لقد كانت الأفعال النضالية لأهل البلدة وخاصة البحارة ضد الاستعمار الفرنسي متعددة حتى قبل ظهور عبد العزيز الثعالبي سنة 1920 ولعل أهم مثال على ذلك هو مشاركة عبد السلام بيّوض من حيّهم، وهو المعروف ب«الساحلي» في معركة الجلاز سنة 1911، وقد حكم عليه بالسجن بتهمة الاعتداء بالعنف على أحد الفرنسيين كما أن البحارة الذين عملوا في «الجيبيات» الإيطالية بسوسة انخرطوا في نقابة البحارة هناك ضمن الاتحاد العام التونسي للشغل وقد كان لهذه النقابة أدوار نضالية هامة ضد رأس المال الأجنبي (الإضراب والدفاع عن قوة العمل التونسي) قبل أن تقوم بدور مركزي في توجيه أحداث 22 جانفي في سوسة.. فقد تمرس بحارة طبلبة العاملون هناك بفعاليات العمل النضالي المنظم والواعي ونقلوا وعيهم إلى بقية زملائهم بالبلدة، أولى الأفعال النضالية المباشرة منذ يوم 18 جانفي كانت المظاهرات التي ملأت طرقات البلدة وإقامة السدود (برامل، حجارة...) على أطراف البلدة حتى شعر أبناء البلدة أن بلدتهم «مستقلة» أخيرا فليس هناك وجود استعماري يتحكم بها وهذا الشعور شحنهم بشجاعة كبرى فالمظاهرات وإقامة السدود وفرت الأرضية النفسية لمقاومة مدنية ولحرب شوارع نادرة في تاريخ الحركة الوطنية التونسية. في خطاب الزعيم الحبيب بورقيبة بالمنستير يوم 9 جانفي، أعطى إشارة الانطلاق للاستقلالية النضالية لكل البلدات التونسية فكل مدينة وقرية وريف ستفكر في إبداعها النضالي ولقد أفرز الإطار النحلي الطبلبي وخاصة البحارة فكرة «الكمين» ضمن حرب شوارع التي تكونت من عامل واع هو أنّ بعض قادة المعركة، كانوا من المجندين سابقا في الجيش الفرنسي فأرادوا استيحاء ما عاشوه من أساليب خططية، رغم أنهم كانوا في الحروب الامبريالية مجرد منفذين بطريقة غير دقيقة ومن عامل لا واع هو الميراث التقاني التقليدي للسماكين (كمائن، الأسماك...) وكانت الوسائل المتوخاة بضع بنادق وبضعة مسدسات، والفلفل الأحمر لإلقائه على عيون الجنود الداخلين للبلدة... لكن الأهم والأنجع في هذه الوسائل هو «العصبان» لقد كانت الخطة بسيطة جدا خطان متوازيان على طول الطريق من مدخل القرية من جهة المكنين إلى وسط البلدة «السفرة» يرميان «العصبان» على طابور الجنود الفرنسيين عند وصول مقدمتهم إلى «السفرة» إنها خطة ضعيفة عسكريا لأن رماة هذا الخط قد يصيبون رماة الخط المقابل ولكن هذا الضعف التقني غطي بعنصر المفاجأة والاندفاعية الوطنية المتأججة بالروح الدينية. الانتقام الاستعماري يقوم الاستعمار على منظومة عنف كبيرة وعمل «بلا كلل على تحطيم صور الحياة الاجتماعية لدى السكان الأصليين وخرب بلا قيود طراز الاقتصاد وأشكال المظهر والملبس... وأصبح الدركي والشرطي في المستعمرات هما المرجع القيم الشرعي الذي يستطيع المستعمر أن يرجع إليه وأن يخاطبه فاستفزاز الدرك والجنود لأهل طبلبة ومن ثمة لكرامتهم وهويتهم يوم 18 جانفي كان المثير المباشر لحركة 23 جانفي، فكانت هذه الإبداعية في المقاومة خاصة أن زعيم الحركة الوطنية أشار بالربعة النضالية لكل بلدات الوطن في اجتماعه بالوطنيين يوم 9 جانفي بالمنستير، وباعتبار أن المقاومة كانت مقاومة بلدة، قبل أن تكون مقاومة عدد محدود من المسلحين فقد كان الانتقام الاستعماري عنيفا، ترهيبا وترويعا ومحتشدا حيث التعذيب على مرأى من الأطفال والأمهات، وحيث قضاء الحاجات الطبيعية على عين المكان في محاولة لإجبار السكان على الإدلاء بأسماء المقاتلين وأماكن فرارهم، وقد نال البحارة النصيب الأوفر من هذا الانتقام الاستعماري لأنهم أصحاب السلاح الأنجع في الواقعة، أي «العصبان» فلقد وقع الاحتفاظ بهم في «المحتشد» يوما إضافيا. إن أهمية حركة 23 جانفي 1952 لا تكمن في الجانب الأحداثي فيها فحسب بل في ما تحمله من مخزون نفسي واجتماعي ونحلي متميز فلقد استطاعت الخطة البسيطة والمحدودة في حد ذاتها (فهي ليست عسكرية بأتم معنى الكلمة) واستطاعت الأسلحة البسيطة والمحلية المحدودة أن توقع بالعنف الاستعماري خسائر فادحة لأنها لا تشتغل بمحدوديتها بل مخزونها الرمزي والاجتماعي الضخم ولكن ما يهم في هذه الحركة هو تفرد البلدة بحرب الشوارع المدنية في تاريخ الحركة الوطنية التونسية، وما يهم هو مقاومة 3000 مدني مسلح أي جل الذكور البالغين وهو عدد يدل على إجماع رفضي بين جل السكان، أي على نجاح الوطنيين في نشر الوعي السياسي والنحلي وثقة الناس فيهم وليس الهام في عدد القتلى الفرنسيين بل الهام هو قدرة قرية على إجبار مفرزة استعمارية على التراجع عن عزمها على الذهاب إلى المهدية للتراجع من جديد إلى المكنين باعتبار أن قدرات المفرزة عاجزة عن مواجهة «قرية متمردة» كما جاء في تقرير قائدها يوم 13021952.. بل الهام هو قدرة قرية على فضح العنف الاستعماري وتعرية حقيقة الدعاية التحديثية والديمقراطية الفرنسية إذ سقط المستعمر في إجراءات مضادة لحقوق الإنسان، ولشرف المحارب (تعذيب وحشي، قتل الشيوخ والنساء، ومحتشد لقرية كاملة، سجن نساء لا ذنب لهن سوى أنهن زوجات مناضلين، ترهيب الجميع، محاربة السكان في قوتهم وعولتهم وإهانتهم...) وإلى حد أن عدد الجنود أصبح في شهر فيفري 1952 أكثر من عدد السكان: 10 آلاف مقابل 7 آلاف. لقد أثبتت هذه البلدة قدراتها التاريخية بهذا الزخم التضحوي الوطني غير المحدود، وبذلك أثبتت أنها تحمل ميراثا رمزيا وإمكانيات إبداعية ضخمة وقد كان لهذه الحركة الأثر الكبير في إحراز الاستقلال بعد مدة ليست بالكبيرة ولذلك ليس من الغريب أن يكون أحد مناضلي البلدة، عضوا بالمجلس التأسيسي، وبأول برلمان بالدولة الوطنية (فرج جمعة، الكاتب العام لشعبة الحزب الدستوري الجديد). (لطفي بن عمر جمعة) عن كتاب «التحولات النحلية في الاجتماع المحلي التونسي الحديث» للدكتور عادل بالكحلة