مازالت أصداء الكلمة التي افتتح بها الرئيس زين العابدين بن علي أعمال مجلس الوزراء ليوم الجمعة الفارط، تتردّد في الأوساط السياسية والشعبية أيضا، لما نتج عنها من جدل، وما تولّد منها من تعليقات، تلقّفها الرأي العام بالسّؤال، والتحليل، والتمحيص الجدّي لكلمة أولى سماتها الجدية. وبالعودة الى محاور كلمة الرئيس نلاحظ أنها تناولت: أولا: إشارة من الرئيس الى أن التحوير الوزاري الأخير يندرج في نطاق السعي الى تطوير عمل الحكومة، حسب كل مرحلة وخصوصياتها وما تستوجبه من مواكبة دائمة للمستجدات الوطنية والدولية كما قال الرئيس. وهو ما معناه أن الوزراء يصعدون الى مناصبهم، حسب مقاييس وطنية لا شخصية، وحسب ضرورات مهمة معيّنة في مرحلة معينة، تستوجب وجود عمرو كما يقال ومغادرة زيد، لأن الأول توفّرت فيه من المقاييس ما تجعله الأجدر من الثاني في المهمة المحددة والمرحلة المحددة، وغنيّ عن التذكير بأن الرئيس كثيرا ما عيّن وزراء انطلاقا من اطلاعه على ملف سيرتهم الذاتية، واختصاصاتهم العلمية، وقدراتهم العملية. وقد أثنى الرئيس في كلمته على أسلاف الوزراء الحاليين وكتاب الدولة، مؤكدا حرصه على إحاطتهم بالرعاية التي هم بها جديرون وعلى الاستفادة من تجاربهم في مواقع جديدة. ذلك أن قيمة الفرد لا تتأتّى بالضرورة من أهمية المنصب، وأن الذي كان يضطلع بمهام وزارية يمكن أن يضطلع بمهام أخرى لا تقلّ أهمية (بدورها) وطنيا، فالقدرة على العطاء والحماس لها والمثابرة فيها لا ترتبط بالمنصب الوزاري على أهميته ورنين صفته، فالمنصب يبقى في الأخير وظيفة ليس إلا. ثانيا: جدّد الرئيس التأكيد على أن الفريق الحكومي يعمل على تنفيذ السياسة العامة التي يضبطها رئيس الجمهورية في كل القطاعات والاختصاصات، فنحن في تونس يحكمنا نظام رئاسي يضطلع فيه رئيس الدولة بسلطات كثيرة، ويترأس فيه عدة مجالس عليا، وتطبّق فيه الحكومة برنامج الرئيس وسياسته، ولا وجود لمسؤول آخر يرتقي معه الى مستوى هذه السلطات، أو يقاسمه فيها نفوذا، فتلك طبيعة النظام الرئاسي التونسي الذي يلتقي ويختلف مع نظم رئاسية مشابهة في دول أخرى. ثالثا: حدّد الرئيس، وذكّر مرة أخرى، بدور الوزير الأول (وهو أيضا نائبه في مستوى رئاسة الحزب الحاكم) فهو الذي ينسّق ويتابع عمل التشكيل الحكومي، وهو المكلّف (دائما) في نطاق اختيارات رئيس الدولة بتيسير (لا تسْيير) عمل الوزراء في إنجاز ما هو منوط بعهدتهم وتوجيههم الى الحلول التي يمكن اتخاذها في حالة بروز اشكال أو صعوبة. والوزير الأول مكلّف أيضا كما قال الرئيس بتحقيق الربط والتكامل بين عدّة وزارات عندما يتعلّق الأمر بموضوع معيّن يتطلب توحيد الجهود والامكانيات في العمل الحكومي. وهنا يبرز الجزء التسييري في مهام الوزير الأول. رابعا: توسّع الرئيس في الحديث عن الوزير ومهامه وعلاقته بكاتب الدولة. وفي ذلك تذكير للوزراء ككلّ، وبسط للوزراء الجدد على وجه الخصوص لحقيقة مهامهم، ولجوهر مسؤولياتهم. فالوزراء كلّهم يتمّ اختيارهم من قبل رئيس الدولة، وهم مسؤولون أمامه وليس أمام أي مسؤول آخر، وهو وحده الذي يعفي أو يعيّن الوزراء، فلا شيء يتمّ في هذا المضمار إلا بإمرته وتحت إشرافه، ولا توجد من قوّة تنفيذية أو غير تنفيذية أخرى تشارك رئيس الدولة هذا الاختصاص. وهو كما قال الرئيس مطالب أن يقوم بواجبه حسب القانون والعرف وأيضا حسب الاجتهاد والاستنباط وحتى الابداع، إلا في الحالات الاستثنائية التي تكتسي صبغة دقيقة أو صعوبة معيّنة. خامسا: ذكّر الرئيس مرّة أخرى بما سبق أن قاله علنا في خطابه يوم 27 جويلية 2005، من ضرورة أن يبادر الوزير ويقلع عن التردّد في اتخاذ القرار بحجة انتظار التعليمات أو ترقّب صدور الأوامر، فهو مطالب باتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب بشأن المواضيع التي تعرض عليه، وذلك أداء لمهمته، ومسابقة للزّمن، وتحمّلا لمسؤوليته، وإلا فما هو دور الوزير؟ سادسا: بعد هذا البسط العميق لمهام كل الأطراف، ومنها مهام سيادته، عرّج الرئيس على مسألة جوهرية، وتلخيصها في شعار «رفع التحديات»، فمن الواجب قيام الوزراء بالتعبئة اللازمة لمباشرة الشعار، وتنزيله للواقع، والحرص على إنجاح التمشّي إليه. سابعا: بما أن المواطن هو غاية ووسيلة عمل السلطة، والنظام، والدولة بمكوّناتها، فقد وضعه الرئيس في لبّ كلمته، وطرح مشاغله وسبل تجاوزها أو تحقيقها على أعضاء الحكومة. بل ووضع تصوّرا عمليا لإلحاق ذلك المواطن مباشرة بمكتب الوزير. ومع المواطن دمج الرئيس الاعلام الذي هو تعبير عن الطرفين وهمزة وصل بينهما وأداة مفيدة لا داع للخشية منها، أو للتقليل من دورها واستنقاصه. وعموما يمكن القول إنه بكلمته الهامة والجدية وضع الرئيس أيضا حدّا لكل ذلك اللّغو الذي سبق ثم تلا وهنا وجه الغرابة التحوير الوزاري الأخير. فقد تواصلت القراءات الخاطئة للتحوير، وراجت قراءات حوله تشرحه عن غير وبغير مقاصده، وانساقت للتسلّي بما تعلم مسبقا أنه مجرّد حديث نفس ووساوس، بل ووصل بعضها الى حدّ الحديث عن موعد وأسماء التحوير القادم!