من حقّ الأغنية الملتزمة الجميلة أن تحزَنَ لرحيل أحد عمالقتها...جان فيرا...الذي ترجّل هذه الأيّام عن قرابة الثمانين عامًا، تاركًا رصيدًا ثمينًا من الأعمال التي أرّخت لهواجس صاحبها وهوسه بالحبّ والجمال والعدل والحريّة، وعرفت كيف تشهد على عصرها، وكيف تعبّر عن جيل كامل، بل عن أجيال متعاقبة، رأوا فيها أروع تجلٍّ لِمَا يعتمل في عقولهم وقلوبهم من حبٍّ وغضب واحتجاج وآلام وأحلام. وُلِد جان فيرا سنة 1930. وعانى الكثير في طُفولته...وكاد يذهب ضحيّة النازيّة في أربعينات القرن العشرين لولا إنقاذه من طرف مناضلين شيوعيّين...ومارس العديد من المِهن اليدويّة قبل أن يلمع نجمُه في الغناء في أواخر الخمسينات وخاصّة في ستّينات القرن العشرين...ثمّ سرعان ما توالت أعماله الناجحة دون انقطاع...وظلّ محافظًا على شعبيّته حتى بعد انسحابه من ساحة «الشوبيز» منذ قرابة الثلاثين سنة، احتجاجًا على غلبة النزعة التجاريّة الاستهلاكيّة. أذكُرُ حتّى الآن تلك القشعريرة التي كانت تنتابني وأنا أستمع لأوّل مرّة إلى أغنيةٍ من أغانيه، خاصّة منذ نهاية السبعينات: «المرأة مستقبل الرجل»، «الجبل»، «الحبّ حتى الجنون»، «بوتمكين»، «ليل وضباب»، «ماذا أكون بدونك؟»، «لست سوى صرخة»، «رفيقي»، «اللحظات المسروقة»...أغانٍ لاعبة، جادّة، ساخرة، حالمة، صارخة، هامسة، عاشقة، شاهدة، مُفكّرة، وفي عبارة مختصرة: أغان جميلة...ليس في وسعك أن تضعها في خانة...وليس في وسعك أن تحصرها في غرض. نفس القشعريرة كانت تنتابني وأنا أستمع إلى أغاني جورج براسينس وليو فيري وجاك برال وبوب ديلان، وغيرهم من الفنّانين الذين نشأتُ مع جيلي في كنف كلماتهم وأنغامهم...فإذا هم يفتحون أُذنيَّ على غناء ذي معنًى وموقف، ويؤكّدون لي بأنّ الأغنية الحقيقيّة لا تقلّ إيحاءً عن الشعر والفنّ التشكيليّ، ولا تقلّ إبداعًا عن الرواية والمسرح والسينما...ولعلّي مدين إلى هؤلاء بالكثير من دوافع انفتاحي، بعد ذلك، على خوض مغامرة كتابة الأغنية جنبًا إلى جنب مع القصيدة. في تلك الأيّام، ولم يتغيّر الأمر كثيرًا في أيّامنا هذه للأسف، كنّا نستمع إلى الأغنية العربيّة فنكاد نتخاصم نهائيّا معها، لولا قلّة قليلة من التجارب التي عرف أصحابُها كيف ينطلقون من هاجس فنيّ، وكيف يتعاملون مع شعراء...أمّا أغلب ما كنّا (ومازلنا) نسمعُ فابتذال وهبوط وإسفاف باسم الأغنية العاطفيّة...أو ذرٌّ للرماد في العيون بواسطة خُطَبٍ مملّة تحت تسمية الأغنية الاجتماعيّة...أو رفعُ عتَبٍ عن طريق مارشات عسكريّة بدعوى الأغنية الوطنيّة... فإذا استمعنا إلى جان فيرا وزملائه، اكتشفنا أنّ في وسع الأغنية أن تتمرّد هي أيضًا على الغرضيّة...وأنّ الطربَ ليس بالضرورة غيبوبةً عن العالم...وأنّ الإيقاع ليس بالضرورة تدويخًا للموقف...وأنّ الجمال ليس بالضرورة مناقضًا للالتزام...وأنّ في وسع الغناء والموسيقى أن يمنحا الشعرَ أجنحة أخرى تمكّنه من الوصول إلى أبعد ممّا تصل القصيدة. كان جان فيرا مثل زملائه، شاعرًا قادرًا على الكتابة لنفسه...إلاّ أنّه مثلهم، كان يعرف أيضًا كيف يضع صوته وألحانه في خدمة كبار الشُعراء...فإذا نحن نستمع إلى قصائد بودلير ورامبو وأبولينير وأراغون وغيرهم، مُغنّاةً ملحّنة كأروع ما يكون الغناء والتلحين، فنكتشف أنّ في وسع الفنّان الحقيقيّ أن يُحوّل أكثر القصائد صعوبة وتمنّعًا، إلى أغنية شعبيّة بالمعنى النبيل العميق للكلمة. يستطيع جان فيرا أن يترك قيثارته اليوم. يستطيع الفارس أن يترجّل بعد أن حاول طيلة مسيرته تحقيق تلك المُعادلة الصعبة باهظة الثمن، التي لم يسر أحدنا في طريقها إلاّ تعِبَ: أن يلتَزِمَ دون أن يُفرّط في حريّته، وأن يحافظ على استقلاليّته دون استقالة من متطلّبات المُواطَنة، وأن يكون راقيًا دون نُخبويّة وشعبيًّا دون شَعْبَويّة... يستطيع أن يرحل مطمئنًّا إلى انتصاره. مطمئنًّا إلى انتصار الأغنية الملتزمة لدى أغلب شباب الأغنية العالميّة، بما في ذلك نجوم البوب والراب...إذ يندر أن نستمع إلى أغنية ناجحة هذه الأيّام لا تتضمّن دفاعًا عن قضيّةٍ من قضايا الإنسان...حتى وهي تتغنّى بالحبّ... باستثناء مُعظم الأغنية العربيّة طبعًا!! خاصّة تلك التي تتربّع على مشهدنا السمعيّ البصريّ...والتي لا تتجاوز تعميم الغيبوبة باسم حبٍّ لا علاقة له بالحبّ!!