كلّما حلّت ذكرى المولد النبوي في صباي فرحت بها مع جملة فتيان العائلة والحي فرحا لا يوصف لأنها إشارة انطلاق لأفراح وليال ملاح وأكلات لذيذة تدوم أسبوعا كاملا يبتدئ بنصب علائم الزينة وتزويق السوق حيث دكان جدي ويشمل عطلة مدرسية مطولة وسهرات ذكر وإنشادا لفرق المولدية والقادرية والعزوزية وغيرها. يخضع سوق الزنايدية العامر بمقامات ثلاثة صلاح وجامع كبير رغم قصر مساحته لعملية تنظيف وغسل شاملة قبل أيام ثم يغط بقباء احترازا من مطر مفاجئ تعلق فيه الثريات والمصابيح الملونة وتكسى الجدران بالستائر والزرابي تتنازل عنها ربّات البيوت لمدة الاحتفال إكراما للعيد ومحبة للرسول الكريم كما يأتي كل صاحب دكان بأفخم أثاث بيته من أرائك ومساند ومقاعد وثيرة حتى يصير السوق كغرفة العروس في ليلة زفاف. وفي كل سهرة نملأ نحن الصغار أولا جانبا من المقاعد وبعد أن نشبع من تبادلها والتقافز عليها يتوافد جمهور الساهرين والذاكرين حتى يغص بهم المكان تجلس عندئذ في الصدارة فرقة الإنشاد وتصدح حناجر الجميع بالبردة أو الهمزية. كيف ترقى رقيّك الأنبياء يا سماء ما طاولتها سماء تلي كلا منهما سلسلة قصائد جماعية ومواويل فردية تلهب العواطف فتحتقن أوداج وتحمرّ عيون وقد ينفر الدمع من شدة الوجد. هذا بعض ما اختزنته الذاكرة من احتفالاتنا قديما بالمولد النبوي إضافة إلى طعوم لذيذة حلوة مازال يحتفظ لساني بذكراها من أثر «العصيدة المعروكة» يسيل على جنباتها السمن والعسل أو «البازينة» الرخوة يكسوها الزيت والسكر على عادة أهل بنزرت وأريافها أو من أثر «العصيدة بالرغيدة» ثم «عصيدة الزقوقو والبوفريوة» لما انتقلنا إلى الحاضرة وأخذنا بعاداتها وجميع هذه المظاهر سواء كانت مادية أو روحانية تشهد بالاهتمام الخاص الذي توليه البلاد التونسية منذ القديم لذكرى المولد النبوي إذ تمنحه وهجا خاصا وتتخذه وسيلة تعبير عن إخلاصها للدين المحمدي ومحبتها لصاحبه عليه الصلاة والسلام الذي يعتبر الضمير الشعبي الإسلامي مولده نذيرا بزوال دولة الشرك والظلم وبشيرا بنشر الحق والخير والعدل بين الناس. إلا أن هذا العيد رغم توهجه العاطفي وقيمته الروحية ودوره في الإنعاش الاقتصادي أيضا لم يكتسب الشرعية الدينية الرسمية ولا اتفقت عليه كلمة علماء المسلمين بل على العكس من ذلك اختلفت الآراء حوله فأضافت شاهدا جديدا على شتات أمة الإسلام واتخاذ كل شريحة من نسيجها لموقف من تطبيقات الدين في الحياة اليومية بحسب نزعاتها التقليدية وثقافتها الموروثة حتى ولو تعلق الأمر باحتفال ديني أو عادة من العادات البريئة التي لا تمس الدين في جوهره. فهذا الحافظ السخاوي يذكر في فتاويه أن «عمل المولد الشريف لم ينقل عن أحد من السلف الصالح في القرون الثلاثة الفاصلة» وإنما حدث بعد ذلك وبناء عليه لا يجيزه الوهابيون من أمثال ابن باز والعثيمين والفوزان وغيرهم كما يعتبره متزمتو أهل السنة بدعة باطلة وقد أوردت الأخبار أنه لم يقع الاحتفال بالمولد النبوي إلى حدود القرن الرابع الهجري وأن انبعاثه تم على يد الشيعة. ويذكر المقريزي أن أحد وزراء ا لفاطميين أبطل أمر الموالد الأربعة التي كان يحتفل بها في مصر على أيامهم وهي النبوي (مولد الرسول) والعلوي (مولد الإمام علي) والفاطمي (مولد السيدة فاطمة) والإمام الحاضر (مولد حاكم ذلك العصر) فاستنكر الأساتذة الأمر لدى الخليفة الآمر بحكم الله فأجابهم بالعودة إليها. هكذا يتضح أن عادة المولد بدأت مع الفاطميين في مصر وأوقفها الأيوبيون الذين خلفوهم لكنها عادت زمن حكم المماليك فأخذها عنهم الأتراك العثمانيون وتعصبوا لها ولهم قصيدة شبيهة بالبردة تدعى «وسيلة النجاة» تتكون من 800 بيت نظمها شاعر تركي من القرن الخامس عشر تزدان بها كل البيوت في تركيا ويتوسل بها في الأفراح والعزاء فشاع التقليد في سلطنتهم الواسعة. يميل أهل المغرب العربي إلى ما درج عليه الأتراك وأهل السنة المعتدلون في الاحتفال بمولد النبي الكريم إعلانا عن محبتهم له وإذكاء لوهج تلك المحبة كل عام وفي الفقرة التالية المنقولة عن كبير علماء الجزائر الشيخ البشير الإبراهيمي أكمل تعبير عن ذلك الميل إذ يقول «إحياء ذكرى المولد النبوي إحياء لمعاني النبوة وتذكير بكل ما جاء به محمد ے من هدى وما كان عليه من كمالات نفسية فعلى المتكلمين في هذه الذكرى أن يذكّروا المسلمين بما كان عليه نبيهم من خلق عظيم وبما كان لديهم من استعلاء بتلك الأخلاق لهذه الناحية الحية نجيز إقامة هذه الاحتفالات ونعدها مواسم تربية ودرس وهداية والقائلون بكونها بدعة إنما تمثلوها في الناحية الميتة من قصص المولد الشائعة وبهذا الرأي الصائب يعطي الشيخ الإبراهيمي مثالا جديدا على اعتدال أهل المغرب ووسطيتهم وبحثهم الدائم عن المقاصدية في كل ما يؤدون.