ينعقدُ اليوم في رحاب مجلس النواب حوار مع الحكومة حول القطاع الفلاحي ، وهو الحوار الأوّل الّذي سيجري في إطار الإجراءات والتراتيب الجديدة التي أقرّها مكتب رئاسة المجلس رغبة في إثراء هذه الآلية الدستورية والارتقاء بها إلى الأهداف المرجوّة وإحكام المزيد من الدقة والتركيز في الحوار البرلماني مع الحكومة. ومن الصدف ربّما أن يكون التعرّض إلى القطاع الفلاحي في فاتحة هذا التوجّه الجديد وذلك بحكم ما لهذا القطاع من أهميّة خاصة وهو الّذي ما انفك يعرفُ الصعوبات والتحديات رغم الإرادة السياسية التي ما فتئت تقرّ الإجراءات والمبادرات لتطوير هذا القطاع وتخليصه من السلبيات الّتي علقت به لعقود طويلة. مفارقات ومشاغل ربما يكون من المفارقات التي نعيشها في تونس أنها وعلى الرغم مما لها من رصيد تاريخي مزهر في القطاع الفلاحي حوّلها في أزمنة قديمة الى أن تكون «مطمور روما» بما في ذلك من مدلولات للخيارات الوافرة وتواتر الإنتاج الكثيف، فإنها تعرف وباستمرار العديد من الأزمات البعض منها أصبح مستفحلا وداء عُضالا ومن نتائجه إلى جانب ارتفاع الأسعار والضرر بالقدرة الشرائية للمستهلكين التشكيات الدائمة لأهل المهنة الذين لا يهدأ لهم بال ولا يهنأ لهم حال. ومن الوجيه أن يطرح الحوار البرلماني المقرّر لنهار اليوم أسئلة واستفسارات عميقة تهم «نجدة» القطاع الفلاحي والبحث عن مسالك وطرق وآليات لإخراجه من الدوامة التي هو واقع فيها، ومن ابرز ما يُمكن أن يُطرح في هذا الصدد تقييم مواطن الخلل والوقوف عندها بجرأة وشجاعة: هل الخلل في التوجهات العامة واستراتجيات العمل أو هي في أدوات الإدارة والتنفيذ أو هي في كفّة المهنيين وأحوال السوق؟ لا ينكر أحد الأهمية التي تعاطت بها الحكومة منذ سنة 1987 مع القطاع الفلاحي ، ويكفي للتدليل على ذلك أنّ السيد رئيس الدولة أقرّ على مدار العقدين ونيف الماضيين ما يربو عن 1400 قرار وإجراء يهم القطاع، وما يطرحه عديدون في باب التقييم وربما ما كان هو بذاته مطلبا في العديد من المرات من الأخصائيين هو مدى امتلاك وزارة الإشراف والهياكل التابعة لها لجرد مفصّل لمختلف عمليات التنفيذ التي شملت تلك القرارات والإجراءات والتدخلات الرئاسية ومدى النجاعة الحاصلة منها، وهي نجاعة وإن كانت مؤكدة لأن العديد من تلك التدخلات كانت ظرفية وعالجت أوضاعا صعبة يمرّ بها الفلاحون من فترة إلى أخرى ومكّنتهم من تجاوز صعوبات ناجمة عن تحولات المناخ وأحوال الطقس في العديد من المناسبات، غير أن التساؤل يبقى منهجيا حول أسباب عدم التنفيذ الجيد للعديد من التوجهات من قبيل ملف مديونية القطاع مع البنك الوطني الفلاحي ومعضلة الصيد البحري والزراعات الكبرى ومنتوجات أساسية كالبطاطا والحبوب وزيت الزيتون واللحوم والحليب. قرارات وجرد مفصّل وزارة الإشراف مُطالبة في نظر العديدين بتقديم جرد مفصّل لمآل ما يُقارب ال1400 تدخل رئاسي لفائدة القطاع، جرد يتضمّن طرق التصريف والإدارة ويكشفُ وبالأرقام عن الحصاد المتأتي من كل ذلك بعيدا عن لغة الأرقام «المنتفخة» والجداول المعبّأة لأن الواقع ومعطياته الموضوعية لا يحتملان ذلك النوع من الأرقام والجداول. ومن المهم هنا وفي باب المصارحة والتطارح العملي لا الشعاراتي القول إنه ورغم تتالي الدراسات والجلسات والإحصائيات والسجلات فإن فلاحتنا تراوح مكانها من الأزمات والقلاقل، وبرصد موضوعي لمعطيات الواقع الفلاحي اليوم يُمكن تسجيل المشاغل التالية والتي لا يُمكنها أن تكون محلّ اختلاف أو تباين من أي كان: 1 غلاء مستلزمات الإنتاج واستغلال المحتكرين والتجار للظروف الصعبة خلال المواسم. 2 تأخر تجسيم الإجراءات والقرارات وبالتالي المنح والتشجيعات. 3 عدم استجابة الفلاحين وخاصة الصغار منهم لضرورة الانضواء تحت هياكل فلاحية وتكوين مجامع مهنية وشركات تعاونية للضغط على كلفة الانتاج والاستفادة من التجارب. 4 فقدان الفلاحين للثقة في الإدارة وبالأخص في المؤسسات البنكية وأهمها البنك الوطني الفلاحي وبالتالي تراجع معاملات الفلاحين مع البنك والتأمين معا. 5 تشتت الملكية وتناقص مساحات المستغلات الفلاحية من عام إلى آخر. 6 نقص اليد العاملة المختصة وغياب الرغبة في ممارسة الأنشطة الفلاحية خاصة من قبل الشباب. 7 غياب استراتيجيا فعالة للتحكم في فوائض الإنتاج خلال مواسم ونقص الإنتاج في مواسم أخرى على غرار البطاطا والحليب. 8 عدم ترقيم القطيع التونسي وهو ما لا يُساعد على المحافظة على الثروة الحيوانية. 9 محافظة الجزء الأكبر من الفلاحة التونسية على طابعها التقليدي والأسري وانحصار المناحي العصرية فيها لدى فئة قليلة جدا. انتظارات واستفسارات ومن المؤكد أن «نواب الشعب» مُطالبون بطرح مثل هذه الهموم والمشاغل الفلاحية على السيّد وزير الفلاحة الذي هو مدعوّ كذلك الى الإجابة عنها بوضوع ودقة متناهية ناهيك وأن البلاد تستعدّ لبدء تنفيذ برنامج رئاسي طموح عنوانه «معا لرفع التحديات» بآلية المخطّط التنموي المتحرّك 2010 2014 وهو البرنامج الذي تضمنت محاوره الاستراتيجية الكبرى (النقطة 20) «قطاع فلاحي يواكب التحوّلات المناخية ويرفع تحديات المرحلة»... ليسأل النواب بعمق وجدية لكي يجيب الوزير بدقة وتركيز وتتوضّح الأمور وتتبيّن مسالك الإصلاح والتطوير.