لم يخل عصر من العصور منذ أن خلق الله تعالى السماوات و الأرض إلى قيام السّاعة من الخير و الشرّ، " و لن يخلو " من فريقين من الجنّ و الإنس، هما: المؤمنون و الكافرون، أو أهل الخير و أهل الشرّ. و لو تأمّلنا في قصص من قبلنا من المخلوقات الإنسيّة، لوجدنا المشهد نفسه يتكرّر بين الفريقين، فأهل الخير يعرفون أنّهم أهل الخير، و لكن أهل الشرّ لا يعرفون أنّهم أهل الشرّ، بل يظنّون أنّهم هم قوى الخير، و يقومون بمحاربة أهل الخير و يتّهمونهم بأنّهم قوى الشرّ، حتّى لو كانوا أنبياء و رسلا من عند الله تبارك و تعالى..! و هذا ما كان يحدث مع كلّ نبيّ و رسول مع قومه الكفّار الأشرار الذين يحاربونه هو و أتباعه، و يتّهمونهم بأنّهم أشرار و أصحاب ضلال يستحقّون القتل أو السجن و التعذيب أو الطرد من الدّيار، كما قال الشّاذون القذرون فيما ذكره الله تعالى عنهم: أخرجوا آل لوط من قريتكم إنّهم أناس يتطهّرون.! فالطّهارة عن الشّذوذ و النجاسات التي يمدح الله عليها تصير شيئا مرفوضا سيّئا و شرّا بنظرهم يستحقّ الإخراج من البلد، أمّا الشذوذ و ارتكاب الرجل الفاحشة مع رجل مثله فهو بنظرهم خير و حرّية و حقّ من حقوق الإنسان يستحقّ عليها التقريب و الاحترام.. و يتّهمون رسول الله و أتباعه بأنّهم حاسدون لهم و كارهون، و أنّهم مفسدون في الأرض، كما قال فرعون الملعون عن موسى عليه السلام و قومه المؤمنين المسلمين من بني إسرائيل فيما ذكره الله تبارك و تعالى عنه: ذروني أقتل موسى، و ليدع ربّه، إنّي أخاف أن يبدّل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد.. ففرعون يعتقد بأنّ موسى و المؤمنين هم من أهل الشرّ، و يخاف أن يبدّلوا الدّين و يفسدوا في الأرض!! لأنّ فرعون يظنّ نفسه و قومه على دينٍ صحيحٍ، و أنّهم أهل الخير و الرّشاد، و لهذا يقول لقومه بلهجة جبريّة " دكتاتورية " فيما ذكره الله عنه: ما أقول لكم و أشير عليكم إلاّ ما أراه لنفسي، و ما أدعوكم إلاّ إلى طريقِ الحقِّ و الصّدقِ و الرشدِ، و أنّ من لم يكن معنا و يتبعنا و يسلك سبيلنا فهو ضدّنا و عدوّنا !! و لهذا لمّا كان موسى عليه السلام و قومه ضدّهم اجتهد فرعون في محاربتهم و تعذيبهم و إذلالهم، و لمّا رحلوا عنه لم يدعهم و شأنهم، بل خرج هو و جنوده في مطاردتهم، و أسرع إلى اللّحاق بهم وهو يحسب أنّه يحسن صنعا، و لم يدر هذا الكافر البغيض أنّه يُسرع إلى حتفه و الغرق في البحر، ليجعل الله تبارك و تعالى منه عبرة لمن خلفه من الحكّام الكفرة الظلمة الذين يسيرون على نهجه و يتبعون طريقته في الحكم و إرغام الناس على ما يرونه صحيحا و راشدا، في حين أنّه الكفر و الضلال، و الكذب و الإفك و البهتان.. و قد اتّهم المشركون محمّدا صلى الله عليه و سلم بالسحر و الكذب، لكونه دعاهم إلى عبادة الله الواحد الأحد و نبذ ما يعبدون من الآلهة التي يصنعونها بأنفسهم من الخشب و الحجارة..فقالوا: أجعل الآلهة إلها واحد، إنّ هذا لشيء عُجاب.. فالشرك و عبادة الأصنام و الآلهة المتعدّدة، هي باعتقادهم دين سليم صحيح، فظنّوا أنّهم هم أهل الخير دون غيرهم!! أمّا رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي بلّغهم بأنّ الله ربّ العلمين و فاطر السماوات و الأرض هو واحد و لا إله غيره، فهو بنظرهم قد اختلق هذا الأمر، لأنّه يريد الشرف و الاستعلاء، و أنّ ما جاء به هو شرٌّ و أنّ من يتبعونه من الناس هم أهل الشرِّ!! هكذا كان الموقف دائما بين المؤمنين الأخيار و الكافرين الأشرار، و