تضمّن مشروع الميزانيّة الفيدراليّة لسنة 2011 التي اقترحها باراك أوباما على الكونغرس مفاجأة من الوزن الثقيل: التراجع عن برنامج «كوكبة النجوم» الذي كان أطلقه سلفُه دابليو بوش بهدف إرسال أمريكيّين إلى القمر مرّة أخرى، ومن ثمّ تنظيم رحلات إلى المرّيخ. هكذا إذنْ: لم يجد الرئيس الأمريكيّ بدًّا من دعوة شعبه إلى التخلّي عن شجون القمر من أجل التفرّغ إلى شؤون الأرض. وليس ذلك بالأمر الهيّن. فالقمر رمز كبير في نظر شعب تحكمه الرموز. لا مستحيل في شريعة الكاوبوي. وكلّ شيء ممكن. حتى غزو القمر. ذلك الحلم الذي دغدغ في المواطن الأمريكيّ إحساسه بالقدرة على تحويل كلّ أحلامه إلى واقع. حتى بات هو نفسه في نظر الكثير من سكّان العالم، صورة نمطيّة عنوانها «الحياة على الطريقة الأمريكيّة». والحقّ أنّ الكثير من الأحلام الأمريكيّة مسروق من أحلام البشريّة ككلّ. من ذلك غزو الفضاء واستكشاف الكواكب والطلوع إلى القمر تحديدًا. لذلك سهل على الجميع التماهي معها. ولا شكّ في أنّ معظمنا يذكر يوم 21 جويلية 1969، ويحتفظ في حديقته الحميمة بمشهد نايل أرمسترونغ وكلماته وهو يخطو تلك الخطوة الصغيرة بالنسبة إلى بشر، الكبيرة بالنسبة إلى البشريّة. إنّ الذهاب إلى القمر والعودة إليه حلمنا نحن أيضًا. وكنّا سعداء بأنّ تتكفّل «الدولة العظمى» بتحقيقه نيابةً عنّا. من ثمّ قد يكون التخلّي عن هذا الحلم جرحًا جماعيًّا وليس أمريكيًّا محضًا، وقد يكون بداية الثلم الحقيقيّ في التمثال الأوباميّ الذي أُقيمَ بسرعة قياسيّة، ولأسباب لا تتعلّق بأفعال صاحبه على أرض الواقع، بقدر ما تتعلّق بموهبته في بعث الأحلام إلى درجة الإيهام. ولو أردنا الاتّكاء على االتراجيديا لقلنا إنّ البطل شرع في تحطيم تمثاله بنفسه. ولا شكّ أنّه سيكتشف قريبًا انعكاس ذلك على شعبيّته داخل أمريكا قبل غيرها. كان في وسعنا طبعًا أن نلتمس له الأعذار لو رأيناه يتخلّى عن «حُلْمنا» من أجل إصلاح أمر الواقع. إذ لا معنى للتنافس على غزو القمر، بالمقارنة مع الحاجة إلى توظيف الجهد والمال من أجل تغيير حقائق الأرض، ذات الطعم المرّ، بسبب الاستعمار الجديد والاستبداد التليد والفقر والبطالة والتلوّث والأزمات الماليّة والاقتصادية والطاقات المهدورة في أكثر من حرب وعلى أكثر من جبهة. كان في وسعنا التخلّي عن هذا الحلم لو لم يكن الدافع مشبوهًا. فالأرجح أنّ هذا التخلّي تمّ لحاجات في نفس أوباما، من بينها أنّه يحتاج في 2010 إلى 33 مليار دولار للخروج بشكل مقبول من أفغانستان. ويحتاج في 2011 إلى 584 مليار دولار كميزانيّة لوزارة الدفاع، ربّما لتمويل حرب ممكنة على إيران. وأيًّا كان الأمر فإنّ من الصعب التوفيق بين هذه الاستحقاقات الأرضيّة والاستمرار في تمويل حلم سماويّ. غداةَ فوزه بالرئاسة وفي هذه الزاوية تحديدًا، سمحتُ لنفسي بالتغريد خارج السرب متوقّعًا أن تسير الأمور على غير ما توهّم أغلبُ المهلّلين، زاعمًا أنّ تغيّر الألوان في البيت الأبيض قد يكون أقرب إلى الخدعة السينمائيّة، هذا إن لم تكن السياسة البيضاء في حاجة إلى قناع أسود لتنطلي على أشدّ المتحفّظين. وها هو زعمي يصدق للأسف. وكأنّ على كلّ رئيس أمريكيّ جديد أن يتخلّص من بعض حروب سلفه، ليبحث لنفسه عن حروبه الخاصّة. طبعًا لم ينس أوباما طمأنة النازا ومن ورائها قطار اللوبيات المؤثّرة، مؤكّدًا تركيز الجهد على استكشاف المرّيخ. ولا أدري إن كان منتبهًا إلى الحمولة الرمزيّة لكلماته، وكم هي أفضل شرح لتخلّيه أيضًا عن المسألة الفلسطينيّة. أليس القمر رمزًا للأمومة والأخوّة والوفاء والحبّ؟ أليس المرّيخ إله الحرب في الأسطورة؟ هي إذنْ العودة من قمر السلام إلى أرض الحرب...بإمضاء صاحب جائزة نوبل للسلام!!