يشير الهادي خليل منذ المقدمة الى أن كتابه الجديد الموسوم ب «مدوّنة السينما التونسية» الصادر عن المركز الوطني للترجمة شكل من أشكال الاعتراف بالجميل للسينما التونسية التي قدمت له الكثير «فاستلزم ذلك أن يعاملها بالمثل» أي أن هذا الكتاب خطاب حب يُزجيه للسينما التونسية مع كل ما ينطوي عليه خطاب الحب من عبارات الشوق والحنين والاطراء والتنويه. يُدرس هذا الكتاب أربعة عقود من السينما التونسية، أي من سنة 1967 تاريخ ظهور أول شريط تونسي الى سنة 2008 تاريخ «ظهور عدد مهمّ من الاشرطة الروائية» وقد قسّم الهادي خليل عمله الى أجزاء أربعة: الستينات والسبعينات: فترة التأسيس. الثمانينات والتسعينات: سينما المؤلف. قضايا وأعلام وإشكاليات. رجع الصدى: الالتزام المغاير. هذه الفصول (أو الاجزاء على حد عبارة الكاتب) نهضت بدورين اثنين: التأريخ للسينما التونسية، وتأمّل مختلف مراحلها، مستقصية أهم العوامل السياسية والثقافية التي تحكّمت في نشأتها وتطوّرها. تحليل أهم أشرطتها ودراسة بناها وشبكاتها الدلالية الحافة، وتمفصلاتها الناظمة لموادها التعبيرية المختلفة، متأنية لدى أساليبها وطرق إخراجها. وقد عوّل الهادي خليل، في كل هذه الاجزاء، على ذائقة أرهفتها ثقافة سينمائية باذخة، وعلى فطنة ونباهة في قراءة الصورة قلما توافرتا في ناقد آخر. لكن هذا لا يعني أن الكتاب مجرد انطباعات وخواطر، إنه، ككل الاعمال النقدية المهمة، قد جمع بين النفس «الاكاديمي» و«القراءة الذاتية» فكان عملا علميا رصينا و«فعلا حميميا» في آن يتفحّص المسائل تفحّص استقصاء ونظر ويتفاعل مع النماذج السينمائية تفاعل حب وافتتان. لهذا لا نكتشف في هذه الاجزاء «المقروء» فحسب (أعني السينما التونسية) وإنما نكتشف «القارئ» أيضا (أقصد الهادي خليل) في الجزء الاول يشير الكاتب الىأن البداية الفعلية للسينما التونسية كانت مع شريط «الفجر» لعمار الخليفي، هذا الشريط الذي أراد أن يدفع الصورة الى أن تقول المدينة، كل المدينة وهي «في حالة توثّب وغليان» تريد مقاومة المستعمر. يرفض الهادي خليل ادعاء البعض بأن هذا الشريط كان بوق دعاية. كل ما في هذا الشريط يقوّض، في نظر الكاتب، هذا الادعاء ويدحضه. شريط «الفجر» هو شريط المقاومة، والتوق الى الحرية والاعتراف بالجميل لمناضلين مجهولين. لكن أهم أفلام حقبة الستينات يظلّ شريط «خليفة الأقرع» لحمودة بن حليمة. هذا الشريط كان «تدشينا» لسينما تونسية حاورت الرواية واستشرفت طرقا في التعبير جديدة، بل ربما ذهبنا، وهو ما لم يقله الهادي خليل، أن هذا الشريط هو الذي منح السينما التونسية لغتها وهويتها... وكذلك أسئلتها. مع هذا الشريط ستسعى السينما التونسية الى فتح الغرف السرية التي أمعنت المؤسسة في غلقها تعفّفا أو ترفّعا أو بحثا عن سلامة موهومة: غرف الغريزة والحاسة والجسد. أما شريط «سجنان» الذي ظهر في بداية السبعينات فيعتبره الهادي خليل منعرجا حاسما في السينما التونسية إذ عمد الى الانشقاق عن التاريخ الرسمي وكتابة تاريخ آخر مختلف، أبطاله من أفراد الشعب والطبقات العاملة. لكن الشريط لا يصوّر «الخارج» فحسب، وإنما يصوّر «الداخل» أيضا، داخل الفرد وما يعتلج فيه من مشاعر وأحلام. الشريط كل الشريط، حركة ذهاب وإياب بين أحلام الجماعة وهواجس الفرد. ثم يقف الكاتب منبهرا أمام شريط «العرس» للمسرح الجديد، واضعا إياه «في أعلى هرم السينما الجادة الريادية» فهو «شريط مدمّر وانتهاكي على أكثر من مستوى» يصوّر بتقنيات سينمائية ومسرحية مجتمعة، رجالا جوفا، مُلئوا قشّا على حد عبارة اليوت فاكتفوْا بارتداء الاقنعة استبدلوا بها وجوههم الحقيقية. لا شيء، في هذا الشريط، غير صور الاحباط والهزائم تتوالى. فقد هرمت الاجساد وانطفأت جذوة الارواح ولم يبق غير الكلام يرتفع عاليا. في الجزء الثاني يتناول الهادي خليل بالتحليل أشرطة كثيرة من بينها شريط «صمت القصور» هذا الشريط الذي اتخذ من الصمت لغة له، فالنساء لم يجدن في الكلام ما يفصح عن غضبهن. فاكتفين بالنظرات تتحوّل الى جمرات متقدة فالعيون هي التي تتكلم، في هذا الشريط، وليست الحناجر. ثم ينعطف على أشرطة أخرى عديدة مثل «ريح السد» و«حلفاوين» و«السامة» يقرؤها كلها قراءة عاشقة فيها افتتان، بالصورة، وفيها توطؤ مع كل صنّاعها، وفيها على وجه الخصوص انبهار العاشق وذهوله أمام ما يحب... ومن يحب.