منذ جمعتني الصداقة بحسونة المصباحي في ثمانينات القرن العشرين ومنذ مجموعته القصصيّة «حكاية جنون ابنة عمّي هنيّة»، وأنا من قرّائه الأوفياء. أذهب إليه مطمئنّا إلى أنّي عاثر لديه على شيء من ذاتي وعصري، لقرب أعماله من ذات صاحبها وعصره، وأخصّ بالذكر رواياته «هلوسات ترشيش» و«الآخرون» و«وداعًا روزالي» و«نوّارة الدفلى» و«حكاية تونسيّة» وصولاً إلى روايته «رماد الحياة»، الصادرة عن منشورات وليدوف (2009. 184ص) في رواية «رماد الحياة» نتابع رحلة ياسين وهي تأخذه من بلاده إلى المنفى قبل أن تعود به إلى بلاده من جديد، ثمّ وهي تأخذه من أتون الأسرة والأهل إلى صقيع الغربة والترحال، قبل أن تعود به إلى ذئابه من جديد. وبين تقلُّب الأماكن وغدر الوجوه وانكسار الأحلام نقرأ جزءًا من تاريخنا المثخن هزائم، والذي لا يجد ياسين طريقًا للانبعاث منه في غير الكتابة. تلك الكتابة التي تعبّر عن «زمنيّة الرماد» وفق عبارة الناقد محمد برّادة، في سياق تثمينه للمدوّنة الروائيّة العربيّة التي اقتربت من «الشهادة» دون أن تبتعد عن الرواية، وعرفت كيف تصوّر فنيًّا وبإبداع واقع الاستبداد والتخلّف والخيبة والإحباط، كجزء من عناصر إعاقة الإنسان عن تحقيق إنسانيّته. ولعلّ من أجمل ما أعجبني في هذه الرواية، براعة صاحبها في صياغتها بحيث تبدو في الظاهر أكثر رواياته مرارة ويأسًا، بينما هي في عمقها أكثر أعماله سخرية وأملاً. ولا أبني ذلك على إحساس ياسين في خاتمة الرواية بأنّه «يولد مرّةً أخرى من رماد الحياة...ص180»، بقدر ما أبنيه على أنّ الرواية ككلّ ليست سوى صرخة استغاثة. وهل يستغيث من لم يكن محافظًا على بقيّة من رجاء؟ إنّها رواية غربة الذات عن المكان والزمان وفيهما وغربة الذات عن الذات وفيها. وهي أيضًا رواية كائن «وحيد كشجرة العرعر في مقبرة الدوّار...ص31» يبحث عن أنيس في وحدته. وهي أيضًا رواية البحث عن الحبّ الضائع. رواية كائن يجوب الآفاق «بحثًا عن الحبّ...ص62»، ويصرخ في البريّة تعبيرًا عن عطشه الهائل إلى الحبّ، ويكتب عطشه لعلّ أحدًا يحبّه ولعلّ بلادًا تحبّه مثلما يحبّ هو الناس والبلاد...إلاّ أنّه حيثما التفت لم يصادف غير وحوش كاسرة ولم يجد غير بلاد يأكل بعضها بعضًا كما تفعل القطّة المجنونة. شأنه في ذلك شأن الجميع بطريقة أو بأخرى. ممّا يأخذنا إلى علاقة الكتابة بالحياة. فليس من شكّ في أنّ رواية «رماد الحياة» تغري بالنظر إلى «بطلها» ياسين وكأنّه «قناع» لكاتبها حسونة المصباحي، إذ أنّها غنيّةٌ كسائر رواياته وأقاصيصه بروائح أماكنه ووقائعه الحميمة وإشاراته المباشرة أو الضمنيّة إلى أشخاص حقيقيّين، ممّا جعل الكثيرين يميلون إلى قراءة تجربته في ضوء سيرته. والحقّ أنّ في هذه القراءة الكثير من الظلم والاختزال. فحسونة المصباحي ليس من روائيّي التخييل المجرّد، إلاّ أنّه كثير التمرّد على شروط «الميثاق السير ذاتيّ» كما حدّده فيليب لوجون. وإذا كان لابدّ من البحث لهذه الرواية عن سياق عامّ يربطها بسائر أعمال حسونة فلنقل إنّه سياق «التخييل الذاتي». أي أنّنا أمام كاتب ينطلق من خطّ التماسّ بين ما هو سيرة ذاتيّة وما هو تخييل محض، ليمنحنا نصًّا مخاتلاً مفتوحًا على مختلف أنواع اللعب بتقنيات الكتابة، شاهدًا على صاحبه وعلى عصره، دون أن يجعل من تلك الشهادة هدفًا يقوم السرد على خدمته، بل راضيًا بها بوصفها إحدى غنائم الكتابة بما هي حوار مع اللغة أوّلاً وأخيرًا. واللغة في «رماد الحياة» بطل لا يقلّ محوريّة عن ياسين نفسه. فهي اللغة الأمّ التي يخاف أن يفقدها إلى الأبد، والتي كلّما اقترب منها «فرّت منه هاربة فلا يمسك منها إلاّ بالحطام...ص48». وهي السرّ الهارب أبدًا...فكيف له إذن أن يصلح أمر نفسه أو أمر العالم عن طريق «إصلاح أمر اللغة...ص55»، على مذهب صديقه يوسف؟ وهي قوام السرد ومداره...لغة فاتنة، متوهّجة، قريبة من حيويّة المشافهة، لكنّها لغة روائيّ وليست لغة حكواتيّ. أي أنّنا أمام كاتب يمتح من روافد الأدب الشعبيّ ويفيد من تقنيات المشافهة، إفادةَ المتعمّق في آداب العالم، المنفتح على المسرح والسينما والموسيقى والتشكيل، المتوغّل في ذاته حتى النخاع، المتمكّن من الأدوات الكفيلة بتحويل كلّ ذلك إلى تجربة، أي إلى أسلوب شخصيّ، في لغة خصوصيّة، من خلال نصّ مبنيّ بإحكام، يكاد يكون عملاً سمعيًّا بصريًّا، يضع صاحبه بين الكتّاب الذين في وسعنا أن ننسب إليهم أعمالهم دون أن نقرأ أسماءهم على الغلاف.