكذا..!! أي دولة، مع أن كل ما عرض عليه هو فقط امكانية التوصل إلى اتفاق إطار للحل دون أية ضمانات بأن يتضمن الإعتراف بكل الحقوق المغتصبة، ودون أية ضمانات بأن يتم الإلتزم به، بعكس مجموع الوعود والتعهدات والخطط الأميركية السابقة، وآخرها رؤية بوش وخارطة الطريق التي وضعت كآلية عمل لهذه الرؤية..! "أي دولة" تعني في الحقيقة لا دولة. وفي الأساس فإن اميركا واسرائيل لم تعرضا في أي يوم من الأيام على الشعب الفلسطيني أي دولة.. كل ما عرض في السابق وحتى الآن اقتصر، في أفضل حالاته، على حكم ذاتي محدود تحت السيادة الإسرائيلية، مع إعطاء الحق لسدنة هذا الحكم الذاتي بأن يطلقوا عليه تسمية امبراطورية إن شاؤا ذلك لغايات تسويقه لدى الفلسطينيين..!! بالتزامن والتساوق مع "أي دولة" عباس، ينعقد الحوار الفلسطيني مع مدير المخابرات العامة المصرية تحت عنوان شديد الوضوح "التوصل إلى تهدئة"..!! ويتم ذلك قبل أن توافق اسرائيل، حتى على مبدأ أن تكون التهدئة متزامنة ومتبادلة وشاملة للضفة الغربية..!! فجل ما توافق عليه اسرائيل هو تهدئة من الجانب الفلسطيني في قطاع غزة، تنظر في ضوئها بإمكانية التزامها بها بعد فترة من الوقت، دون أن تشمل التهدئة الضفة الغربية. وأغرب ما في الأمر أن الذاهبين إلى محاورة عمر سليمان لا يفطنون إلى ثلاثة أمور بالغة الأهمية: الأول: أن ما هم مدعوون له الآن ليس حوارا فلسطينيا فلسطينيا، كما حدث سنة 2005، مع أن الإيحاءات تشير لذلك، وإنما هو حوار مع مدير المخابرات المصرية. الثاني: أن عباس غير مشارك في هذا الحوار على غرار حوار 2005. وأنه قرر الإكتفاء بتكليف نبيل عمرو سفيره في القاهرة ب "متابعة" مجريات الحوار..أي أن يكتب تقريرا عنه لحكومته مثل أي سفير آخر معتمد في القاهرة..!! الثالث: أن مثل هكذا تهدئة لن تقود إلى حل المأزق الفلسطيني، ولن تعيد الوحدة الوطنية الفلسطينية. للتذكير سبق لعباس أن رهن موافقته على التهدئة بإقرار "حماس" بشرعيته. ومع أن هذا الإقرار قائم إلا أن الرئيس الفلسطيني يريد كما يبدو أن لا تكون التهدئة متبادلة..!! بإختصار: التهدئة التي تطلبها مصر من المقاومة الفلسطينية، تمثل مكافأة لإسرائيل على عدوانها، ولمصر ذاتها على مشاركتها في محاصرة الشعب الفلسطيني..!! ومثل هذه التهدئة تحقق مكاسب لجميع الأطراف باستثناء الشعب الفلسطيني ومقاومته. فهي توقف الصواريخ والهاونات عن الأهداف الإسرائيلية؛ وهي تنفس عوامل احتقان تقلق النظام في مصر؛ وهي تحقق أحد مطالب رئيس السلطة.. وكل هذا دون أي مقابل للشعب والمقاومة..!!