سيظلّ الموقف نفسه يتكرّر في كلّ عصر و في كلّ بلد إلى آخر الزمان، فمن سنّة الله سبحانه: " و تلك الأيّامُ نُداولُها بين الناسِ و ليعلم اللهُ الذين آمنوا و يتّخِذ منكم شُهداءَ و اللهُ لا يُحِبُّ الظّالمين ٭ و ليُمَحِّصَ اللهُ الذين آمنوا و يمْحَقَ الكافرين ٭ أمْ حسبتم أن تدخُلُوا الجنَّة و لمّا يعلمِ اللهُ الذين جاهدوا منكم و يعْلَمَ الصّابرين ٭. ( سورة آل عمران الآيات: 140/142 ) . فالله تعالى يسلّط على المؤمنين المسلمين الأعداء تارة، و إن كانت لهم العاقبة لما له سبحانه في ذلك من الحكمة، ليرى من يصبر على مناجزة الأعداء، و يتّخذ منهم شهداء يُقتلون في سبيله و يبذلون نهجهم في مرضاته، و ليكفّر الله عنهم من ذنوبهم إن كانت لهم ذنوب، و إلاّ رفع لهم في درجاتهم بحسب ما أصيبوا به. و يمحق الكافرين، فإنّهم إذا ظفروا بغوا و بطروا، فيكون ذلك سبب دمارهم و هلاكهم و محقهم و فنائهم. أم حسب المؤمنون أن يدخلوا الجنّة و لم يُبتلوا بالقتال و الشدائد ؟! لا...! لا يحصل لهم دخول الجنّة حتّى يُبتلوا، و يرى الله من هم المجاهدون في سبيله، و الصابرون على مقاومة الأعداء. و لهذا يقول الحقّ تبارك و تعالى مُسلِّيا للمؤمنين: " و لا تهِنوا و لا تحزنوا و أنتم الأعْلَوْنَ إن كنتم مؤمنين ٭ إن يمسسكم قَرْحٌ فقد مسَّ القومَ قرْحٌ مثله ". ( سورة آل عمران الآية: 139/140 ) . أي: لا تضعفوا بسبب ما جرى، و لا تحزنوا و أنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين، فالعاقبة و النُصرة لكم أيّها المؤمنون، إن كنتم قد أصابتكم جراح و قُتِل منكم طائفة، فقد أصاب أعداءكم قريب من ذلك من قتل و جراح. ( تفسير القرآن العظيم لابن كثير ج1: ص417 ). نعم.. لقد قضى الله و حكم في سابق علمه، بأنّ النصرة و الفوز في النهاية دائما للمؤمنين المسلمين: " إنّا لننصُرُ رُسُلنا و الذين آمنوا في الحياة الدنيا و يوم يقوم الأشهادُ ". ( سورة غافر الآية: 51 ). " كتب اللهُ لأغلبنّ أنا و رُسُلي ". ( سورة المجادلة الآية: 21 ) . و أنّهم لا يُغلبون، بل إمّا يُقتلون أو يَغْلِبون: " و من يُقاتل في سبيل الله فيُقتل أو يَغْلبْ فسوف نُؤْته أجرا عظيما ". ( سورة النساء الآية: 74 ). فإمّا الشهادة و إمّا النصر، و هما الحسنيان: " قل هل تَرَبَّصون بنا إلاّ إحدى الحُسْنَييْنِ و نحن نتربّص بكم أن يصيبكُمُ الله بعذابٍ من عنده أو بأيدينا فتربّصوا إنّا معكم مُتربِّصون ". ( سورة التوبة الآية: 52 ) . و أنّ من يحارب الإسلام و أهله قد يربح جولة أو معركة، و لكنّه لا يمكن أن يربح حربا نهائية عليه. و الآيات في ذلك كثيرة، و لمن لا يؤمن بها فأمامه تاريخ الأمم السابقة الذي يشهد بذلك و يؤكّد هذه الحقيقة. إذا.. ففي نهاية المطاف يفصل الله – عزّ و جلّ – بين الفريقين، فيُنزل عذابه على الكافرين الأشقياء الأشرار، ثم مأواهم النّار، التي إذا غُمِسَ فيها غمسة واحدة أنعم إنسان في الدّنيا، من أهل النار، ثم قيل له: هل رأيت خيرا قطّ ؟ هل مرّ بك نعيم قطّ ؟ يقول: لا، و الله يا ربّ! وينجّي المؤمنين الأبرار الأخيار، و ينصرهم على أعدائهم، ثمّ يدخلهم الجنّة، التي إذا غُمِس غمسة واحدة أشدّ المؤمنين ضرّا و بلاءً و بُؤْسا من أهل الجنّة، ثم قيل له: هل رأيت بؤِْسا قطّ ؟ هل مرّ بك شدّة قط ؟ يقول: لا، و الله ! يا ربّ! ما مرّ بي بُؤْس قطّ. و لا رأيت شدّة قطّ. ( هذا معنى حديث نبوي شريف أخرجه مسلم في كتاب صفة القيامة، باب صبغ أنعم أهل الدّنيا في النار ).