الله سبحانه وتعالى يبتلي عباده المؤمنين ليظهر ما في نفوسهم من الخير، ويرفع درجاتهم عنده، ويكفر عنهم سيئاتهم، وهذه الشدائد التي تعتري المسلم والمسلمين هي خير لهم في الحقيقة «عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سرّاء شكر فكان خيرا له وإن إصابته ضرّاء صبر فكان خيرا له» رواه مسلم. وعندما تنزل الشدائد بالمسلمين، فإن الله ينزل من المعونة على قدر البلاء، كما قال عليه الصلاة والسلام: «إن المعونة تأتي من الله على قدر المؤونة وإن الصبر يأتي من الله على قدر البلاء» رواه الرافعي. وفي رواية: «وإن الصبر يأتي من الله على قدر المصيبة» (رواه الحكيم الترمذي والبزار والبيهقي في الشعب). وتدور على المسلمين رحى الحروب، وكيد الاعداء، ويتجمع عليهم معسكر الشر، ويكون في ذلك شدة ومصائب تنزل، ولكن هذه الشدائد لا تخلو من فوائد ومن ذلك: * انتظار الفرج، وترقب انكشاف الغمة من الله تعالى: قال تعالى: {فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا}. وهذا الترقب والانتظار لابد أن يكون مصحوبا من المسلمين ببذل الاسباب لكشف البلية، وأخذ ما يمكن أخذه لدفع المصيبة، وتخفيف آثارها، ولكن ينبغي ألا يغيب عن بال المسلمين أن انتظار الفرج عبادة عظيمة وباب أجر عظيم من الله. * وهذه الشدائد تدفع العباد للتعاون على البر والتقوى: فيظهر من صور الايثار ما يظهر، ويظهر أنواع من بذل المعروف لم تكن معروفة، لكن الشدة التي تجمعهم في المصيبة تقرّب بين نفوسهم، وتظهر روح الاخوة بينهم، بل تزيل كثيرا من العداوات الشخصية التي كانت في نفوسهم، وتجعلهم متحدين أمام الخطر والعدو الذي نزل شره، وهكذا يتوحد المسلمون في المصيبة ما لا يتوحدون في غيرها، ويظهر من آثار البذل والتعاون والايثار ما لم يكن ذلك يظهر من ذي قبل وقد ظهر في المسلمين من الخير من حفر الخندق وهذه القوة العجيبة التي عملوا بها يدفعهم في ذلك الايمان ونصرة دين الاسلام، والدفاع عن حريم المسلمين، ومدينة النبي صلى الله عليه وسلم، فحفروا ذلك الخندق في أيام معدودات حفروه بالرغم من البرد القارس، والمساحة الطويلة التي شقوا فيها ذلك الخندق كيلومترات بعمق يفترض أن لا تعبره الخيل وتقفز من فوقه وعرض، وهكذا كان ذلك الخندق بين الحرتين. * والشدائد تجعل الناس يتقاسمون فيما بينهم أموالهم: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الأشعريين وهم قوم أتوا مسلمين من اليمن إذا أرملوا في الغزو أي فني زادهم وكان الواحد قد التصق بالرمل من القلة أو قلّ طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد كل المدخرات تخرج وتجمع ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية فهم مني وأنا منهم» رواه البخاري ومسلم. وهكذا المواساة في الشدائد، والايثار في أوقات المحنة. * في الشدائد يفزع الناس الى الله، ويؤوبوا اليه، ويتوبوا اليه، ويتضرعوا اليه: {فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرّعوا}... (43 سورة الانعام). ولذلك حكت لنا كتب التاريخ الاسلامي عند خروج النار بقرب المدينة في الحجاز وهي من أشراط الساعة ورأى الناس ببصرى الشام بعيدا عن المدينة أعناق إبلهم على ضوء نار الحجاز، وكانت تحرق الحجارة وتذيبها، وحصل زلزال عظيم، وفزع الناس، ودخلوا كلهم الحرم والمسجد النبوي، واستغفروا وأنابوا الى الله، ولهجت الالسن بالدعاء، وأمير المدينة أعتق جميع مماليكه، وخرج من جميع المظالم، ولم يزالوا مستغفرين حتى سكنت الزلزلة. والشاهد: كيف ان الناس فزعوا الى ذكر الله ودعائه، ودخلوا الحرم، واجتمعوا فيه يلهجون الى الله بلسان المضطر أن يذهب عنهم الضر. * وكذلك من الآثار العظيمة بالنسبة للشدائد: أنها تربي جيلا قويا، قادرا على المواجهة بعد أن تذهب جيلا في الميوعة والانحلال والمهانة: فلما رفض بنو اسرائيل دخول الارض المقدسة، وقالوا بكل وقاحة: {قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ماداموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون (24) قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين (25) قال فإنها محرّمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الارض فلا تأس على القوم الفاسقين (26) (سورة المائدة). ولذلك مكث بنو اسرائيل في صحراء التيه يخرجون من الصباح للبحث عن مخرج ومنفذ فلا يأتي عليهم غروب الشمس إلا ويجدون أنفسهم في ذات المكان الذي بدؤوا منه البحث أربعين سنة يتيهون في الارض، لا يجدون مسلكا يخرجون منه، ولا يهتدون الى طريق يخرجهم من ذلك التيه، وكان من الحكم في هذه الشدة التي نزلت بهم: أن يذهب ذلك الجيل ويموت، الذي رفض دخول الارض المقدسة، وتقاعس عن قتال الجبارين، ذلك الجيل الذي كان تربى في ظل فرعون على الذل والمهانة، والاستعباد، والطغيان، لم يكن يصلح للفتح العظيم، ولذلك فسدت فطرتهم، فشاء الله أن يبقى في هذه الصحراء ليموت فيها، ويخرج جيل جديد، وأربعين سنة كفيلة بذهاب جيل ومجيء جيل آخر، قد تربى في شدة الصحراء، وهذه الظروف الصعبة، ليكون فيما بعد أهلا لأن يدخل الارض المقدسة، عاشوا في جو الخشونة، صلب عودهم، وجاؤوا على غير النموذج الذي كان عليه آباؤهم، فكانوا أهلا للفتح بأمر الله. * فمن فوائد الشدائد: إذ أنها تربي جيلا جديدا، جيل المحنة المؤهل للنصر، لان الجيل الذي قبله أفسده الذل، والاستعباد، ولربما يكون في بعض البلدان، والاماكن، والازمان، أفسدته الميوعة والانحلال، والمعاصي والترف، فلا يكون أهلا للنصر، فيبتلي الله المسلمين بالشدائد، قد تطول سنين لكي تذهب آثار الميوعة والانحلال، فيخرج بعد ذلك خلقا آخر، أو يكون من بعده جيل آخر يكتب الله الفتح على أيديهم. * ومن فوائد الشدائد: التمحيص، وظهور الحقائق، وانكشاف البواطن: تمييز المسلم عن المنافق، والمنافق عن المسلم: {ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب} (179 سورة آل عمران). جزى الله الشدائد كل خير وإن كانت تغصصني بريقي وما شكري لها إلا لأني