كل عام وأنت بخير، هكذا يقول أحدنا للآخر، ولا يهم إن كان الواحد منا بخير حقّا أو «يشهق ما يلحق». وكم يبدو لي الأمر صعبا أكثر فأكثر ونحن نتبادل مثل هذه الأمنيات سنويا، على خلفيّة من الحروب والمجاعات والمجازر تتصاعد وتنخر العالم. في مثل هذه اللحظات أحسد سكان المريخ الذين لا يضطرّون الى تبادل مثل هذه الأكاذيب الا مرة كل 687 يوما، وهو عدد أيام السنة المريخية. لا أدري لماذا قفز المريخ الى ذهني الآن؟ ربما لأنه إله الحرب في الأساطير الرومانية القديمة التي يُعاد زرعها في الواقع هذه الأيام. ربما لأن هذا الكوكب الأحمر قد بلغ في المدة الأخيرة أقرب نقطة له من الأرض منذ العصر الحجري، فإذا هو في متناول الخيال، (أتذكّر فيلم سجلاّت مريخية لراي برادبوري، وما روي من أعاجيب عندما بثّت احدى محطّات الراديو حلقات حرب العوالم المأخوذة من قصة ه .ج. ويلز) وربما أذكر هذا الكوكب الآن، لأنه ساحة معركة حاضرة قادمة، وكأني بأوروبا في حربها «المزمنة» على عدوّها الحميم، قد وجدت الفرصة سانحة كي تسجّل هدفا في المرمى الأمريكي بإرسال مركبة الى المريخ، تصاحب احتفالات أعياد الميلاد هذه السنة. أسهبت الفضائيات في الحديث عن المريخ طيلة الأيام الماضية، وتابعت ابنتي (ككل المخلوقات التلفزيونية الحديثة) باهتمام شديد وقائع «الغزوة» الأوروبية لسطح ذلك الكوكب الأحمر المحاط بالأسرار، وإذا صحّ أن ذلك لم يفلح في صرف الأنظار عمّا يحدث على سطح الأرض، فقد أفلح في جعل ابنتي تسألني طيلة الأسبوع الماضي (الأسبوع الأخير من السنة الماضية) عن كوكب المرّيخ، وعن مخلوقاته العجيبة، وعن صحّة اكتشاف بحر هائل من الجليد يختفي تحت سطحه.. سألتني عن المركبة الفضائية التي تقترب من الكوكب وعن «الروبوت» الذي سيحطّ على سطحه وكيف سيهبط؟ وبأي طريقة سيرسل الصور؟ وكان عليّ أن أجيب وإلا فقدت أسطورتي كمخزن للعلم والمعرفة. لكن صمت المركبة «بيغل « نغّص على الجميع (أنا وابنتي والأوروبيين) فرحتهم. لم يرسل «الروبوت» أي إشارة. هل تحطّم على سطح الكوكب؟ هل وقع في فوهة بركانية عميقة؟ هل عجزت ألواحه الشمسية عن الانتشار؟ لا أحد يعرف حقيقة الأمر حتى الآن، الا عبدكم الفقير طبعا، إذ لما كانت «الآنسة» ابنتي لا تتصوّر أن لا يملك والدها «العالم العلاّمة» الإجابة الشافية عن كل سؤال، فقد اضطررت للبحث في الأمر حتى اهتديت الى ما لم تهتد اليه مسابر العالم مجتمعة. كان المريخيّون قد شاهدوا المركبة الأرضية تقترب من سطح كوكبهم، فاجتمعوا للنظر في الأمر. رأى بعضهم أن الوقت مناسب لربط علاقات مع الأرضيّين، لكن أغلبهم رفض ذلك خشية أن تسري اليهم عدوى الأمراض الأرضية. ويبدو أن أحد زعمائهم أشار ناحية الأرض وانخرط مع جماعته في سلسلة من السين والجيم: سين : أليس هذا هو الكوكب الذي جاءتنا الأخبار بأن الإنسان فيه ذئب لأخيه الإنسان؟ جيم : هو ذاك. سين : ماذا تفعل أكبر ديمقراطية أرضية هذه الأيام؟ جيم : إنها مشغولة بحربها ضدّ الإرهاب. سين : فكيف تخوض هذه الحرب؟ جيم : تقول للعالم إذا لم تكن معي فأنت ضدّي، وإذا كنت ضدّي فأنت ضدّ الخير، وإذا كنت ضد الخير فأنت ارهابي، وإذا كنت ارهابيا فليس لك حق، ومن حقي باسم الضرورة الأمنية أن أضعك في السجن دون محاكمة، وأن أصادر حرية تعبيرك، وأن أشدّد عليك الرقابة، وأن أغتصب ثرواتك وأجمّد أموالك بما يناسبني، وليس لك أن ترفض، إذ لا حجّة في هذا الزمن الا للقوة، ولا يكفي أن تكون على حق كي تكون الأقوى. بل عليك أن تكون الأقوى، كي تكون على حق. سين : إذن فما الفرق بين هذه «الديمقراطية» وأولئك الطغاة؟ أليس هذا عين ما يفعلون؟ وما الخير في انفتاحنا على مثل هذه المخلوقات وأي نفع سيكون؟ ويبدو أن الإجابة كانت سهلة، فقد انقضّ الجميع على الروبوت «بيغل 2» عفسا ورفسا، وهو الآن ملقى أشلاء في مكان ما من المرّيخ، فيما ظلّت العيون المريخية تترصّد أي مركبة أرضية أخرى تقتفي أثره، كي تجعلها تعرف نفس المصير. هكذا يسلم المريخيّون وهكذا قد يكون لهم كل سنة جديدة، أن يقول بعضهم لبعض حقّا، وليس على سبيل المجاز، كل عام وأنتم بخير...