«يا أبناء ألف وثمانمائة وأربعة، هل يعود الغريب ويطأ الأرض، حيث تزهر أشجار البرتقال كاشفًا لكم مرّةً أخرى عن ذراعه المحرِّرة؟» هكذا كتب كبيرُ شعراء هايتي أوزوالد دوران، الذي توفّي سنة 1906، بعد حياة مكرّسة للشعر والحبّ والنضال، لم يحلم فيها بأكثر من أن يرى بلاده تنهض على قدميها وتحرس حريّتها من كلّ تدخّل وتحضن أبناءها بكلّ ألوان طيفهم وتصنع مصيرها بنفسها. ولا شكّ أنّه محظوظ بنومته الأبديّة إذ لم يعش سنوات الاقتتال والعنف والديكتاتوريّة الخانقة التي عرفتها بلاده، قبل أن يعود الأمل وتنفرج الأمور في الفترة الأخيرة، فتنغّصها أعاصير 2008، ويزيد طينَها بلّةً زلزال 12 جانفي 2010. فأغلب الظنّ أنّه لو عاش كلّ ذلك لاعتصر قلبه الألم وهو يرى أحلامه تهرم، وبلاده تشهق بأنقاضها فلا تجد غير «الغريب» يعود كاشفًا عن ذراعه «المُنقِذَة» هذه المرّة، دون أن تكون مجرّدة من شتّى أنواع السلاح والنوايا و«الأجندات». ثمّة صور فوق قدرتنا على التحمّل. عشرات الآلاف من الضحايا في لحظة. أطفال ونساء ورجال مجبولون على الرقص في ذروة الألم، يُؤخذون على حين غرّة، فيرحلون من النوم إلى الموت، أو يباغتون في تلك المسافة الفاصلة بين اليد واليد، أو بين الكلمة والكلمة، وهم في غفلة تامّة عمّا يتربّص بهم، فإذا هم بين قتيل وجريح، بين شريد ودفين، بين باك ومذهول، بين ثاكلٍ ويتيم، بين نشيج من تحت الأرض وصراخ فوقها. عشرات الآلاف من الضحايا في دقيقتين. مشهد يهزّ الصخر ويذكّر الإنسان بهشاشته، وكارثة قد تحدث في أيّ لحظة وفي أيّ مكان، ولا غرابة في أن تتداعى لها بلاد العالم بالعون والغوث والمواساة، فلا أحد في مأمن، وقد يحتاج المغيث اليوم إلى من يغيثه غدًا. وعلى الرغم من ذلك، ثمّة أسئلة لابدّ من طرحها بين يدي مثل هذه الكوارث: أين ينتهي فعل الطبيعة وأين تبدأ مسؤولية البشر؟ وإذا كان من المتعذّر تجنّب مثل هذه الكوارث فماذا كان في الوسع عمله للتخفيف من أضرارها؟ وما الذي يتحتّم عمله في المستقبل؟ لنقل منذ البداية إنّ زلزال هايتي الأخير ليس الأوّل، وكان متوقّعًا تمامًا، فهي في منطقة التقاء صفائح الكاراييب وأمريكا الشمالية، تلك التي تُسمّى منطقة الصدع. وإذا كان من المستحيل التنبّؤ الدقيق بحدوث الزلازل فإنّ من الممكن التحسّب لها في مثل هذه المناطق، على الأقلّ، عن طريق البناء وفقًا لمواصفات معيّنة ومعروفة، حدّدها المهندسون والعلماء وأطلقوا عليها اسم المواصفات المضادّة للزلازل. وهذا يتطلّب وضوحًا في الرؤية وبعد نظر في التخطيط إضافةً إلى موارد ماليّة وبشريّة يتمّ توظيفها وفق أولويّات معقلنة. ولكن من أين لهايتي بكلّ ذلك، وقد أورثها التجاذب الخارجيّ والداخليّ أمراضًا قاتلة على امتداد عشريّات طويلة من الصراع بين البيض والسود، ثمّ بين السود أنفسهم المنقسمين إلى أحرار ومحرّرين، ثمّ بين ديكتاتوريّات متعاقبة لم تحفل إلاّ بنهب ثروات البلاد دون أيّ تخطيط للمستقبل، محوّلة وجهة المساعدات الدوليّة لصالحها، دافعة بنخبة البلاد إلى الاستقالة أو الفرار، غافلة تمامًا عن مصالح البلاد ومرافقها وبُناها التحتيّة، كلّ ذلك بتواطؤ مع قوى خارجيّة تتصارع على مناطق النفوذ، دون أيّ اهتمام حقيقيّ بمصالح البلاد وأهلها. بدا أنّ هايتي تجاوزت تلك المرحلة وتغيّرت أمورها نحو الأفضل في السنوات الأخيرة. إلاّ أنّها مدّة لا تكفي كي تصلح ما أفسده السابقون. لذلك هي في حاجة إلى مساعدة العالم. وتقول التقديرات إنّها في حاجة إلى 10 مليار دولار. فماذا منحها كبار العالم حتى كتابة هذه السطور؟ منحتها فرنسا 20 مليون دولار. ومنحها الاتحاد الأوروبي 250 مليون دولار. ومنحتها الولايات المتّحدة 100 مليون دولار حتى الآن، أي نفس المبلغ الذي تصرفه في يوم واحد على حربها في أفغانستان!! والأغرب والأدهى والأمرّ أنّ بعض من هبّ إلى مساعدة هايتي، لا يتورّع منذ مدّة عن المساهمة في التنكيل بمليون ونصف المليون من الفلسطينيّين دون أن يرفّ له جفن. أليس هذا الأمر مدعاة إلى التساؤل؟ ألا يعني في جملة ما يعني أنّنا لسنا أمام محنة لهايتي بقدر ما نحن أمام فضيحة للعالم؟